جدتي...ام امي
لم اكن اناديها جدتي..لانها لم تكن بالنسبة لي جدة..كانت ام لذلك كنت اناديها امي..ليس ماما ولكن امي
تقول ماما اني بدأت انادي امي زينب بهذا الاسم عندما تركتني معها لمدة ثلاثة اسابيع وذهبت للحج..عادت لتجدني اقول..امي..كما يقولها أخوالي وخالاتي
لا ادري السبب الحقيقي الذي دفعني للكتابة عنها فأمي زينب من الاشياء المدفونة عميقا في روحي..لا احد ممن اعرفهم يعرف عنها اقل القليل لاني لم اكن اتحدث عنها كثيرا..ربما كنت اخاف ان اخطئ في تذكر تفصيلة من تفاصيلنا الكثيرة معا عندها سأعرف يقينا ان رحلة النسيان قد بدأت
تقول ماما اني اشبهها كثيرا...يقول الجميع اني اشبهها كثيرا في كل شئ
في طريقة تعاملها مع الحياة.. في حسن النية القريب جدا من السذاجة مسيطر على كل تصرفاتها...في"نفسها" في الطبخ..في تفننها في اختراع أكلات جديدة او قضائها فترة الصباح بأكملها في المطبخ لمجرد تطوير اكلة قديمة لا نحب طعمها... في اهتمامها بأقاربها وصديقاتها وحملها "الملاية اللف" بمجرد سماع خبر موت احد معارفها او مرضه او ربما حزنه حزن طفيف
كانت امي زينب سيدة عادية..لم تكمل تعليمها او بالاحرى لم تبدأه قط..تزوجت في سن صغيرة من ابن عمها بالطبع..ام لثلاث اولاد وثلاث بنات تحتل ماما المرتبة الثانية بينهم ..عاشت كل حياتها في حي السيدة زينب..لم يكن بيتها كبيرا ولم يكن يحتوي على حديقة..كان صغيرا وقديما "اثري" ككل شئ تقريبا في ذلك الحي...ولكنه كان رحبا جدا بالنسبة لي لاني لم اكن احتل الا جزء صغير جدا هو حضن امي زينب...حضنها الذي كان يعبق دائما برائحة الصندل ومسك خفيف...حتى هذا المكان كان رحبا جدا بالنسبة لي
عندما كنت اتخيل معنى كلمة دفء..كنت اتخيل بيت السيدة..وامي زينب واقفة في المطبخ تسلق ثلاث دجاجات من الدجاج الذي تربيه فوق السطح..كانت هوايتها الوحيدة هي تربية الدجاج والبط والحمام و الاوز...والذي لم يكن مسموحا لاحد بأكل اي شئ منه ان لم اكن موجودة..وفي كل سنة في شهر رمضان كانت امي زينب تشتري فانوس رمضان وتحتفظ به لي به فوق "بلتكانة" الستارة...يظل الفانوس في مكانه هذا الى ان يحين موعد وصولنا في الصيف..عندها فقط كان الفانوس يتحرك من مكانه..اعتقد اني لم افرح بشي بقدر فرحتي بهذه الفوانيس المؤجلة
اليوم...وجدت صورة قديمة لي وانا حديثة الولادة وامي زينب تحملني وهي فخورة وكأنها تحمل جائزة ما...كانت مبتسمة ولكن اثر الدموع في عينيها كان واضحا..هكذا كانت..تبكي وهي سعيدة..وتبكي وهي حزينة..هذا شئ انا اكيدة تماما اني ورثته منها
اليوم ايضا..بكيت عندما لم اقدر ان استعيد ملامح وجهها وابتسامتها بدون الرجوع لتلك الصورة
عانت امي زينب كثيرا من ظلم بعض الناس لها ومن مرارة بعض الاحزان ومن فراق من تحبهم....ولكني لم ارى احدا يسكن في قلبه هذا الكم من الرضا كما رأيته يسكن قلبها...ولم اعرف معنى كلمة رضا كما عرفتها من امي زينب...لم تكن تدعي الرضا ولكنها بالفعل كانت راضية عن كل شئ حتى اخطائها...كانت خالتي-عندما تغضب منها- دائما تطلب منها ترك تلك السلبية والتصدي لمن يريد اذيتها واذية اولادها..وعندما ترى خالتي انه لا فائدة من الحديث وتذهب..كنت اسألها "ليه يا أمي مش بتعملي زي ماخالتو بتقول علشان متزعلش منك"
كانت تنظر الى السماء وتتمتم ببعض الادعية...عندها كنت أرى نظرة الرضا تلك في عيناها.. اذكر انها كانت تحتضنني بشدة اكبر وتصمت..وحدي كنت اعرف انها لن تفعل شيئا سوى البكاء فيما بعد بمفردها..وحدي عرفت انها كانت تنتظر قوة اكبر منها ومن الجميع
في ذلك الشتاء كانت مدينة الرياض ابرد من العادة...في ذلك الشتاء تلقينا خبر موت امي زينب..وقتها كنت في الصف الاول اعدادي فقط...
انهارت امي تماما ولم يكن بمقدورها ان تشرح لي او لسارة معنى الموت... ولكني فهمت بمفردي معنى الموت..موتها هي بالذات..ادركت بدون مشقة انها ذهبت الى السماء التي كانت تنظر اليها كثيرا عندما تبكي ..
ماتت امي زينب وهي لم ترى معظم اولادها..بسبب السفر والغربة..ماتت وانا لا أملك منها الا صورة قديمة لي ولها..وتهويدة حفظتها منها..اغنيها لجميع احفادها الذين ولدوا بعد ان ذهبت
.وعندما سألتني سارة بكل براءة "هو في ايه؟"
"امي ماتت ياسارة".."انا مش بحب الغربة ياسارة علشان امي ماتت واحنا مش معاها"
"يعني ايه غربة دي؟"
"غربة يعني حد بتحبيه قوي قوي يموت وانتي متقدريش تحضنيه وتبوسيه"