Friday, August 29, 2008

رواية غير المضحوك عليهم

video

Sunday, August 24, 2008

رواية غير المضحوك عليهم


عن "دار هلا للنشر والتوزيع" بالقاهرة؛ صدرت مؤخرا رواية "غير المضحوك عليهم". وهي الرواية الثانية لكاتبها ياسر منجي؛ الروائي والفنان التشكيلي والناقد، الذي يعمل مدرسا بقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، والذي سبق وأن أصدر في العام الماضي روايته الأولى "مولد سيدي بسيسة".
والرواية هي الأولى في استلهام اشتباكات العلاقة بين يهود مصر وغيرهم من الطبقات والشرائح والقوى الاجتماعية خلال فترة الخمسينيات من القرن المنصرم؛ حيث تطالعنا ذكريات أفراد عائلتي "حوطر" المسلمة و"عقيبا" اليهودية بمنطقة "سوق اللبن" بمدينة "المحلة الكبرى"، والتي يسوقها الكاتب بأسلوب الراوي العليم

الموقع التالي مخصص للرواية:

Friday, June 13, 2008

قضايا شائكة لقرن منصرم (التأثر – الاقتباس – الانتماء)

شكل رقم 24- نانسي جروسمان، رسم
شكل رقم 23- سامي محمد، تصوير
شكل رقم 22- سامي محمد، نحت برونزي

شكل رقم 21- نانسي جروسمان، نحت برونزي

شكل رقم 20- نانسي جروسمان، رسم تحضيري


شكل رقم 19- نانسي جروسمان، نحت في خامات مختلفة
شكل رقم 18- نانسي جروسمان، نحت في خامات مختلفة


شكل رقم 17- سامي محمد، صبرا و شاتيلا، نحت برونزي

شكل رقم 16- سامي محمد، الشلل و المقاومة، نحت برونزي

شكل رقم 15- جان إيفريت ميليه، أوفيليا، تصوير زيتي

شكل رقم 14- نذير نبعة، تصوير زيتي
شكل رقم 13 - إدوارد بورن جونز، تصوير زيتي

شكل رقم 12- دانتي جابرييل روسيتي، تصوير زيتي

شكل رقم 11- نذير نبعة، سوريا

شكل رقم 10- صورة ضوئية لإحدى مخطوطات علم الفلك العربية
شكل رقم 9- شاكر حسن آل سعيد، رسم.

شكل رقم 8- شاكر حسن آل سعيد، استلهام المربع السحري، تصوير زيتي
شكل رقم 7- صورة ضوئية لصفحة من كتاب عن السحر الشعبي

شكل رقم 6- رمبرانت، رجم القديس ستيفان، تصوير زيتي

شكل رقم 5- صليبا الدويهي، الرجم، تصوير زيتي
شكل رقم 4- عمر الأنسي، التلصص على المستحمات، تصوير زيتي

شكل رقم 3- تينتوريتو، سوسنة و شيخا السوء، تصوير زيتي

شكل رقم 2- بوتيتشيللي، مولد فينوس، تصوير زيتي

شكل رقم 1- عمر الأنسي، فينوس
مقدمة:

قد لا تكون مبالغة كبيرة إذا ما تم وصف القرن العشرين على أنه (قرن القرون في تاريخ الوعي العربي)، و ربما لا يكون من باب الشطط الزعم بأن مواده الوثائقية و التاريخية في شتى المجالات كفيلة بطرح عدد لا حصر له من النتائج و الفروض و صياغة نظريات تأويلية قد تصل إلى درجة التناقض، فيما لو تم فتح أبواب الاجتهاد على مصاريعها أمام الباحثين للتوفر على دراسة و تحليل المواد المشار إليها.
و قد لا تنطبق المقولات السابقة على أي من مجالات الفكر و الثقافة قدر انطباقها على الفنون التشكيلية، و ما يوازيها و يتصل بها و يتفرع عنها من خطابات و نصوص و إبداعات معنية بالتأريخ و التنظير و النقد و الاستلهام... الخ؛ فالقرن العشرين لم يكن محض انطلاقة تاريخية في بداياته – كما اطمئن لذلك غالب المؤرخين – للفنون التشكيلية بمفهومها الحديث في الواقع العربي فقط، بل كان – و بالدرجة الأولى – قرنا حافلا بالتداعيات اللاهثة و التحولات صاروخية الإيقاع، إلى الدرجة التي أدت إلى إفراز مشهد فسيفسائي متباين التوجهات على المستويين الإبداعي و النظري في الواقع التشكيلي العربي، متباين إلى الدرجة التي كفلت تجاور المتناقضات و توازي المتضادات خلال العقود الأخيرة للقرن المذكور في السياق الفني بأسره، مما أدى بالجميع إلى استشراف القرن الحالي بالتطلع إلى أفق من التحولات السائلة عديمة الإيقاع، غائمة الفلسفة فاقدة الوجهة و التوجه.
و خلال اشتباكات القرن المنصرم نشأت و تكونت و وفدت على الواقع التشكيلي عشرات من التوجهات و المذاهب و المدارس و الجماعات الفنية، و التي ألقى كل منها بحجره على سطح بحيرة الوعي البصري التي ظلت ساكنة لمئات من السنين.
و كما لم تتسم العلاقة بين تلك التوجهات و المذاهب و المدارس و الجماعات بسمة الثبات أو الاعتدال، لم تقتصر تلك العلاقات كذلك على محض تسجيل تواريخ من الصراعات و القضايا المشتعلة و الجدال و التناحر؛ و إنما ساهمت من خلال تفاعلها في الكشف عن عدد من القضايا التي و إن كان منشؤها نفسيا إنسانيا بالدرجة الأولى، إلا أنها كانت بالغة الأثر في تشكيل المشهد الفني كما نراه و نعيه حاليا؛ فمن خلال هذه القضايا الساخنة كالتأثر و الاقتباس و الانتماء يمكن بجلاء أن نخلص إلى عديد من النتائج الكفيلة بتفسير عدد كبير من الظواهر التي ظلت معلقة في فضاء الواقع التشكيلي حتى الآن، بل إنها لجديرة أيضا بفعل العكس؛ حيث يمكن من خلال ذات النتائج أن نصوغ عددا من الأسئلة التي يصح أن تكون مفتتحا لأفق الرؤية التي نستشرفها في باطن القرن الوليد.
و تأتي أهمية القضايا المشار إليها (التأثر – الاقتباس – الانتماء) من حيث كونها بالدرجة الأولى من صنف القضايا المسكوت عنها، نظرا لما يتصل بها من موضوعات و اعتبارات مثيرة للحرج و باعثة على توخي الحيطة و مراعاة أصول العلاقات الإنسانية طبقا لما تذهب إليه أصولنا و أعرافنا الشرقية، خاصة حينما يتعلق الأمر بكشف بعض الحقائق التي قد يكون من شأنها أن تهبط بمكانة البعض أو تكون سببا في الهبوط بأسهمه في سوق البيع و الشراء.
غير أنني أرى – و قد أكون مخطئا وفقا للاعتبارات المشار إليها – أن التناول العلمي المحايد يفرض علينا شجاعة الطرح، و يقتضينا سماحة القبول و الاعتراف، ما دامت القرائن حاضرة و الشواهد ماثلة.
فليس مدار الأمر هنا أن نخوض في موضوعات ملتهبة من باب السير على خطى بعض التوجهات الإعلامية الفضائحية؛ بقدر ما هو حرص على إبراء الذمة أمام التاريخ من تهم الغفلة و التواطؤ و ترك السياقات لنموها العشوائي، فلو حدث و تغاضينا بدوافع الحرج... فلن يتحرج التاريخ فيما بعد من إدانتنا جميعا.
التناص مع الآخر أم استبدال النص البصري؟... مرجعيات الرواد العرب
اتسمت الأكثرية الغالبة من أدبيات الفنون التشكيلية العربية خلال القرن الماضي بطابع إرسال الأحكام المطلقة و إطلاق النتائج المعممة و التقييمات ذات الطابع الكلي؛ و ذلك فيما يتعلق بتناولاتها لإنتاج الرواد الذين تنتصر لهم و تنادي بأوليتهم على حساب من عداهم من فنانين آخرين.
و تشهد هذه المبالغات الكلية حضورا متساويا؛ سواء لدى أنصار معسكر الأصالة و التراث أو أنصار معسكر الحداثة و المعاصرة، حيث يرى متعصبو كل فريق من الفريقين أن رواد فريقه إنما يصدرون في إبداعاتهم عن قرائح فذة ملهمة، لا تدين لمرجعية من المرجعيات بأية مؤثرات من شأنها أن تمثل روافد إيعازية للتناول الموضوعي أو الصياغة التقنية؛ فهم يمثلون لدى الغلاة من نقاد و منظري معسكر التراث و الأصالة استمرارا لسلسلة العباقرة من مبدعي العرب المتتابعة حلقاتها منذ عصور العرب العاربة، تلك السلسلة التي لا تلتفت و لا تأبه بالتحاور مع أي خطاب حضاري و إبداعي مغاير؛ كونها تمتلك في تكوينها ذلك السر القمين بتنصيبها دوما في مكان الريادة شريطة أن تحافظ عليه كما انحدر من لدن الآباء الأولين؛ سر النص البصري المعادل لخصوصيتها الحضارية و المترجم عنها. و قد يتحلى غير الغلاة من نقاد و منظري ذات المعسكر بشيء من الاعتدال و الوسطية؛ و ذلك حين يذهبون مذهبا وئيدا – مع التمسك في ذات الوقت بفكرة عبقرية الرواد المطلقة -، و ذلك حين يقررون أنه برغم فرادة هذه العبقريات غير أنها تنتهج نهجا خاصا؛ قوامه التعاطي مع الآخر و ممارسة الجدل الإبداعي مع منتوجاته بغية الخلوص إلى ابتداع مركبات
توفيقية تصلح لخصوصية الذات العربية.
أما نظراؤهم من غلاة نقاد و منظري معسكر الحداثة و المعاصرة، فلا يجدون غضاضة في تبرير مسلك روادهم المعتمد بالدرجة الأولى على التأثر المباشر و إعادة التدوير و الانتحال لمنتوجات الإبداع الغربي على مستويي الموضوع و التقنية بزعم التناص مع الآخر؛ معتبرين أن هذا المسلك في حد ذاته يعتبر شهادة على عبقرية مطلقة من نوع خاص، قوامها الشجاعة و الجرأة في اطراح القديم البالي و التبشير بالجديد الوافد و السبق إلى استجلابه، فهي من هذا الوجه أشبه ما تكون بالريادة الجغرافية التي كان المستكشفون الأوائل يسعون خلالها للعثور على أراض جديدة مجهولة – بصرف النظر عن ملاكها الأصليين – قبل أن تكتمل صورة العالم لدى البشر.(1)
فمدار الأمر إذن في مجمل التقييم النقدي و التأريخي لنموذج الضرورة التأريخية الحاكم لفضاء الفنون التشكيلية و البصرية العربية هو الصدور عن تعميمات هي في جوهرها استمرار لتراث المطلقات و الكليات في الثقافة العربية، الأمر الذي يقطع الطريق في غالب الأحوال على فرص المراجعة التحليلية و إجراء المقارنات السياقية التي من شأنها أن تكشف عن منابع الاستلهام و التأثر و الاستمداد التي ساهمت في تشكيل النصوص البصرية لدى الرواد العرب، و التي تمثل في ذاتها
مرجعيات جديرة بالالتفات إليها و الكشف عنها بغية الخلوص إلى فهم أفضل للمسار الجدلي و التاريخي لفكرة الريادة في الفنون التشكيلية و البصرية العربية.
فالتأمل النزيه في السياقات المطروحة من لدن الرواد العرب لابد و أن ينتج عن كشف حيادي لمرجعيات التأثير التي وافق كل منها تجاوبا ذاتيا في تركيبة كل منهم.
فبعض التمعن في أعمال الرائد اللبناني "عمر الأنسي" (1901 - ؟) - و الذي أرهص بانطلاق النهضة التشكيلية الأردنية خلال فترة وجوده بالأردن – يكشف عن تأثر واضح بالمرجعية الأوربية المنتمية لفترتي النهضة و الباروك؛ حيث يأتي تناوله للجسد الأنثوي العاري في بعض أعماله بمثابة تنويع جهير على موضوع "خروج فينوس من زبد البحر" (شكل رقم1)، خاصة في الصياغة الشهيرة للرائد النهضوي الإيطالي "أليساندرو بوتيتشيللي" (1444-1510) (شكل رقم 2)؛ فالاستطالة الجذعية للنموذج الأنثوي و تلك الاستدارة الهندسية البادية في النهدين الصلبين، فضلا عن الوضعة المتأودة التي ينثني فيها الخصر معاكسا لاتجاه الساقين، كلها دلائل تكشف عن تأثر نموذج "الأنسي" بنموذج سابقه "بوتيتشيللي"(2).
ثم يأتي تأثر "الأنسي" بالنص الباروكي لأحد الموضوعات التي شاعت معالجتها من قبل فناني الحقبة المذكورة، و المتكيء بدوره على مرجعية توراتية تتمثل في قصة "سوسنة و شيخا السوء"(3) و التي تعتبر معالجة كل من "رمبرانت" و "تينتوريتو" (1518 - 1594) من العلامات القياسية له (شكل رقم 3)؛ حيث تتجلى المشابهة الموضوعية بين فكرة التلصص من
قبل الشخصيات الطاعنة في السن على الغيد المستحمات في الجدول، من خلال اعتماد وضعة الاختباء خلف إحدى الأكمات أو الأشجار، و هي التي صبغها "الأنسي" بقشرة ظاهرية من المرجعية العربية عن طريق الحضور الصارخ للنخيل و الهيئة التقليدية في سمت و ملابس الشخصية المتلصصة، و هي العوامل التي ساهمت بدورها في إضفاء المفارقة و عدم التناسب بين العناصر السابقة و مجموعة الصبايا المستحمات التي تدين في تكوينها و انفعالات أطرافها إلى المرجعية البصرية الغربية (شكل رقم 4).
هذا في حين تمثلت المرجعية الدينية في بعدها الأيقوني بأجلى ما يكون في أعمال الرائد اللبناني "صليبا الدويهي" (1909 – 1994)، خاصةالأعمال الموجهة بالأساس لمقابلة مقتضيات الزخرف الكنسي و التأريخ لسير الآباء البطاركة، مصبوغة بما استقاه خلال فترة رحلته إلى إيطاليا من روافد علامات النهضة و الباروك في هذا الصدد، و مؤكدة من خلال قصدية الدافع الإنتاجي لتلبية طلبات الأديرة و الكنائس اللبنانية ككنيسة "الديمان"، و ما تلا ذلك من تطعيم لأسلوبه بتقاليد الفن البيزنطي و المخطوطات السريانية، الأمر الذي تجلى في أعماله المخصصة لكنيسة "ماريوحنا" في "زغرتا"، فضلا عن إسهاماته الزجاجية في كنيسة "مارشربل" في "عنايا". و من أعماله التي يتضح فيها استيعابه التام لمرجعيات الصياغة الأوربية لموضوعات الكتاب المقدس؛ أحد الأعمال التصويرية التي ربما تكون مستندة إلى موضوع "رجم القديس اسطفانوس" أحد شهداء المسيحية
الأوائل (شكل رقم 5)؛ فحركات الأطراف المرتفعة استعدادا للرجم و أوضاع جذوع الشخصيات الواقفة المحيطة بالجسد المطروح أرضا تكاد تكون اقتباسا مباشرا من مثيلتها الواردة في صياغة "رمبرانت" لذات الموضوع (شكل رقم 6) فيما خلا الوضعة الراكعة التي يمثل فيها القديس المرجوم في عمل الأخير.(4)
و في المقابل تعكس أعمال الرائد العراقي "شاكر حسن آل سعيد" (1925 - ؟) اتكاء قويا على التراث البصري لمخطوطات السحر الشعبي العربي؛ فبرغم الشروحات الضافية للفنان نفسه حول قضية ما أسماه "الرؤية التأملية و الرؤية السريالية"(5) في استلهامات الحرف ككشف كوني مراوح بين ما هو تأملي كلي و ما هو سريالي لا واعي، إلا أن الباحث يميل لإدراج أعمال "آل سعيد" في مصفوفة الأعمال التجريبية القائمة على استرفاد التراث البصري في شقه الشعبي بغية استخراج القيمة الجمالية المتصفة بقدر من الانطلاق الساذج المميز للطرح الشعبي الشرقي، و من ثم إعادة صياغتها على أساس من التقعيد البصري المستمد من شروط الخطاب البصري الغربي؛ و هو ما يتضح من خلال أحد أعماله التصويرية التي تحتفي بحضور "المربع السحري"، تلك المصفوفة الرقمية التي تمثل في أدبيات السحر الشعبي و حسابات الجمل المركزية في تراث الذكر الصوفي بوصفها تجسيد لجوهر طاقة الحرف و الرقم في بعدهما الخلقي الكوني (شكل رقم 7)، حيث يعمد
"آل سعيد" إلى تفكيك مكونات المربع جريا على مقتضيات الحبكة التكوينية للوحة التجريدية
(شكل رقم 8)،الأمر الذي يشهد حضورا أكثر كثافة من خلال أحد أعماله المنفذة على الورق بالأحبار (شكل رقم 9)، و الذي يستحضر حالة المخطوط في بعديه العتيق و التلقائي (شكل رقم 10).
و من المحترف السوري يتجلى الرائد "نذير نبعة" (مواليد 1938) كحالة مثالية على تعاطي الرواد العرب مع النصوص البصرية الغربية كمرجعيات صياغية على مستوى الشكل؛ فبرغم إلحاح عدد من النقاد العرب على اعتبار الأعمال التشخيصية المفرطة في تتبع التفصيلات الدقيقة التي تميز مرحلة من مراحل "نبعة" على اعتبار أنها تجسيد لروح الفنون العربية في بعدها الزخرفي النمنمي، إلا أن الباحث يرى أن قليلا من التأمل في أعمال "نبعة"المنتمية إلى بعض مراحله التشخيصية جديرة بأن تكشف عن مرتكزاته التي مارس معها فعل الجدل البصري، و التي تجد سندا لها في المرجعيات الغربية، لا سيما تلك التي تنحدر من تقاليد "ما قبل الرفائيلية"، و تحديدا تلك التي شهدت صياغة لها من قبل كل من "بورن جونز" (1833 – 1898) و "دانتي جابرييل روسيتي" (1828 – 1882)؛ خاصة من حيث تعويل الرائدين الغربيين المذكورين على الإعلاء من مركزية الأنثى / الحبيبة / العرافة / المعشوقة، و إدراجها ضمن فضاء من الزخرف الطبيعي (ثمار، اشتباكات شجرية، أزهار)، ضاربين في ذلك على كل من وتري توخي الإيقاع الزخرفي و التكويني للعمل و استحضار القيمة الرمزية للمفردات الطبيعية المذكورة في سياق المعنى الكلي المضمر في العمل. و يتضح مدى الحضور القوي للمركزيات السابقة في أعمال "نبعة" بالمقارنة بين أحد أعماله (شكل رقم 11) و عملين آخرين يعود أولهما ل"روسيتي" (شكل رقم 12) بينما يعود الآخر ل"بورن جونز"(شكل رقم 13)؛حيث يتضح مدى تأثير نسق الإطار الزهري المشمول بالثمار الناضجة في المثال الذي طرحه "روسيتي" لصياغة "فينوس" على عمل
"نبعة" المحتفى بالعذارى الثلاث في تكدس الوفرة الزهرية المثمرة، و هو الملمح الأساسي الذي يستمر في عمل آخر من أعمال "نبعة" تتبدى خلاله عذراؤه في وضعة الاضطجاع محفوفة بثمارها الوفيرة (شكل رقم 14)، مستعيدة الصياغة المتفردة للفنان "جون إيفريت ميليه" (1829 – 1896) - أحد أقطاب المذهب سابق الذكر – لشخصية "أوفيليا" معشوقة "هاملت"، تلك الصياغة التي واصل فيها "ميليه" الغزل على صياغة الوفرة الطبيعية المحتفى بها في كثير من أعمال "ما قبل الرفائيليين"(6) (شكل رقم 15).
غير أن هناك حالة جديرة بالرصد و التسجيل من حيث تأثير العامل المطروح للدراسة هنا – مرجعيات الرواد العرب – على صياغة أطروحات ممثلي الريادة في أدبيات الفنون التشكيلية و البصرية العربية؛ تلك هي حالة رائد النحت الكويتي "سامي محمد" (مواليد 1943)، و هي حالة تمثل من وجهة نظر الباحث نمطا استثنائيا من أنماط الحضور المرجعي الغربي في الطرح البصري العربي؛ و ذلك نظرا للاشتباكات متعددة المستويات التي تكتنف هذا الحضور المركزي على نحو شديد الكثافة، الأمر الذي تستأهل معه هذه الحالة تناولا معمقا بعض الشيء.
فقد بدأ "سامي محمد" من خلال إنتاج منحوتاته التي كان يطرح من خلالها رؤيته لشخصيات التاريخ الإسلامي عبر تشخيصات بالحجم الطبيعي، رافقتها رسوم وجهية بأداء تغلب عليه الواقعية خلال الفترة من عام 1964 إلى عام 1966، متدرجا عقب تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1970 إلى تناول خامة الخشب لمعالجة فكرة الأمومة في تنويعات نحتية شهدت مدها الأقصى عام 1973.
غير أن ما لفت الأنظار حقا نحو "سامي محمد" و عمل على تكريسه كرائد للنحت في المحترف الكويتي هو أسلوبه الذي طرحته منحوتاته ذات الطابع الدراماتيكي الصراعي التي ركز فيها على تناول أفكار مستمدة من القهر الإنساني عن طريق صياغات نحتية للجسد و الوجه الآدميين الماثلين في وضعيات و تعبيرات تشنجية مكبلة؛ تلك المرحلة التي انطلقت من بداية ثمانينيات القرن الماضي، و التي ركز فيها على تقنية الصب في خامة البرونز، متوجا جهوده بالعديد من الجوائز؛ بداية من الجائزة الأولى لبينالي القاهرة عام 1984، مرورا بجائزتي بينالي اللاذقية و بينالي
دول مجلس التعاون الخليجي و انتهاء بتخصيص متحف الشارقة للفن المعاصر جناحا خاصا لأعماله. و هي الإنجازات التي تم خلالها جميعا الاحتفاء بتنويعات "سامي محمد" على ذات التيمة القهرية – سواء في منحوتاته أو رسومه أو قطعه التصويرية – للجسد و الوجه الآدمي المكبلين و المتفسخين (شكل رقم 16).
و لكن ترى ما هو السر خلف تحول "سامي محمد" من موضوعات التشخيص التراثي للشخصيات الإسلامية و الطروحات التعبيرية لفكرة الأمومة إلى هذا النسق الذي كرس لوجوده باعتباره رائد النحت الكويتي؟ و ما هي علاقة ذلك بموضوع المرجعيات الغربية البصرية في أعمال الرواد العرب؟ يعتقد الباحث أن الإجابة على هذين السؤالين قد تأتي من خلال تأمل تجربة الفنانة الأمريكية "نانسي جروسمان" (مواليد 1940)؛ أي أنها تكبر "سامي محمد" بفارق ثلاث
سنوات فقط، فمقارنة سريعة بين أعمال "نانسي جروسمان" النحتية و أعمال مجايلها "سامي محمد" جديرة بإسقاط الدهشة عن سر التحول المفاجئ في أسلوب رائد النحت الكويتي خلال الفترة
المذكورة؛ حيث توفر أعمال "جروسمان" للرؤوس البشرية المعذبة - و المكفنة في تلك الأقمطة الجلدية السوداء ذات المساحب المعدنية تلك المرجعية المفقودة و المسؤولة عن سر التحول في الأسلوب لدى "سامي محمد"، و هو ما يبدو من سياق المقارنة بين أحد أعماله المصبوبة في البرونز (شكل رقم 17) و أحد أعمال "جروسمان" من المجموعة المذكورة (شكل رقم 18) يطرح
لذات الفكرة القائمة لدى "سامي محمد" على تكبيل الرأس البشري الصارخ، و هو ما يؤكده عمل آخر من أعمال "جروسمان" يتجلى فيه التعويل على رمزية تكميم الفم للحؤول دونه و الصراخ على نحو أكثر ابتكارا في الصياغة مما طرحه "سامي محمد" (شكل رقم 19).
ربما يكشف ذلك عن سبب حدوث التحول لدى "سامي محمد" عقيب انتهائه من فترة البرنامج الدراسي الذي تلقاه بمعهد و محترف "جونسون" للنحت بمدينة "برنستون" بولاية "نيو جيرسي" بالولايات المتحدة الأمريكية – موطن "جروسمان" – في الفترة من 1974 إلى 1976، حيث يرجح الباحث أن يكون اطلاعه على أعمال "جروسمان" خلال هذه الفترة سببا في حضور طرحها
كمرجعية أساسية متسببة في التحول الأسلوبي لدى رائد المحترف النحتي الكويتي.
و لكن لماذا لا يكون العكس صحيحا؟ لماذا لا يكون سبق الريادة في هذا الأسلوب حقا واجب التسجيل ل"سامي محمد"، و تكون "جروسمان" قد تأثرت به، خاصة و أنها من مجايليه و لا يفصل بينهما سوى تلك السنوات الثلاث لصالحها؟
تأتي الإجابة من خلال المعرض الذي أقامته "جروسمان" في قاعة "إكستروم و كوردير" و الذي عرضت فيه أول طرح لها في سياق موضوعات الرؤوس البشرية المعذبة و المكفنة في الأربطة، و ذلك في عام 1969؛ أي بما يزيد عن عشر سنوات قبل ظهور أول طروحات "سامي" بهذا الصدد.(7)
و لم يتوقف حضور مرجعية "جروسمان" على الاستلهام الجزئي في أعمال "سامي محمد"، بل نجد تطابقا يكاد يصل إلى درجة التكرار من جانبه لأحد أعمالها التخطيطية (شكل رقم 20) و الذي نفذته فيما بعد مع التعديل كعمل نحتي (شكل رقم 21)؛ حيث أنتج "سامي محمد" على غراره أحد أعماله البرونزية (شكل رقم 22).
كما تشهد فكرة الجسد المكبل بالأربطة و الحبال استعادة متكررة من قبل "سامي محمد" لما سبق و أن اقترحته "جروسمان" في هذا الصدد؛ حيث يوضح أحد أعماله التصويرية (شكل رقم 23)
بذات النهج الذي اتبعته "جروسمان" في أعمال الرسم الخاصة بها (شكل رقم 24). و يتأكد عمق التشابكات المكتنفة للمثال "سامي محمد"/"نانسي جروسمان" في سياق تأمل الاجتهادات النقدية التي تتناول بالتحليل أعمال "سامي محمد" من لدن المنادين بالأصالة الإبداعية للرواد العرب، و الذين يميلون عادة لتحميل أعماله مضامين سياسية عربية تتصل بقضايا الجرح الفلسطيني – و هو ما شهد تداعياته القصوى في سياق تحليل أعماله التي أطلق عليها "صبرا و شاتيلا"... الخ – رابطين في ذلك بين مقتضيات العنف المكتوم لتلك الأجساد المكبلة و الوجوه المشلولة و حتمية توظيفها لصالح خطابات ذات طابع قومي مصيري، و ربما يتضح ذلك من
خلال الشهادة التالية التي سجلها بعض النقاد حول أعمال "سامي محمد" في إحدى المناسبات، معتبرا إياه امتدادا شرعيا لرائد آخر هو النحات المصري "جمال السجيني"؛ حيث يقول: "و يحضرني أن أشبهه بفنان مصر "جما السجيني" في مفهوم الصراع الإنساني الأبدي.. كما يمكنني الجزم بقوة أن الفنانين سامي محمد و جمال السجيني أحرزا احتراما لفنهما الذي حاولا فيه اختراق جدار الأمة المنيع الذي وضعه صناع الحواجز و الموانع..."(8)
و لكن، ترى هل رأى نقاد "نانسي جروسمان" فنها في ذات السياق الذي اقترحه منظرو الريادة العربية في تناولهم لمشوار "سامي محمد"؟ يبدو أن الفارق الجوهري بين نموذج الضرورة
التأريخية – المتحكم في تناول الذهنية العربية لفكرة الريادة – و نموذج الحتمية الجدلية – الحاكم للذهنية الغربية في تناولها لذات الفكرة – يتكفل بالإجابة على ذلك؛ حيث خلى التناول النقدي لأعمال "جروسمان" من أية إحالات إلى قضايا مصيرية كبرى أو تعميمات كونية مطلقة، بل اقتصر الأمر على بعض المقترحات عملية الطابع و التي تربط بين سياق أعمال "جروسمان" و السياقات الموازية لها في الإبداعات الأخرى، من منطلق الإيمان بفكرة تنافي الحواجز بين الفنون في الواقع الغربي المعاصر.(9) و هو ما شهد تعزيزا من قبل "جروسمان" نفسها من خلال إحدى شهاداتها التي أفصحت فيها عن جانب من دوافع الطرح
الإبداعي لديها.(10)
ربما يتضح من خلال ما سبق أن النغمة العامة الحاكمة لعلاقة فكرة الريادة الفنية في الواقع التنظيري العربي بالخطاب المرجعي تتخذ سمتين أساسيتين هما: التعقيد من جهة، و مفارقة فعل الجدل مع المقاربة الغربية لذات الفكرة من ناحية أخرى، الأمر الذي يستدعي طرح عدة أسئلة عن موقع المرجعية كمفهوم فلسفي من النظام الكامن لفكرة الريادة في الفنون التشكيلية و البصرية العربية؛ هل هي مجرد إحدى تجليات المركزية/البطريركية في ميل الفكر العربي للإحالة إلى نقطة ارتكاز غائية؟ و ما هي حجيتها؟: التبرير؟ التأريخ؟ الديمومة؟... لا أدل على الاحتياج الجائح
للتقصي المرجعي من تقلبات الفترة ذاتها؛ فأحد تجليات المرجعية – ممثلا في المحتويين المعرفي و الصياغي للعمل الفني (كما ورد في أمثلة العينات البحثية المفحوصة قبلا) – قد عانى غير قليل من جراء الإشكاليات التي صبغت العلاقة بين الفنان العربي و شريكه الناقد العربي بسمات الشك، الأمر الذي يتنافى تماما و الثقة المطلوبة لتقرير المواقع الريادية عن جدارة لا تتهددها المراجعات المتشككة.
______________________________________
(1) يبدو أن هذا الوضع كان مألوفا منذ بداية الحركة التشكيلية العربية في مطلع القرن العشرين، و هو ما سجله و عبر عنه الناقد "إيميه آزار" بقوله: في البداية لم يكن هذا التصوير يرى أن بإمكانه أن يجد منبعا لإلهاماته في تقاليده، و بسبب الحظر التقليدي الذي ينهى عن التصوير التشخيصي اعتقد أنه منبت الصلة بتقاليده هذه، جاعلا من نفسه تارة إيطاليا أو مستشرقا أو إكزوتيكيا. و كأن التصوير المصري يقول لنفسه: "لنكن انطباعيين على الطريقة الإيطالية أو الأكاديمية، و كان يفكر أن يصبح أصيلا من خلال محاولة النظر بعين أفضل من الغربيين إلى استشراقية بلده عاكفا من ثم على "مشاهد من السوق" و "سكن الحريم" و "غروب الشمس عند الأهرامات" فضلا عن "عودة المحمل".
إيميه آزار – التصوير في مصر حتى عام 1961 – ترجمة إدوار الخراط و نعيم عطية – المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة – مصر – ص 13، 14.
(2) راجع الشرح الضافي الذي أورده "فريدريك هارت" لهذا العمل في كتابه عن "بوتيتشيللي" :
Frederick Hartt – Botticelli – Harry N. Abrams, INC., - New York – 1953 – pp.32, 35.
(3) قصة سوسنة أو شوشنة جاءت في أحد الأسفار المنحولة من العهد القديم. و يقال إنها بينما كانت عارية في حمامها وقع عليها نظر شيخين حاولا استدراجها للمضاجعة فأبت، و من ثم ادعيا زورا أنهما قد رأياها ترتكب الزنا مع أحد الشبان في أحد البساتين فصدر الحكم بإعدامها. غير أن النبي دانيال كشف عن براءتها حين استجوب الشيخين كل واحد على حدة عن نوع الشجر الذي جرت جريمة الزنا في ظلاله. ثروت عكاشة – فنون عصر النهضة (الباروك) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1988 – ص 377.
(4) راجع سمات التكوين الحركي لدى "رمبرانت" في مرحلته الأولى من خلال:
Cristopher Brown – Rembrandt, the complete paintings1 – Granada publishing – England – 1980- p 12.
(5) راجع: شاكر حسن آل سعيد – الفن يستلهم الحرف – 1973.
(6) راجع التناول المعمق المطروح من جانب "ديفيد بايبر" حول الأبعاد الرمزية لمفردات فناني "ما قبل الرفائيلية"؛ و ذلك في كتابه: Painting in England (1500-1800) – Penguin Books – England – 1960 – pp. 139,147.
(7) يراجع في ذلك النص الذي كتبه "أرلين رافين" لكتالوج "نانسي جروسمان" الخاص بمعرضها الذي أقيم عام 1991 بجامعة "لونج آيلاند"، و الذي تناول فيه بداية ظهور تجربتها تلك من خلال معرض عام 1969 المذكور بالمتن عاليه:
Hillwood Art Museum, C.W. Post Campus, Long Island University, Brookville, New York. Nancy Grossman catalogue text by Arlene Raven. Exhibition curated by Judy Collischan. (September 27-November 10, 1991); 78.
كما يراجع النقد الضافي الذي نشره الناقد و الفنان "روبرت س. مورجان" ، متناولا فيه ذات المجموعة الخاصة ب"جروسمان" بالتحليل ضمن كتابه الهام: Modernism & conceptual Art – McFarland - 1999
(8) صالح رضا – فنانو الكويت في القاهرة – مجلة العربي – العدد 548 – يوليو 2004 – ص 38.
(9) حيث يرى "روبرت مورجان" في كتابه المذكور سابقا أن هناك أرضية مشتركة بين أعمال "جروسمان" الخاصة بالرؤوس المكبلة و أفلام الخيال العلمي، و هي مشابهة تستحق من وجهة نظره بحثا معمقا، خاصة في ضوء ما أسماه بالمد الأكاديمي لمسألة "الثقافة البصرية"، معتبرا أن شخصية "دارث فيدر" Darth Vader الواردة في ثلاثية حرب النجوم تمثل تحققا سينمائيا لرؤوس "جروسمان" النحتية المغطاة بالجلد الأسود.
(10 فمن جانبها تؤكد "جروسمان" على حضور تلك الأجساد المكبلة و المعذبة دوما في أعمالها ككيانات ذكورية و ليست أنثوية تحقيقا لما تراه من انطواء الذات المذكرة على قدر من السادو-مازوخية الممزوجة بالسخرية و الاشمئزاز، كما تذهب إلى أن بعض أعمالها تنزع نحو تحقيق المظهر الجمالي من خلال البحث في نوعية الجسد الذكوري المتصف ببعض السمات الأنثوية (فكرة الخنثى؟). راجع كتالوج معرض Powerful Expressions الذي شاركت به "جروسمان" في الأكاديمية الوطنية للتصميم بنيويورك عام 1997.

Thursday, June 12, 2008

تداخل الأجناس الأدبية في السياق النقدي لدى نعيم عطية

مقدمة:
المتتبع لحركة النقد الأدبي الحديثة لابد و أن يلمس بجلاء اتجاها واضحا للجهود النظرية و الأكاديمية نحو تناول و تحليل تقنيات الصياغة التي يتبناها المبدعون في تشكيل نصوصهم، لا سيما تلك التقنيات التي تتلمس طرقا غير مألوفة من شأنها أن تصب في مصلحة كسر جمود القوالب الاعتيادية و الصياغات التقليدية. و في سياق هذا التوجه الحثيث يبدو أن تقنية من بين تلك التقنيات الصياغية قد بدأت في الاستئثار بالشطر الأعظم من الجهود المشار إليها، على نحو تكرست معه طروحات ضخمة بأكملها للكشف عنها و محاولة وضع قواعد جديدة لها بشكل لا يخلو من اجتهاد و مغامرة في غالب الأحيان – خاصة عندما يتعلق الأمر بالإبداعات الأدبية الخارجة من رحم المستجدات الرقمية و إفرازات الشبكة العنكبوتية(1) – و هي التقنية التي اتُفق على اعتماد مصطلح (تداخل الأجناس)(2) للتعبير عن تجلياتها في تشكيل هذا النوع من النصوص الأدبية المشار إليها قبلا، وهي تقنية تعتمد ببساطة على استثمار المبدع لكل إمكاناته الصياغية ليقدم نصه للمتلقي بأسلوب يكفل مفاجأته أحيانا و صدمه أحيانا أخرى بألوان من النصوص التي تم توليفها من أنواع و أجناس أدبية شتى؛ كأن يقوم الروائي بتضمين قصائد شعرية مطولة في بنائه السردي(3) أو أن يورد الشاعر قوالب قصصية مرسلة بداخل قصائده(4)، أو استثمار تقنية "البوليفونية" (تعدد الأصوات)؛ و ذلك عن طريق استثمار تقنيات السرد الروائي و الحوار المسرحي...الخ ضمن قالبه الشعري.
و يُعتبر هذا المدخل ضرورة لازمة للإلمام بمغزى البحث الحالي و الذي يتناول خصوصية الصياغة في السياق النقدي لدى الناقد الكبير الدكتور " نعيم عطية" (مواليد 1927) و الذي تنوعت جهوده على نحو لافت للانتباه لتغطي مجالات النقد الأدبي و التشكيلي إضافة إلى إسهاماته الخاصة في حقل الأدبيات القانونية من منطلق تخصصه – حيث حصل على ليسانس القانون عام 1948، فدكتوراة القانون عام 1964و متقلبا في المناصب القضائية حتى تقلد منصب نائب رئيس مجلس الدولة عام 1984 – فضلا عن اجتهاداته في صياغة البرامج الإذاعية بالبرنامج الثاني خلال حقبتي الخمسينيات و الستينيات، إلى جانب جهوده الترجمية – حيث أتقن اللغات الإنجليزية، الفرنسية، اليونانية – و هو ما تشهد عليه ترجمته الرائعة لقصائد الشاعر اليوناني "كفافيس"(5) و مواكبة كل ذلك بسلاسل مقالاته الضخمة التي تناول من خلالها شتى القضايا الثقافية، و هي المقالات التي تستحق من وجهة نظر الباحث اهتماما خاصا يتفرغ خلاله عدد من الباحثين لجمعها و تصنيفها بيبلوجرافيا و تخصيص دراسات موازية لها لما تمثله من ثروة بحثية جديرة برسم صورة مكثفة لحقبة كاملة من الثقافة المصرية في شتى المجالات.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن الباحث ليس بصدد اعتساف رؤية مغالية في تناول المسألة الصياغية الخاصة بنصوص "نعيم عطية" في مجال الفن التشكيلي، بحيث يقحم عليها مقولات و نظريات نقدية مفارقة لظروف إفرازها في الوقت الذي أبدعها فيه كاتبها – خاصة بالنظر إلى حداثة هذه المقولات و تأخرها زمنيا عن كتابات نعيم عطية – و إنما يهدف الباحث إلى محاولة إسقاط بصيص من ضوء على فرادة نصوص "نعيم عطية" ذات الصلة بالشأن التشكيلي من خلال لفت الانتباه إلى خصوصيتها من حيث الصياغة و تقنيات السبك الأدبي التي اعتمدها مبدعها لتأتي على النحو الذي ميز الطرح النقدي التشكيلي لدى "نعيم عطية" و دمغه بعلامة فارقة غير منكورة إلى الحد الذي كرسه كطرح ذي منحى خاص بين طروحات القامات السامقة في مجال النقد التشكيلي.
كما يهدف البحث الحالي إلى إبراز دور المؤثرات الكبرى التي ساهمت في بلورة الأسلوب الصياغي لدى "نعيم عطية" على هذا النحو الذي رأى فيه الباحث نوعا من أنواع (تداخل الأجناس) – وفقا لمناخ زمن كتابتها بالنظر لكونها كتابات سابقة زمنيا لجهود مبدعي هذا المنحى من الأدب – و كذلك تبيان أثر الثقافة الموسوعية لدى "نعيم عطية" في إكساب كتاباته النقدية التشكيلية طابعها المميز سواء على مستوى الشكل و الصياغة – (تداخل الأجناس) كما يراها الباحث – أو على مستوى المضمون الذي تميز بمقاربات نقدية تتميز بقدر كبير من الدماثة و حيادية التناول.
موسوعية الثقافة و زمن القانونيين المفوهين:
من الثابت أن المشتغلين بالشأن القانوني على اختلاف مواقعهم يرتبطون ارتباطا وثيقا بفنون اللغة و أساليب الكتابة إلى الحد الذي كفل اشتهار أمثلة عديدة من نماذج كتاباتهم التي كانت مخصصة بالأساس لأغراض الصياغة القانونية و خروجها إلى حيز الروائع الأدبية التي تتداول بين متذوقي الأدب و عشاق فنونه، بل و إلى حد التقاط أفراد المجتمع لعديد من التعبيرات و الصياغات الواردة ضمن نصوص تلك الأدبيات القانونية ليتم ترديدها و اعتمادها بمثابة أقوال سيارة، و لعل أبرز مثال في هذا الصدد القول المشهور الذي يستشهد به البعض أحيانا و القائل: (تلك تهمة لا أنفيها و شرف لا أدعيه) و التي ربما لا يعرف البعض أنها من إبداع قريحة الزعيم الوطني "سعد زغلول" – و هو القانوني العتيد – و التي وردت ضمن خطبة له صاغها لتكون بمثابة عريضة دفاع حين وجه له المعتمد البريطاني تهمة إثارة الرأي العام و تحريض الناس على مناوأة الاحتلال البريطاني.
و لم تكن تلك الصلة الوثيقة بين القانون و الأدب وليدة عهد قريب، بل إنها تضرب بعيدا في تاريخ كل من الأدب و القانون معا إلى حد المزج بينهما أحيانا؛ و ذلك لعلة منطقية تتمثل في اعتماد جانب كبير من الخطابات القانونية دفاعية الطابع – دفاعات المحامين خاصة – على سلاح التأثير النفسي بما يتطلبه من وجوب الإلمام بفنون البلاغة و تقنيات التأثير في عموم المستمعين، هذا فضلا عن حاجة المشرعين و واضعي القوانين إلى التمتع بالحد الأقصى من القدرة البلاغية و الإلمام بفنون اللغة و معاني مفرداتها القاموسية و الاصطلاحية لضمان صياغة القوانين على نحو صارم من الدقة و الوضوح و كفالة عدم اللبس في المفردات أو تأويل العبارات القانونية من قبل المتلاعبين بالألفاظ كيما يتمتع القانون بسيادته على النحو الأوفى، و يحفل تاريخ العالم بعشرات من الأمثلة التي تؤكد تلك العلاقة الوثيقة؛ فهناك "صولون" الذي انتخب حاكما لأثينا عام 592 ق.م و الذي كان شاعرا و خطيبا بليغا و في ذات الوقت أبا للتشريع اليوناني إلى الحد الذي نقشت معه شرائعه على لوحات مثلثة تدور على محور وتم وضعها في الرواق الملكي حيث كان يجلس الحاكم والملك للقضاء ويقسمون جميعاً بأن يتقيدوا بها.
و لم يكن التاريخ المصري في مجالي الأدب و القانون غريبا عن تأثير هذه الصلة، بل لعله أن يكون من أغزر التواريخ تمتعا بالأمثلة الساطعة في هذا السياق، و لكي لا نخرج عن موضوع البحث الأساسي يكفي أن أعرض لمثالين حديثين نوعا ما اشتهرا بوصفهما علمين من أعلام البلاغة الأدبية و الفقه القانوني معا في أواخر القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين، و كان لكل منهما تأثير بالغ على أجيال القانونيين التالية لهما زمنيا و منها جيل "نعيم عطية"؛ ألا و هما "أحمد فتحي زغلول" (1863 – 1914)(6) و "إبراهيم الهلباوي" (1858 – 1940)(7).
و ربما يكون من المفيد هنا أن نشير إلى المشابهة الشكلية لممارسة النقد التطبيقي بممارسة العمل القضائي، بما يشمله ذلك في كل منهما من وجوب إطلاق أحكام معيارية صادرة عن قناعة كل من الناقد و القاضي بما اطمأنت إليه نفس كل منهما من مواقف نهائية تجاه كل من العمل الفني و القضية محل النظر في ضوء محددات و أسس قياسية تنبع لدى الناقد من الإطار العام لمذهبه النقدي و لدى القاضي من نصوص التشريع الذي يحيل إليه قضيته المنظورة. بل إن المشابهة بين العمليتين النقدية و القضائية قد تتعدى إلى ما هو أكثر عمقا من هذا المستوى؛ و ذلك حين ينحو كل من القاضي و الناقد نحو التحرر من صرامة القوالب الشكلية الجامدة لكل من نظريات النقد و نصوص القانون الحرفية و يعمدان إلى إجراء تكييفات إبداعية لأحكامهما وفقا لخصوصية الحالة المنظورة من قبلهما حين تتمتع بفرادة أو ظروف خاصة تحتم التعامل معها وفقا لما يسمى ب(روح القانون) لدى القضاة، و هو ما يتوفر لدى الناقد حين يلفي نفسه بإزاء عمل فني ذي طرح محرض على التناول المرن خارج إطار المقولات و النظريات المعدة سلفا، مما ينتج في النهاية نصا نقديا إبداعيا بدوره يكرس لمقولة (الإبداع النقدي الموازي للإبداع البصري)، و لكن لا يخفى أن هذا المستوى من التحرر الإبداعي في ممارسة العمليتين القضائية و النقدية يتطلب بالدرجة الأولى مرونة ذهنية و موسوعية قد لا تتاح لكثيرين من المعنيين بالمجالين؛ و هو ما يتمتع به "نعيم عطية" و يظهر من خلال مثالين شهيرين في تاريخه على المستويين القضائي و النقدي: ففي كتابه (نساء في المحاكم)(8) نلمس بعدا إنسانيا بالغا في تناوله الأدبي لنماذج من قضايا المرأة التي سبق و أن أصدر فيها أحكاما قضائية بنفسه، على نحو يوضح بجلاء جانبه الإنساني الذي لم يفارقه حتى في أدق شؤون العمل القضائي و أكثرها مساسا بالمصائر الإنسانية، و كذلك حين يوضح بدماثة بالغة سر عزوفه عن تناول كثير من أعمال الفنانين التي لا تتفق و ذوقه الشخصي بالنقد؛ حيث يقول: "قد يكون العيب في أنا!! فلماذا أزيد الفنان هما و تعاسة؟ كفى أنه تكبد مشقة العمل إلى أن أخرجه في صورته النهائية"(9).
و بالمحصلة فإنه يمكن القول بكثير من الاطمئنان أن رصانة العبارة و سلامة البناء اللغوي لدى "نعيم عطية" إنما تدين بشطر عظيم من ثرائها إلى تقلبه في مناصب العمل القضائي و توفره على دراسة أدبيات الفقه القانوني و تمرسه بأعباء الصياغة التشريعية، الأمر الذي كفل لأسلوبه بعامة التحلي بقسط وافر من سمات البيان البلاغي العربي قبل أن تغير عليها مستجدات الهُجنة و السقامة التي باتت تستشري في بنيان الخطاب النقدي على نحو يهبط به أحيانا إلى وهدة الخطاب العامي المرسل على عواهنه.
النقد الأدبي و الإفصاح عن المنهج:
في كثير من مصنفاته الأدبية التي تصب في خدمة نظرية النقد الأدبي و إلقاء الضوء على مذاهب الكتابة و مدارسها المختلفة يفصح "نعيم عطية" بشكل أو بآخر عن صميم منهاجه النقدي و نظرته الشخصية للمسألة الإبداعية على اتساعها؛ الأمر الذي يمكن معه تتبع الإطار الفكري العام لمقارباته النقدية بعامة، و من ثم الخلوص إلى إطاره النقدي التشكيلي الذي يدور البحث الحالي حول أحد تجلياته المتمثلة في الصياغة الأدبية لنصوصه النقدية وفقا لمقولة (تداخل الأجناس) المقترحة هنا؛ ففي كتابه (مسرح العبث: مفهومه – جذوره – أعلامه)(10) ترد فقرة غاية في الأهمية، تكشف من وجهة نظر الباحث عن مستويات عدة داخل الإطار النقدي العام ل"نعيم عطية"، على رأسها وعيه الشخصي بدرجة من الدرجات لانفتاح الأجناس الفنية على بعضها البعض؛ ألا وهي الفقرة التي يقرر فيها ما يلي:
"إن دراسة مسرح العبث أو مسرح اللامعقول توصلنا إلى التعرف بعدد من الكتاب الطليعيين الذين ليسوا دعاة جديد لذات الجديد و حبا في الظهور بل إن مسرح العبث يتضمن عددا من المسلمات التليدة في تاريخ الأدب و الفن و يرتكن إلى كثير من التجارب الطليعية التي سبقته في عقول أخرى مجاورة مثل الشعر و التصوير و الرواية"(11).
فالفقرة في ختامها تكشف عن وعيه و إدراكه لمسألة تآزر الأجناس الإبداعية و تأثير كل منها على الآخر إلى الحد الذي دفعه إلى تسويغ إبداعات كتاب مسرح اللامعقول بكونها ترتكن إلى أمثلة سابقة في المجالات الثلاثة التي ذكرها – الشعر و التصوير و الرواية – و لنتأمل سويا تعبيره (عقول أخرى) الذي وصف به المجالات الثلاثة السابقة؛ فهو تعبير يضمر فيما يضمر إيمانا مطلقا بأسبقية العملية الذهنية في صياغة مقولات الإبداع أيا كانت وسائطها – شفاهية/الشعر أو بصرية/التصوير أو سردية مدونة/الرواية – و الذي يكشف أيضا من خلال فعل المؤازرة و الارتكان الذي يبرر به كل وسيط منهم تجارب الوسائط الأخرى عن إيمانه بانفتاح الوسائط و الأجناس الفنية على بعضها البعض كروافد داعمة في خدمة العملية الإبداعية ككل.
ثم يسترسل في ذات الفقرة قائلا: "و لا يعني الاهتمام بمسرح العبث التقليل من قيمة المدارس و التيارات الأخرى سواء المعاصرة له أو السابقة له، فما زال مسرح العبث مسرحا تجريبيا. و لا يمكن أن نحدد ما إذا كان سيتحول من مسرح يضايق الجمهور إلى مسرح يتهافت عليه الجمهور و لا إذا ما كانت بعض مكتشفاته الطريفة سواء في اللغة أو الأداء أو رسم الشخصيات سيقدر لها أن تثري التراث المسرحي العام أم أنها ستبقى مكتشفات عابرة ما تلبث أن تهجر و يطويها النسيان"(12).
إنها و لا شك جملة لافتة تمثل دليلا ساطعا على سماحة في الرؤية كفلتها عقلية موسوعية مطلعة على مذاهب الفن و الأدب على اتساعها سواء منها التقليدي أو المستحدث، إلى الحد الذي كفل لها ألا تعلي من شأن أحدها على الآخر، و هو موقف يستأهل توقفا خاصا بإزاءه؛ حيث تنبع أهميته من كونه موقفا استثنائيا لناقد مبرز في الساحة العربية التي تعاني دوما من احتقان في العلاقات المتبادلة بين دعاة المذاهب النقدية المختلفة إلى درجة قيام الكثرة الغالبة منهم بالانتقاص من شأن المذاهب التي يرونها مضادة للمذاهب التي ينافحون عنها، و من ثم القيام بشجب و إقصاء أي عمل فني يكرس انحيازا للمذهب المضاد، و هي ذاتها السماحة التي قيضت لصاحبها ألا يتعجل في إطلاق أحكام تنبؤية متعجلة – شأن كثير من النقاد – لاستباق نتائج التجارب الإبداعية المستحدثة، كما أنه توضح التفاته إلى أهمية عدم التعويل على مقياس الإقبال الجماهيري كمعيار نقدي لتقييم عوامل الأصالة و الديمومة.
ثم تتكشف رؤيته الخاصة للعملية النقدية و إيمانه المطلق بأهمية العمل الشاق و الاطلاع المستمر للناقد كيما يطور من أدواته و يظل على صلة بمستجدات العصر بما يخدم منهاجه النقدي؛ و ذلك حين يقول: "إن مسرحيات بيكيت و يونيسكو و جينيه و آداموف كثيرا ما ترفض بحجة أنها غير مفهومة. لكن سبب ذلك هو عدم الألفة مع الجديد و الحاجة الملحة إلى قسط أكبر من المحبة و محاولة الفهم لتقبل الاتجاهات الحديثة. و بدون هذه المحبة و محاولة الفهم تظل الهوة سحيقة بين النقاد الرجعيين و الأعمال الطليعية. على أن النقاد الرجعيين يجدون أنفسهم في النهاية قد خسروا المعركة بسبب تحجر أدواتهم و جمود معاييرهم و نكوصهم عن المتابعة و إصرارهم على الرفض بلا ترو. لهذا فقد رأينا أن نكرس اهتماما أكبر لتوضيح كيف يمكن أن نتذوق مسرحية من هذا القبيل"(13).
إن تلك السماحة التي اختار لها "نعيم عطية" تعبير (المحبة) إنما هي مدار مقارباته النقدية على الإطلاق، و هو حين ينعى على النقاد الذين أسماهم ب(الرجعيين) تقاعسهم دون التطور و الانفتاح على الجديد إنما يكرس في ختام جملته لقضية مسؤولية الناقد التي تملي عليه توجها للأخذ بيد عموم المتلقين نحو تلمس مواطن الإبداع التي ربما تخفى عليهم بحكم إيغال الفنون الحديثة في مغامرات التطوير الشكلي، و هو بهذا يؤكد من جهة دور النقد بوصفه خطابا وسيطا كفيلا بردم الهوة بين نزوات الإبداع و تحفظات التلقي، و من جهة أخرى يفضح سلوك التعالي غير المبرر لكثير من ذوي الأصوات النقدية الذين لا يرون في المتلقي إلا مستقبلا سلبيا مطالب طوال الوقت بالإذعان غير المبرر و لا المشروط لمقولاتهم الفوقية، دونما تفكير من قبل أصحاب تلك الأصوات النقدية لبذل جهد و لو ضئيل لردم الهوة بين المبدع و متلقي إبداعه.
تداخل الأجناس و روافد الترجمة:
إذا كان التمرس بالشأن القانوني قد كفل ل"نعيم عطية" حيازة القسط الأوفى من أفانين الكلم العربي الرصين، و إذا كانت ثقافته الموسوعية و اشتغاله بأغراض النقد الأدبي قد أتاحا له رؤية بانورامية للمشهد الثقافي العالمي على اتساعه، فضلا عن صياغتهما للإطار العام لمذهبه النقدي القائم أساسا على قيم التسامح الثقافي و بذل الجهد لرأب الصدوع الناشئة عن تعصب الرؤية و النفور من المجهول و المخالف للمألوف، فلا جدال في أن إلمام "نعيم عطية" بلغات ثلاث هي الإنجليزية و الفرنسية و اليونانية إلماما وثيقا – إلى درجة ترجمة روائع الأدب و أسفار النظريات النقدية منها إلى العربية – قد ساهم في إكسابه ميزة قلما تتوافر لغير الذين كابدوا مشاق الترجمة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمصنفات الإبداع و نصوص الأدب؛ فمن المعروف لدى المشتغلين بالشأن الترجمي أن تفاوت اللغات في أساليب البلاغة و اختلافها في أسس الصياغة الأدبية و قواعد السبك الكلامي يجعل لكل منها جماليات خاصة على مستوى الصياغة لا يستشعرها عادة سوى الناطقين بتلك اللغات و الذين يحيون ثقافتها و يعون اختصاراتها و إيماءاتها و أساليب الترميز المعنوي لألفاظها، و ربما يكون المثال الأشهر في هذا الصدد متمثلا في ترجمة الشعر، فمن المعروف أن ترجمة القصائد من لغة لأخرى يتسبب – فضلا عن فقدان الإيقاع الموسيقي الأصلي المتولد من ألفاظ اللغة الأم – إلى إشكاليات شتى قد يكون أخطرها ماثلا في تغير و إهدار كثير من المقاصد الرمزية للألفاظ الأصلية و التراكيب الناشئة عن علاقاتها في الجمل الأصلية حين يتم استبدالها بألفاظ مرادفة في اللغة المترجم إليها.
و تقود تلك المفارقة عادة إلى وقوع الملمين بأكثر من لغة في موقف شديد الدقة و الخصوصية؛ فهم من جهة قد تمتعوا بميزة إدراك جماليات النصوص الأصلية في لغاتها الأم، فضلا عن تمتعهم بعملية صياغة النص المترجم وفق جماليات اللغة المترجم إليها على نحو قد يصل أحيانا إلى درجة الإبداع الموازي للنص الأصلي – و ربما تكون (رباعيات الخيام) المصوغة شعرا بواسطة "أحمد رامي" نقلا عن الأصل الفارسي أشهر الأمثلة في هذا الصدد على المستوى المصري – و من ناحية أخرى تتسبب إحاطتهم الإدراكية بجماليات و رموز النص الأصلي في توليد مشاعر القلق و الإخفاق أحيانا ليقينهم باستحالة المطابقة التامة بينه و بين النص المترجم، الأمر الذي يعمق من وعيهم الحاد بمسألة اتساع الصياغة النصية لتقبُل عناصر شتى قد تصل إلى درجة التباين من الأساليب و التراكيب، و هو لا شك أحد تجليات (تداخل الأجناس) و إن يكن على المستوى الإدراكي.
السمعي و النصي و البصري في تناوله لسير الفنانين:
إذا كان النص الأدبي في سيرورته التاريخية قد تقلب عبر حقب ثلاث هي: (الشفاهية) و (التدوينية) و (التفاعلية)؛ و التي تمثلت أولاهن في التداول الشفاهي و السمعي للنص الأدبي اعتمادا على حفظه بالذاكرة، بينما تمثلت وسطاهن في تداول النص و حفظه تدوينا و نسخا و طباعة و اعتماد المخطوطة و الكتاب و مشتقات الوسائط المادية الصالح للتدوين و النقش كحوامل و حوافظ للنص، وصولا إلى ثالثتهن – التفاعلية – التي تجلى النص الأدبي خلالها عبر الكيان الرقمي للحاسب الإلكتروني بإمكاناته البصرية و السمعية و النصية اللانهائية، فإن حضورا موازيا للسمات السمعية و النصية و البصرية يمكن استشعاره بوضوح في نصوص "نعيم عطية" و مصنفاته التي تناول من خلالها سير حياة عدد من الفنانين التشكيليين ذوي الشأن في تاريخ الفن العالمي(14)، و التي نهج في صياغتها نهجا شديد الخصوصية مزج خلاله بين أجناس المقال الأدبي و أدب تراجم الشخصيات، أو ما يعرف بأدب (السيرة الغيرية/بيوجرافي)(15) و قالب الحوار المسرحي للخروج بنص مغاير و كاسر للمألوف في هذا الصدد.
هذا، و سوف يعتمد البحث هنا بالدرجة الأولى على كتابه (خمسة رسامين كبار) الذي ألفه عام 1968 و الذي يعتبره الباحث نموذجا قياسيا في هذا الصدد؛ نظرا لوضوح تداخل الأجناس السابق ذكرها في بنائه السياقي، مع وجوب الإشارة لتطابق منهاجه الصياغي في هذا الكتاب مع كتاب آخر تال له زمنيا هو كتاب (دنيا هذا الفنان) الصادر عام 1988 إي بعد مرور عشرين عاما على صدور الكتاب الأول؛ مما يرسخ لفكرة استمرار ظاهرة (تداخل الأجناس) في الخطاب النقدي لديه. و قبل تناول تقنية التداخل الأجناسي لدى "نعيم عطية" في النموذج المذكور يود الباحث أن يلفت النظر إلى ملحوظة غاية في الأهمية – و هي التي تكررت أيضا في كتابه التالي زمنيا (دنيا هذا الفنان) – و هي الملحوظة المتعلقة باختياره لشخوص الفنانين الخمسة الواردين في الكتاب؛ فباستعراضهم يتبين جمعه لكل من: "بيتر برويجل" البلجيكي (1525 – 1569) و "هونوريه دومييه" الفرنسي (1808 – 1879) و "هنري دي تولوز لوتريك" الفرنسي (1864 – 1901) إلى جوار "إدفار مونش" النرويجي (1863 – 1944) و "باول كلي" سويسري الأصل و الألماني الجنسية (1879 – 1940)، فالملحوظة هنا لا تتعلق فقط باختلاف جنسيات الفنانين المذكورين و لا بالوقوف الظاهري عند التفاوت الزمني بين اثنين منهم – "برويجل" و "دومييه" – و الباقين، و إنما تتعلق بالأساس بمسألة التفاوت الأسلوبي و الفروق المذهبية التي كان كل منهم يصدُر في إبداعه عن مقولاتها و وفقا لشروطاتها الجمالية و الفلسفية الخاصة، و هو ما يظهر بجلاء حين نتأمل أسلوب "برويجل" الساخر بنهجه القروي البسيط الذي سبق و أن تشبع بفلسفة سلفه "هيرونيموس بوش" (1450 – 1516) ذات الحس السوداوي المُعلن دوما إدانته لخطايا البشر مُبرزا حماقاتهم مُقارنة بأسلوب "دومييه" النقدي اللاذع و الذي استطاعت عبقريته أن تزاوج ما بين مقولات النهج الرومانتيكي و ضرورات الخطاب السياسي المُعارض. ثم تتأكد الملحوظة حين يتلوهما في الترتيب "لوتريك" بانطباعيته المصبوغة بروحه الانفعالية المأزومة و الرازحة تحت نير إعاقته الجسدية، ثم "مونش" بتعبيريته العصابية النابعة من تكوينه النفسي و العقلي و الاجتماعي شديد الخصوصية، و أخيرا "كلي" برصانته البنائية و ثقله الفلسفي الذي كفلته موسوعيته التي رسخت لمكانته في النصف الأول من القرن الماضي. و هي ذاتها الملحوظة التي أكد "نعيم عطية" بتكرارها في كتابه (دنيا هذا الفنان) أنه يتناول هذا المنحى من الصياغة النصية عامدا إلى تنويع اختياراته بشكل قصدي يتوخى التنوع في أساليب الفنانين؛ و ذلك حين يجمع بين كل من "رمبرانت" الهولندي (1606 – 1669) و "كوربيه" الفرنسي (1819 – 1877) و "ديجا" الفرنسي (1834 – 1917) و "أوروزكو" المكسيكي (1883 – 1949) و "دالي" الأسباني (1904 – 1989) بحقبهم الزمنية المتفاوتة و أساليبهم المترجمة عن مناهج "الباروك" و "الواقعية" و "الانطباعية" و "الواقعية الاشتراكية" و "السريالية" على الترتيب. فهو نهج قصدي في الاختيار يفصح عن سعة في الرؤية و انفتاح نقدي لا يعبأ بالحدود المنهجية الظاهرية التي يتم بموجبها تصنيف أساليب و مدارس الفن بقدر ما يعنيها في المقام الأول تقديم رؤى متجانسة من وجهة نظر صاحبها، تكفل لقارئ النص أن يخلُص إلى إحساس عام بالأهمية البالغة التي تلعبها كل شخصية من شخصيات هؤلاء الفنانين بوصفها حلقة تطورية مفصلية في تاريخ الفن، و كذا بعمق التجربة الحياتية التي عاشها كل منهم و ثراء نموذجه النفسي الكامن خلف ظواهر إبداعه. ثم تأتي ملحوظة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها؛ تلك التي تتعلق بتسمية الكتاب (خمسة رسامين كبار)، فاختياره هنا لكلمة (رسامين) كبديل لفظي عن (فنانين) – كلفظ أشمل – أو (مصورين) – من منطلق تخصصهم في الشأن التصويري – تطرح دلالة هامة؛ فبرغم تنوع نتاج كل من هؤلاء الفنانين في الوسائط الأخرى – "برويجل" في التصوير و الحفر – "دومييه" في الليثوغراف و النحت – "لوتريك" في التصوير و الليثوغراف – "مونش" في الحفر و التصوير – "كلي" في التصوير و الحفر فضلا عن جهوده التنظيرية – إلا أن تحديد "نعيم عطية" لجماليات الرسم كعلامة دالة ضمن عنوان الكتاب يكشف عن نظرة ثاقبة؛ حيث يشترك الخمسة فعلا في سيادة العنصر الخطي كأساس قِيَمي لجماليات الأعمال لدى كل منهم، كما يشتركون في بروز قيمة المهارة الأدائية في صياغة الأعمال على نحو تبرز معه الجماليات البصرية اللالونية – فضلا عن براعتهم كملونين – و هي القيمة التي اقترح لها الدكتور "ثروت عكاشة" مصطلح (الرَسامة) في بعض مؤلفاته(16). و يرى الباحث أن ذلك الاختيار اللفظي يعكس – إلى جانب النظرة النقدية الثاقبة ل"عطية" و التي قيضت له استخلاص العامل المشترك لدى الفنانين المذكورين – مقدرة صياغية كفلت للنص ككل أن يتمتع بصفة الوحدة العضوية؛ فمن المسلم به أن عنوان النص يلعب دورا لا يستهان به في تشكيل الموقف المبدئي للقارئ حيال هذا النص قبل اشتباكه معه في جدلية القراءة، و بذلك يكون "عطية" قد أفلح عن طريق هذه الإيمائة العنوانية البسيطة في الإيعاز للقارئ بالمشترك العام بين خمسة من الفنانين المنتمين إلى حقب و جنسيات و مذاهب متباينة.
و عند تناول كتاب (خمسة رسامين كبار) بشيء من التأمل لطريقة الصياغة النصية يتبين أنه يبدأ بمقدمة قصيرة التي تعرض فيها لظروف اقتحامه لمجال النقد التشكيلي، يليها ثبت بالمراجع التي استقى منها مادة الكتاب، ثم النص الأساسي للكتاب و الذي اعتمد له صياغة فريدة تمثلت في إيراد نبذة تعريفية عامة عن أهم المعلومات المتعلقة بالفنان يليها نص إبداعي يمكن إدراجه في قالب النص المسرحي، يسبقه عادة تعريف بالشخصيات – فيما عدا "برويجل" – خاتما القوالب الخمسة بتضمين مجموعة من الصور التي تبين جانبا من إبداع كل منهم.
و هنا قد تساهم عبارة الإهداء الواردة في بداية الكتاب في إلقاء الضوء على سبب صياغة النص وفق تقنية (تداخل الأجناس)؛ حيث نقرأ: "إلى عشاق الفنون.. أصدقائي في البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة..."(17)، و هي صلة انعقدت بينه و بين الوسيط الإذاعي في تلك الفترة عندما ساهم في الإعداد و الكتابة لبرامج الفنون للإذاعة و التليفزيون، و كأن تجربته مع الإمكانات السمعية للوسيط الإذاعي كانت ماثلة في ذهنه حين اختار أن يفرغ صياغته للنص في قالب الحوار المسرحي، و هي صيغة صالحة دون شك للاستفادة منها فيما بعد في إبداع قطع تمثيلية سواء بالإذاعة أو التليفزيون أو المسرح، و بذلك يتكرس حضور الوسيط الأول (السمعي) ضمن نص الكتاب في صياغته متداخلة الأجناس.
و حين نتطرق إلى الوسيط الثاني (النصي) في صياغة "نعيم عطية" للكتاب المذكور فلابد و أن يتم الالتفات إلى مسألة من الأهمية بمكان؛ هي مسألة حدود تصرف المبدع للنص فيما يتعلق بسيرة الشخصية التي يتولى إفراغها في قوالب غير جامدة لا تتشبث بثوابت و قواعد أدب تراجم الشخصيات أو السيرة الغَيرية المشار إليها قبلا، و هي التي وضح الناقد المغربي "صدوق نور الدين" اشتباكاتها بقوله: "وقد تتمظهر الترجمة الذاتية في الصورة التي تأتي عليها السيرة الذاتية أو (الرواية)، لولا أن مهمة الإنجاز الإبداعي يتفرد بها شخص لا علاقة له بهذه الحياة. إن الترجمة الذاتية هي قصة حياة، أقول إنها السيرة الغيرية لا الذاتية، السيرة التي تختار من ينجز مسؤولية تدوينها، سواء بصدد شخص لا يزال على قيد الحياة، أو من آل إلى الانتهاء واستمدت تفاصيل حياته من كتبه، ومما روي عنه وتدوول شفويا في حقه، وهو ما نلفيه في (معجم الأدباء) مثلا، أو فيما كتبه "عباس محمود العقاد" بخصوص (العبقريات)"(18). فكيف تعامل "نعيم عطية" مع المواد العلمية الخاصة بسير هؤلاء الفنانين و التي سبق و أن استقاها من مصادر بلغات شتى؟ و ما هي حدود تخطيه أو التزامه لمقتضيات التأريخ الحرفي وفقا لضرورات قالبه الحواري المسرحي في وسيطه (النصي)؟
يتكفل هو نفسه بمهمة الشرح و التوضيح حين يقول في المقدمة: "و إذ أسائل نفسي عن حدود دوري كوسيط بين هذه الرؤى و بين قارئي، لا أجد أنسب من دور المخرج، فأنا أحرك شخوصي، و أنطقهم بالكلام، و أعد ديكورا مناسبا، و أوزع الأضواء، و أتحكم في الإيقاع، و أقدم للقارئ في النهاية حياة هؤلاء المصورين على الورق. و أنا كالمخرج لا أغير في النص، و لا سلطان لي على الواقع إلا بالتوجيه. كل ما لي هو أن أستخدم الكلمة، و هي وسيلتي الوحيدة، في عرض النص الدرامي الذي كتبه هؤلاء الفنانين الشجعان بدمائهم و أنفاسهم و أعصابهم طوال حياتهم الحافلة"(19).
و دون تكرار لما سبق، من خلال عبارته الشارحة للجوانب النصية في صياغته متداخلة الأجناس يتبين بجلاء إلمامه بالوسائط المتباينة التي ينبغي إشراكها في مثل هذه النصوص – بصرية و سمعية و نصية و إيقاعية – و تحديده لدور المخرج ليكون مكافئا لدور مبدع النص متداخل الأجناس للتعبير عن خصوصية العملية التوليفية لدى كل منهما.
أما العامل (البصري) فبرغم تأثره بظروف الطباعة أحادية اللون التي كانت سائدة في فترة طباعة الكتاب – 1968 – مما أهدر قيمة العامل اللوني للأعمال التصويرية الواردة في الصور، إلا أنه ساهم من جهة أخرى في تأكيد قيمة العنصر الخطي، العنصر الرئيسي في فن الرسم الذي سبق و أن أعلاه كعنوان لإبداعات هؤلاء الفنانين.
غير أن تجميع الصور في نهاية الكتاب قد تسبب على نحو آخر في الانتقاص من قيمة الوحدة العضوية التي تتطلبها صياغة مثل هذا النوع من النصوص (متداخلة الأجناس)، و التي تستدعي إشراكا و استحضارا للصورة ضمن بنية النص و تبادلها إيقاعيا مع النص المكتوب.
خاتمة:
إن فرادة الصياغة اللغوية في كتابات "نعيم عطية" ذات الصلة بالشأن التشكيلي تطرح مثالا ساطعا لقدرة النص النقدي على التجلي في قوالب غير اعتيادية يصح اعتباره معها ضربا من ضروب الإبداع الفني المستقل بصرف النظر عن محتواها المعرفي المتعلق بالإبداع البصري الموازي الذي استدعى صياغة ذلك النص النقدي لتلبية المقاصد النقدية المتعارف عليها.
و نصوص "نعيم عطية" و إن كانت سابقة زمنيا لمقولات (تداخل الأجناس) الحديثة نسبيا إلا أنها تتمتع بقسط غير منكور من سمات النصوص متداخلة الأجناس مع الأخذ في الاعتبار الفارق الأساسي المتمثل في عدم اعتماده على الكمبيوتر كوسيط لصياغة النص كما عليه حال مبدعي نصوص الأدب الرقمي و التفاعلي.
و على كافة المستويات لا نملك سوى الاحتفاء ب"نعيم عطية" تسليما بمكانته كقامة موسوعية نجحت في فرض نسقها الخاص و وضع بصمتها غير المنكورة على وجه المشهد الثقافي العربي بعامة.
التوصيات:
يوصي الباحث بأهمية الالتفات لضرورة تصدي عدد من الباحثين من المتخصصين في الآداب و الفنون و نظرية النقد لمهمة جمع و تبويب مجموعة المقالات المتناثرة في الصحف و المجلات العربية ل"نعيم عطية" لتصنيفها بيبلوجرافيا و تخصيص دراسات موازية لها، و ذلك لما تمثله من ثروة بحثية جديرة برسم صورة مكثفة لحقبة كاملة من الثقافة المصرية في شتى المجالات.
د/ ياسر منجي

الهوامش و الإحالات:
(1) في هذا السياق أود أن أشير إلى آخر المستجدات التي باتت تشغل الساحة النقدية حديثا في مجال تناول ضرب من ضروب النصوص المعاصرة؛ ألا و هي النصوص التي تُعرف حاليا باسم (النصوص التفاعلية)، و هي التي تتم كتابتها و صياغتها من خلال جهاز الحاسب لكي يتم طرحها من خلاله أيضا على المتلقي سواء اتصل بشبكة الإنترنت أم لم يتصل – باستخدام وسائط أخرى كالأقراص المدمجة مثلا – و التي يتحقق فيها شرط تداخل عدد من الوسائط و الأجناس الأخرى كالصور الثابتة و المتحركة و الأصوات و الموسيقى... الخ، و التي يمكن للمتلقي أن يتفاعل معها عن طريق الضغط و النقر على مواضع معينة تحيله إلى تنويعات شتى من النصوص و الإمكانيات الأخرى. و في هذا الصدد استقر نقاد الأدب على أن التجربة الأولى التي دشنت لمثل هذا النوع من النصوص عربيا في مجال الشعر كانت للشاعر العراقي "مشتاق عباس معن"، انظر الموقع التالي للاطلاع على قصيدته التفاعلية:
http://www.alnakhlahwaaljeeran.com/aalan-000000-dwain.htm
أما في مجال الرواية التفاعلية العربية فقد استقر الرأي على اعتبار رواية "صقيع" للكاتب "محمد سناجلة" الرواية الأولى في هذا السياق، و هي التي يمكن الاطلاع عليها من خلال الرابط التالي:
http://www.arab-ewriters.com/?action=ShowWriter&&id=243
و انظر أيضا للباحث مقاله عن تداخل الأنواع الفنية من خلال مقال (الفنون في عصر الصورة الإلكترونية) على الرابط التالي:
http://www.arab-ewriters.com/?action=ShowItem&&id=3701
(2) لمزيد من التوسع بخصوص تداخل الأجناس يمكن الرجوع إلى "رينيه ويلك" في كتابه (نظرية الأدب) ترجمة محي الدين صبحي – مطبعة خالد الطرابيشي 1972، و كذلك "صالح هويدي" في كتابه (النقد الأدبي الحديث، قضاياه و مناهجه) منشورات جامعة السابع من إبريل، ليبيا 1998.
(3) و في هذا الصدد ينبغي الالتفات إلى ريادة "نجيب محفوظ" في روايته (الحرافيش) التي حوت ضمن بنيتها السردية مجموعات شعرية فارسية مكتوبة بحروف عربية تم توظيفها على نحو بارع كفل إضفاء البعد الغيبي على عالم شخوص الرواية.
و قد توسع "جمعة اللامي" في هذا المنحى إلى حد أن الشطر الأعظم من روايته (مجنون زينب) قد صيغ صياغة شعرية.
و يبدو أن هذا الالتفات من قبل النظرية لمثل هذه النصوص قد ولد إشكالية على مستوى التصنيف حتى لنصوص قديمة نسبيا؛ و من ذلك إقرار عدد من النقاد بصعوبة تصنيف كتاب (المعذبون في الأرض) للدكتور "طه حسين".
(4) كأمثلة على ذلك: قصيدة (الأرض الخراب) للشاعر "ت. إس. إليوت"، قصائد "بدر شاكر السياب" خلال مرضه الأخير، قصيدة (نشيد أوروك) ل"عدنان الصائغ" و أيضا معظم أشعار "سعدي يوسف".
كما كانت للظاهرة المذكورة أمثلة قوية على مستوى الشعر العربي القديم؛ مثلا قصة "دارة جلجل" عند "امرئ القيس" قصة "الثور" في شعر "أبي ذؤيب الهذلي"، وقصة "الذئب" في شعر "البحتري" و كذلك قصة "الأسد" في شعر كل من "البحتري" و"المتنبي"، أنظر "عبد الله الغذامي" في كتابه (المشاكلة و الاختلاف)، المركز الثقافي العربي 1994.
(5) انظر: نعيم عطية، ديوان كفافيس شاعر الإسكندرية، دار سعاد الصباح 1993.
(6) هو الشقيق الأصغر للزعيم المصري "سعد زغلول"، وكان "أحمد فتحي" من رجال القانون والقضاء، ورواد الترجمة في مصر، بجانب اهتماماته السياسية والتعليمية والصحفية.
كان اسمه في الأصل "فتح الله صبري" شارك في الثورة العرابية وكان من خطباء هذه الثورة، وعندما فشلت واحتل الإنجليز مصر رفت من المدرسة بقرار من وزير المعارف، فقام بتغيير اسمه والتحق بمدرسة الألسن عام 1883م، وسافر في تلك السنة لدراسة القانون في أوربا، وعاد في سنة 1887م حيث عين في القضاء وتدرج في مناصبه حتى أصبح رئيسا لمحكمة مصر.
ربطته علاقة قوية باللورد "كرومر" -المعتمد السامي البريطاني في مصر- وشارك كقاض في محكمة دنشواي سنة 1906م التي قضت بإعدام عدد من الفلاحين أمام أهليهم؛ وهو ما هز الوجدان الشعبي المصري، وكان هو الذي صاغ حيثيات الحكم، وكان لهذه الحادثة المؤلمة أثرها القاتم على تاريخه وسيرته وأعماله، وإذا ذكر اسمه اقترن بما ارتكبه في دنشواي.
لم تكن تربطه علاقة جيدة بأخيه سعد، ترجع إلى عوامل الغيرة والتنافس، وكان يرى أن أخاه سبب في الحيلولة دون ترقيه إلى الوزارة، وكان يعتقد أنه يتمتع بمواهب وقدرات تفوق سعدا، وقد أورد سعد في مذكراته جانبا من شخصية أخيه.
كان أحمد فتحي زغلول من رواد حركة الترجمة في مصر، وكان يرى أن حركة الترجمة تسبق حركة التأليف في نهضة الأمة المصرية، وكان يتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية بجانب امتلاكه ناصية اللغة العربية.
ومن أعماله الكبرى في الترجمة "سر تقدم الإنجليز السكسون" لادمون ديمولان، و"سر تطور الأمم "لجوستاف لوبون، و"روح الاجتماع" لجوستاف لوبون، و"أصول الشرائع" لجيرمي نبتام، إضافة إلى تأليفه لبعض الكتب مثل "المحاماة" و"شرح القانون المدني" و"الآثار الفتحية".
ساهم مع أحمد لطفي السيد في إنشاء جريدة "الجريدة"، وكان عضوا مؤسسا في "الجمعية الخيرية الإسلامية، وساهم في وضع نظم المعاهد الدينية الأزهرية.
(7) وصفه "العقاد" بقوله: "كان ذا ذلاقة لسان لا تطيق نفسها و لا تريح صاحبها" و وصفه معاصروه بأنه كان ذا مقدرة بلاغية استثنائية مكنته من التنقل كيفما شاء بين فنون الفصحى و العامية على نحو يجعل من يستمع إليه مشدوها و مأخوذا ببلاغته الآسرة.
و بالرغم من حب المصريين له إلا أنه ارتكب ذنبا لا يغتفر حين وقف في جانب الاحتلال البريطاني ممثلا للادعاء ضد أهالي "دنشواي" مما تسبب في صدور الحكم الشهير بإعدام و جلد شهداء الحادث – الغريب أن إصدار الحكم جاء من قبل "احمد فتحي زغلول" – مما لطخ تاريخه بالعار حتى وفاته، و لهذا السبب قال فيه الشيخ "عبد العزيز البشري" قولته المشهورة: "... عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب و يبغضه ناس أشد البغض، إلا أن هؤلاء و هؤلاء لا يسعهم جميعا إلا التسليم بأنه رجل عبقري"، أنظر (مذكرات إبراهيم الهلباوي: تاريخ حياته) تحقيق عصام ضياء الدين، تقديم عبد العظيم رمضان.
(8) صادر عن دار المعارف بالقاهرة عام 1980.
(9) انظر السيرة الذاتية له على موقع قطاع الفنون التشكيلية من خلال الرابط التالي:
http://www.fineart.gov.eg/Arb/CV/print_my_cv.asp?IDS=2084
(10) صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2005.
(11) المرجع السابق ص 3.
(12) نفس الموضع.
(13) المرجع السابق ص 3، 4.
(14) أهمها كتبه الثلاثة: (من رواد الفن الحديث) الصادر عن الدار القومية للطباعة و النشر عام 1965 و (خمسة رسامين كبار) الصادر عن دار الكاتب العربي للطباعة و النشر عام 1968 و (دنيا هذا الفنان) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1988
(15) هي السِيَر التي يصوغها الكاتب عن آخرين غيره، و الذين يكونون عادة من الشخصيات العامة و التاريخية و هي بذلك تختلف عن أدب (السيرة الذاتية/ أوتوبيوجرافي) و أدب (سِيَر القديسين/هاجيوجرافي) المعروف في الغرب، الباحث.
(16) راجع ثروت عكاشة، فنون عصر النهضة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(17) نعيم عطية، خمسة رسامين كبار، مرجع سابق، ص2.
(18) صدوق نور الدين، سير المفكرين الذاتية، المركز الثقافي العربي 2000، ص 15.
(19) نعيم عطية، خمسة رسامين كبارن مرجع سابق، ص 6،5.
قائمة المراجع:
1- ثروت عكاشة، فنون عصر النهضة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2- رينيه ويلك، نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، مطبعة خالد الطرابيشي 1972.
3- صالح هويدي، النقد الأدبي الحديث، قضاياه و مناهجه، منشورات جامعة السابع من إبريل، ليبيا 1998.
4- صدوق نور الدين، سير المفكرين الذاتية، المركز الثقافي العربي 2000
5- عبد الله الغذامي، المشاكلة و الاختلاف، المركز الثقافي العربي 1994.
6- مذكرات إبراهيم الهلباوي: تاريخ حياته، تحقيق عصام ضياء الدين، تقديم عبد العظيم رمضان.
7- نعيم عطية، ديوان كفافيس شاعر الإسكندرية، دار سعاد الصباح 1993.
8- نعيم عطية، نساء في المحاكم، دار المعارف، 1980.
9- نعيم عطية، مسرح العبث: مفهومه – جذوره – أعلامه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005.
10- نعيم عطية، خمسة رسامين كبار، دار الكاتب العربي للطباعة و النشر، 1968
11- نعيم عطية، دنيا هذا الفنان، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1988.

Saturday, August 04, 2007

رواية مولد سيدي بسيسة



مولد سيدي بسيسة

رواية

د. ياسر منجي

دار هلا للنشر و التوزيع
6 شارع الدكتور حجازي، الصحفيين – الجيزة – جمهورية مصر العربية.

تليفون: 33041421 (202)
فاكس: 33449139 (202)

الموقع الإلكتروني: http://www.halapublishing.net/
البريد الإلكتروني: hala@halapublishing.net
مدير التسويق: hazim@halapublishing.net


Moulid Sedi Bseesa

Yasser Mongy

Hala Publications
6 Dr. Higazi st, ElSahafieen, Giza, Cairo, Egypt.

Tel: (202) 33041421
Fax: (202) 33449139

Web:
http://www.halapublishing.net/
E-mail:
hala@halapublishing.neMarketing Director: hazim@halapublishing.net

افتتاحية الرواية


وجدت العبارات الآتية مكتوبة بمداد أحمر، على رق مطوي و محشور في شق بأحد الألواح الخشبية العتيقة السبعة التي كانت تدعم سقف ضريح "سيدي بسيسة"، و ذلك عقب هدم السقف القديم لاستبداله بآخر من الخرسانة المسلحة:

[ أما بعد،

فهذه خلاصة مما تناهى إلينا و وقعنا عليه من تاريخ العارف الأكبر و الكبريت الأحمر و مسك العلوم الأزفر، سيدي الشيخ "بسيسة" دفين "أرض الزغل".

و كنا قد تحصلنا على ترجمته بخط محسوبه و تلميذه و خادم ضريحه [ساقط في الأصل] غفر الله له و نفعه ببركة مخدومه آمين.

و على هامشه كتاب (الدرة النفيسة في مآثر مولاي بسيسة)، و أكثره ساقط للأسف و أغلب ظننا أنه بفعل جهل الجاهلين و حسد الحاسدين.

و يليه كتاب (ما كان من أمر الدنيا و ما يكون إلى يوم الوعد المكنون) و هو درة فريدة في بابه؛ إذ حوى من المعارف التاريخية و أسرار سير الأولين و المتأخرين ما تعجز عن خطه أقلام العلماء الراسخين و الأئمة الواصلين، و الثابت لدينا أنه من قبيل الفتح اللدني و الإلهام الكشفي؛ إذ يعرف قارئه بمقتضاه ما حدث و ما يحدث (إلى هنا و يتوقف القلم خشية الانزلاق إلى الكبائر بعد اللمم).

و قد رأينا أن نكتفي منه بما تيسرت لنا الإحاطة به من بدء ولادة المكابد الصابر و المبتلى الشاكر، الشيخ "صادق بسيسة" الذي يكفيه شرفا أن يكون اسمه مشتقا من اسم مولانا الأكبر، و قد رأينا أن في ذلك الكفاية من حيث إن كثيرا من أهل التصنيف و كتاب التواريخ كانوا قد سبقونا إلى تأريخ أحداث الدنيا منذ خلق "آدم" عليه السلام و ما كان من عصيانه و هبوطه إلى دار الفناء و البلاء، مرورا بتواريخ الأمم الغابرة و سير الأولين و الصالحين، فلم نرد أن نكرر ما سبقنا إليه المتقدمون و رأينا مبتغانا في أن نسوق للمتأخرين ما فيه العظة و المزدجر من تراجم المحدثين الذين نالتهم فيوض من بركة "سيدي بسيسة". ]

يلي ذلك تآكل في الرق و اختلاط في المداد على نحو يصعب معه الحصول على معنى مترابط، فيما عدا سطر واحد أشار إلى مكان مجلد زعم كاتب الرق أنه النسخة الوحيدة المتبقية التي سطرها آخر فرد من أفراد "آل بسيسة" اعتمادا على ما تبقى في ذاكرته من سيرتهم، و ما اطلع عليه في الكتب المذكورة سابقا قبل أن يحرقها خشية أن تقع في يد من لا يستحق.
و حين عثرنا على المجلد، وجدناه مغلفا بغلاف عنون بعنوان لأحد مصنفات التصوف و موضوعا ضمن الكتب العديدة المحيطة بقبر "سيدي بسيسة" المكسو بالحرير الأخضر.
عام 1896
1
تحسست "ستوتة" ملمس الطلاء الجيري المتشقق بأناملها المصبوغة بحناء بهت لونها. أخذت تمر بكفيها على الجدار الطيني المغطى بطبقة من الكلس المتآكل التي كشفت عنها شقوق الطلاء، لتبين حفرا و أخاديد و نتوءات تغزل وشما عتيقا على الحائط الخارجي لضريح "سيدي بسيسة".
كان الضريح يقبع متوحدا، محاطا بفضاء شاسع من الأرض المنزرعة التي لا يقطع استرسالها سوى خط مرتعش رمادي اللون، يرسم على استحياء هياكل البيوت الطينية شرقي البلد، يقابله من الغرب - و بنفس القدر من البعد الشاسع عن الضريح – نقاط بيضاء متراصة، تبدو لعين الغريب كتجمعات أبي قردان على رؤوس الحقول، بينما تتوجه إليها عيون أهل البلد حين تحن الذكرى للراحلين إلى غير رجعة و يتدفق الوفاء على الألسنة مشفوعا بقراءة الفاتحة.
المعلم الوحيد الذي ارتبط بضريح "سيدي بسيسة" و اقترب منه إلى درجة اعتباره جزءا ممتدا من كيانه كان هو بئر الساقية العتيقة التي تقع على مرمى حجر من الضريح، و التي توقفت منذ زمن غير معلوم عن ممارسة دورها الاعتيادي في سقيا الأرض، متحولة إلى سبيل موقوف على ضريح "سيدي بسيسة" و زواره فاكتسبت مع الزمن لقب "ساقية سيدي بسيسة".
لم يكن أحد من أهل البلد يعلم متى بني ضريح "سيدي بسيسة" و لم يكن أحد يعلم من هو "سيدي بسيسة " على وجه التحقيق، و برغم تعدد الأذهان المعمرة التي تحكي قصصا عن أصل كل شيء في البلد، و برغم الذخيرة الجاهزة دوما لتفسير كل شيء في الكون – بداية من كيفية الخلق نفسها و انتهاء بأسباب إنفاذ إيطاليا لمن ينوب عنها في عقد وفاق الصلح مع النجاشي "منيلك" على أثر الحروب الأخيرة – إلا أن الجميع قد عجزوا عن إبداء أية تفسيرات بشأن الأسباب التي دفعت الأجداد لتبجيل "سيدي بسيسة" على هذا النحو، و تنصيبه وليا حاميا للبلد و واسطة عقد لتخطيطها المعماري الدنيوي و الأخروي، و مركزا عتيدا لاستقبال شكاوى أهل البلد و مخاوفهم و آمالهم المشكوك بتحققها.
غاية ما يعرفه الجميع أن ضريح "سيدي بسيسة" هو مستقر أقوى الأسرار الروحية في زمام البلد و القرى المحيطة بها؛ إلى الحد الذي جعل من مولده السنوي موعدا منتظما لالتقاء الآلاف من سكان البلد و الوافدين عليها، حاملين نذورا تعكس تباينات طبقية واسعة المدى. و الأغلب أن هذه الأسرار الروحية هي ذاتها التي تسببت في منع حكماء البلد من تلفيق أية حكايات مكذوبة عن أصل "سيدي بسيسة" خوفا من بطشه، مكتفين بالحكايات المتواترة عن معجزاته و كراماته التي خبرها الكثيرون على مر السنين، و الأغلب أيضا أنها هي السبب في عدم الاجتراء على تناول المبنى الصغير للضريح بالتعديل أو الإضافة – برغم سخاء النذور و الهبات – إلا في حالات الضرورة القصوى التي يفرضها تصدع واضح في أحد الجدران أو انهيار أجزاء من القبة الخضراء بفعل توالي الشمس و الأمطار أو انهيار قمة بئر الساقية لأي سبب من الأسباب، فاقتصرت علامات السخاء على تكدس أفخر الأنواع من أوشحة الحرير الأخضر و الأبيض التي تكسو القبر بادية للعيان من شبابيك الضريح الأربع، محاطة بعشرات المصاحف الفاخرة الواردة من رحلات الحج التي لا يستطيع سوى الأغنياء إليها سبيلا، مسجلين امتنانهم بالعودة من الرحلة الخطيرة التي كانت تتم على ظهور الجمال. إلا أن أفخر الذخائر التي تمتع بها ضريح "سيدي بسيسة" و أكثرها قداسة كانت قطعة صغيرة من كسوة الكعبة، قدمها "حيدر نامق باشا" حين أعيته الحيلة في شفاء الشلل الذي ألم بنصفه الأيسر، فنصحه البعض بزيارة "سيدي بسيسة" و النذر له و الاغتسال من ماء الساقية. و برغم وفاة "حيدر نامق باشا" بعد فترة وجيزة من زيارته لضريح "سيدي بسيسة" إلا أن قطعة الكسوة المقدسة ظلت دليلا دامغا على تفوق "سيدي بسيسة" على أقرانه من أولياء القرى المجاورة، و مثارا لفخر البلد و عنوانا على قيمتها و ثقلها الاعتباري بين هذه القرى.
طافت "ستوتة" بجدران الضريح و هي تواصل تحسس الملمس الجيري ذي الأخاديد، فأخذت تتداعى على ذهنها ذكريات طفولتها حين كانت تداعب جدها الطاعن في السن، متحسسة الأخاديد العميقة في تجاعيد وجهه و هو يحكي لها قصصا أسطورية عن كرامات و معجزات "سيدي بسيسة" التي جبرت خواطر المكسورين و الحزانى.
كانت "ستوتة" و هي تطوف بالضريح ملتصقة بجداره المتآكل تتقلب في أحاسيس شتى من الجزع اليائس و الأمل الواثق في كرامات الولي العتيد، و مع تكرار طوافها الملتصق بالبناء المتآكل أتت عليها لحظة من الزمن غير محددة الطول، فقدت فيها اتصالها بكل ما يحيط بها من فضاء البلد الشاسع بمزروعاته الممتدة، فلم تعد تشعر بخفق الهواء في ثنايا حبرتها السوداء و لا بصوت الحدأة التي تحوم قريبا في انتظار سنوح فرصة القنص. كل ما كانت تعيه حواس "ستوتة" هو ملمس الشقوق الطينية، و توالي التغيرات في انحناء و بروز جدار الضريح و تعاقب نوبات الأمل بخروجها إلى الجانب المضيء المواجه للشمس من الضريح، وانقضاض نوبات اليأس بدخولها في منطقة الظل بالجانب الآخر.
- و النبي يا "سيدي بسيسة"، و حياة مقامك الطاهر و النبي.... تجبر بخاطري و ما تردنيش مكسورة.... و النبي يا "سيدي بسيسة" و النبي، حتة عيل يبرد ناري و يثبت قدمي في دار جوزي و يكسف عوازلي.
- و النبي يا "سيدي بسيسة"، و حياة الكسوة الطاهرة اللي مشرفة مقامك الطاهر... حتة عيل و أنا قابلة به و لو يكون فيه علة، كله حلو منك يا "سيدي بسيسة" و لو يكون أعمى و لو يكون أعرج.... و النبي يا "سيدي بسيسة".
- و رحمة النبي "محمد" يا "سيدي بسيسة" إن ربنا جبر بخاطري بولد لاسميه "بسيسة" على إسمك و اوهبه لخدمة القرآن و العلم الشرعي... و النبي يا "سيدي بسيسة".
صرخت الحدأة و هي تنقض على أحد جرذان الحقل، انتفضت "ستوتة" لترمق الحدأة و للحظة خاطفة خيل إليها أنها رسمت بامتداد جناحيها الخافقين شكلا مصغرا لحبرتها السوداء، و تناهى إلى سمعها صرير عتيق من أخشاب الساقية، غير أنه بدا لدهشتها كما لو كان صادرا من داخل الضريح نفسه.

Sunday, May 06, 2007

الذاكرة المفقودة - شطارة الأسطوات الأوائل في أعمال زكي مرسي







من المعضلات الجسام التي باتت تضرب ضربا سرطانيا في بدن الكيان الفني المصري؛ تلك المعضلة الخاصة بمسألة الذاكرة التاريخية، و هي معضلة مركبة تنطوي على أكثر من وجه و على أكثر من علة و على أكثر من إرهاصة بنتائج كارثية لو لم يتم تداركها على نحو ملائم يتوخى مقتضيات البحث العلمي التاريخي و يستهدف رأب الصدع الخطير .
فمن الثابت أن هناك أبعادا متعددة من جوانب تاريخ الفن المصري الحديث لم تستوف حظها بعد من الاستقصاء و الدراسة بغية البت في شأنها، و أن هناك عديدا من فناني الجيل المصري الأول لم يستوفوا حظهم من المتابعة و النقد و تسجيل الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى إلقاء ظلال كثيفة على زوايا هامة و مفصلية من منعطفات بداية القرن السابق، فباتت سراديب مهجورة تسيطر عليها التخمينات الراجفة و تهيمن عليها الأحكام المعممة .
و قد تواطأت عدة أسباب على إفراز مثل هذه العلة؛ على رأسها انعدام الكيان النقدي المتخصص في فترة التكوين المشار إليها في مطلع القرن السابق، مما أدى إلى اقتصار فعل النقد بمعناه الدقيق على نفر من النقاد الغربيين و المتمصرين و من لف لفهم من الكتاب المصريين المرتمين في أحضان النخبة الأرستقراطية، الذين كانوا يحتكرون منابر الكتابة الصحفية المعنية بتتبع الحركة الوليدة، فضلا عن احتكارهم أحيانا – أو مشاركتهم في احتكار – قنوات تنظيم العروض و الفعاليات بمفهوم هذه الفترة. فلا غرابة إذا ما أتى الناتج النقدي – مع كثير من التساهل في إطلاق لفظة (نقدي) عليه – محتفيا بإنتاج الفنانين الأجانب المقيمين بمصر و مقلديهم و صبيانهم من المصريين، مغفلا على الجانب الآخر لكثير من أفراد الرعيل الأول الذين اتجهت همتهم إلى استثمار ما تعلموه من تقاليد الأكاديمية في إبداع فن يدور في فلك الخصوصية المصرية و ينبش خلف سمات التميز الكامنة في طبقات الموروث الحضاري .
و مما ساعد على التمكين لتلك الأزمة على نحو أعمق؛ التفاف الذائقة الوطنية في تلك الفترة حول قامات مصرية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة عددا، على رأسهم "مختار" و "محمود سعيد" لأسباب عدة أتى على رأسها اشتباك أعمالهما – خاصة الأول – مع السياق الوطني المشتعل خلال فترة ثورة 1919 و تماهيه مع شخصية الزعيم "سعد زغلول"، الأمر الذي كرس لمفهوم (زعماء الفن) في مقابل (زعماء السياسة) في إهالة لمزيد من ركام النسيان على من عداهم من أفراد الجيل الناهض في تلك الفترة ممن لم يقيض لهم الارتفاع إلى سطح الحدث السياسي أو الانتماء إلى طبقة نخبوية تقيض لهم ترف الاختيار و الرفض و التقلب بين بوهيمية العيش و أرستقراطية الثقافة و ارتداء المسوح الشعبية مع ضمان رغد العيش، مثلما كان الحال لدى "ناجي" و "محمود سعيد" . و هو ما أدى إلى حتمية تراجيدية تمثلت في خطين أساسيين لا مهرب منهما لأبناء الظل من مغبوني الحظ الفني للرعيل الأول: الخط الأول أتى في ضرورة الانصراف عن الشأن الفني برمته و السعي خلف لقمة العيش و احتراف مهن لا علاقة لها بما سبق و أن خططوه لمستقبلهم الفني في فترة زهوة الأحلام. بينما تمثل الخط الثاني في تشبث شاعري أفلاطوني بالعشق الأول و الأخير، و متابعة الإنتاج في صمت دونما أمل في الانتماء لدائرة الضوء مع الاكتفاء بمتعة التجربة الفنية لذاتها لا لمكتسباتها، و البحث عن مصادر للدخل مشتقة من إمكانية توظيف المهارة الفنية لمقتضيات السوق التجارية.
و إلى ذلك الصنف من أصحاب الخط الثاني انتمى الفنان الراحل "زكي مرسي عبد الرحمن" (1911 – 1985) (شكل رقم 1) الذي ولد بحي الأزهر في بداية العقد الأول من القرن السابق.
و لنا أن نتخيل ما يمكن أن يطبعه الزخم الروحي و المناخ الفني الإسلامي لهذا الحي العريق في مطلع القرن المذكور على موهبة فطرية قررت أن تتلمس طريقها إلى دراسة الفن و احترافه في مرحلة تاريخية تميزت بالنظر إلى الفن نظرة التوجس و الارتياب، و بالرغم من






ذلك فقد بدأ "زكي" تحديه الخاص بأن التحق في سنة 1926 أي وهو في عمر الخامسة عشر بإحدى مدارس الرسم الخاصة؛ تلك التي كانت تديرها الجالية الإيطالية و التي اشتهرت باسم "تيفورنو"؛ حيث استغرق عامين كاملين في دراسة فن التصوير طبقا لقواعد الأكاديمية الغربية، مما كان له أبلغ الأثر على صقل أدواته و تميزه على نحو ملحوظ حينما انتقل إلى دراسته النظامية بعد قرابة العامين بمدرسة الفنون الجميلة و تحديدا في عام 1928.
غير أن البداية الحقيقية لم تكد تتضح معالمها للفنان "زكي مرسي" إلا حين اتجه بمبادرة شخصية منه للمرة الثانية لدراسة تقنيات فن الحفر و الطباعة على يد الفنان الإيطالي "كونشيولي" بمعهد "ليوناردو دافنشي" في عام 1931 أي بعد مرور ثلاث سنوات على التحاقه بمدرسة الفنون و في سن العشرين؛ مما يفصح عن تركيبة شخصية مبادرة طموحة لا تقنع بالمعتاد و المتاح من مصادر المعرفة الفنية و تسعى دوما للاستزادة بنهم من أرصدة الأسرار لدى ذخائر المعلمين المحترفين على اختلاف مناهجهم و طرائقهم في التدريس.
و كان لابد لهذا التنوع التقني و المنهجي أن ينعكس على أعمال الفنان؛ و التي أتت على نحو من الثراء و التنوع قل أن يتوافر لدى نظراءه من الفنانين، سواء من حيث تعدد الموضوعات التي تناولها بالمعالجة و الدراسة، أو المجالات الفنية التي اقتحمها تصويرا و رسما و حفرا، أو التقنيات التي خاض غمارها تجريبا و بحثا، فضلا عن غزارة في الإنتاج جعلت من الصعوبة بمكان إجراء حصر دقيق لمجموع أعماله التي أنتجها على مدار خمسين عاما هي فترة عمره الفني، ترك خلالها أكثر من مئة و خمسين أفيشا سينمائيا منفذة جميعها بتقنية الطباعة المسطحة بواسطة قوالب الحجر (الليثوغراف) ينتمي معظمها لأواخر عقد الأربعينيات و حتى منتصف عقد الستينيات من القرن المنصرم، و عدد من الأعمال الفنية المحفوظة بالمتحف الزراعي بالقاهرة بالمشاركة مع آخرين، فضلا عن عدد ضخم من أعمال طباعة الشاشة الحريرية التي عالج بها موضوعات مستلهمة من التاريخ المصري القديم، ناهيك عن مئات من الأعمال و الدراسات و المشروعات غير المكتملة في مجالات التصوير الزيتي و الرسم و الحفر التي ظل مخلصا لها حتى اعتزاله القسري عام 1980 بتأثير ضعف الحالة الصحية التي أعقبتها وفاته في عام 1985.
و الصفة المميزة للفنان "زكي مرسي" تتمثل في فكرة (الاحتراف المتمكن) بالمفهوم المصري الذي تدل عليه لفظة (الشطارة)؛ و يمكن اعتباره طبقا لهذا المفهوم (أسطى) من الأسطوات الذين لا تنفصل لديهم خبرة المتعة الجمالية بالعمل الفني عن مهارة الأداء و شمولية الإحاطة بأسرار الصنعة الفنية، و هو في ذلك ابن شرعي بكل المقاييس لذلك الجيل الغابر من أسطوات الفن المصريين الذين سبق للسلطان "سليم" اقتيادهم للأستانة لاستغلالهم في توشيتها بتلك الحلة الباهرة من الرونق الفني القائم على تقاليد عريقة من أسرار الأداء و شطارة الحرفة المصرية.
و حين نتناول بعض أعماله بالتأمل لا نلبث أن يغمرنا ذلك الدفق الفوري من الإعجاب و الدهشة إزاء ذلك التمكن الأصيل من أصول الأداء و الفهم الراسخ لأجرومية التكوين الفني و الحبكة المهارية التي شرعها النهج الأكاديمي، مضافا إليه ذلك الإخلاص العميق للهوية المصرية و الصدور عن إحساس جارف بخصوصية الميراث الحضاري؛ و هو ما نلمسه بوضوح في أحد أعماله المنفذة بتقنية الحفر بالأزميل على القالب المعدني – و هي واحدة من أصعب و أعقد تقنيات الحفر و الطباعة، لما تتطلبه من مهارة شديدة في التلخيص و الإيهام و طرح القيم الظلية في مساحات متباينة بالاعتماد على الخط فقط، فضلا عما يكتنفها من مشقة الإرهاق خلال حفر المعدن يدويا – حيث أتت معالجته للموضوع الشاعري المستمد من الحياة الدينية بمصر القديمة؛ و ذلك حين تتولى إحدى الغيد الحسان للمعبد مهمة إطعام و رعاية سرب كامل من أسرار الطائر المقدس "إيبس"، ذلك الطائر الذي عد بمثابة أحد التحققات الشكلية للإله "تحوت" رب المعرفة و السحر و كاتم أسرار الإله "رع" . و تأمل العمل يفصح عن فهم شامل للتداعيات المركبة لهذا المشهد؛ فالإضاءة الغسقية المغبشة بداخل بهو الأعمدة تطرح جوا من الرهبة التي تؤكدها نفثات البخور و وشوشات النور الرفافة في تضاعيف المشهد و التي تتوجها نصاعة الغلالة الشفيفة المحيطة بجذع حسناء "تحوت". و من نافلة القول في هذا الصدد أن نعرج على مسألة المهارة الشديدة التي تفصح عن نفسها في قوة الرسم و التمكن من تشريح الجسد الآدمي، فضلا عن دقة تسجيل التنويعات المختلفة للطائر المصري المتفرد (شكل رقم2).





و في تناوله لجانب من الحياة اليومية للمرأة المصرية يتبدى ذلك الجانب من حرفية التكوين الفني؛ و ذلك حين يتم الإيهام بالبعد الزمني لمشهد ملء الجرار بالماء في حركة تتابعية هرمية تحددها مساحات الإضاءة مبتدأة بالخط المنحني لغطاء الرأس لمالئة الجرة، صعودا نحو الجرة الممتلئة على رأس زميلتها المنتصبة، مرورا بالإضاءة التي تكتنف الرضيع الخجول و هبوطا و انتهاء بالجانب المضيء من الجرة التي يجري ملؤها، في حركة دورانية متصلة تضمن تحقيق الديناميكية في مقابل الأوضاع السكونية الثابتة التي تتخذها شخوص الحدث (شكل رقم 3).



و تتجلى المهارة التصويرية في فن البورتريه لدى الفنان من خلال تأمل أحد أعماله الذي يمثل – من وجهة نظري – "الجوكندة" الخاصة ب"زكي مرسي"؛ و هو ذلك العمل الذي تطالعنا من خلاله إحدى جميلات الريف المصري في فترة بكارته المهدرة، تحمل فوق رأسها ذلك البلاص العتيد المائل الذي يعيد تأكيد الميل غير الملحوظ لكتفها الشاب . و مع غض النظر عن الملاحة الفطرية و الرواء اللذين يميزان هذا الوجه المصري الصريح تأتي ضرورة الالتفات لوضع الفنان للموديل في منطقة (القاطع الذهبي)؛ تلك النسبة الهندسية الموروثة عبر تقاليد فنية و حضارية موغلة في القدم، و هي التي عدت من بين النسب الجمالية التي يضمن توزيع العناصر طبقا لها تحقيق إيقاع جمالي حتمي لبنية العمل الفني. كما تأتي ملحوظة تساوي خط الأرضية لمجموعة الفلاحين و النورج و الأبقار في الخلفية مع خط الكتف الأيسر للفلاحة، معيدا للأذهان ما سبق و أن حققه "ليوناردو دافنشي" بلوحة "الموناليزا" من إيهام بالتوازن بين الخلفية و الموديل؛ و ذلك حين تعمد "دافنشي" رفع خط الأفق للخلفية بأحد جوانب اللوحة إلى مستو أعلى من الجانب الآخر حتى يعادل تفاوت ارتفاع الكتفين لدى "الجيوكندة".
هكذا كان "زكي مرسي" و هكذا كانت أعماله، و هكذا كان كلاهما – الفنان و الأعمال – نموذجا مثاليا لعشرات الأسماء و القيم المهدرة في تاريخ حركتنا الفنية المصرية التي لما تكد تتم المئوية الأولى لها بعد.
هكذا حفل تاريخ الحركة بعشرات من المنسيين و المهمشين و مهضومي الحق، عمدا و سهوا، و كلاهما – العمد و السهو – حجري الرحى لمصائب الحركة الفنية المصرية.
و سواء أتت جهود كاتب هذه السطور بنتيجة أو لم تأت – و هو الأقرب للظن – في التعريف بهؤلاء و كشف الحجب عن مواطن إبداعهم و المطالبة بحقوقهم الأدبية و التاريخية و إعادة الحق إلى نصابه، فيكفيني شرفا أن أنضم إلى ركب من آلوا على أنفسهم أن يصدحوا بأصواتهم صراخا في برية الفن، علهم يصادفون من يسمع و من يعي و من يبادر و لو بالقليل في إنقاذ تراث مهدر و ذاكرة تضيع هباء بالإهمال و التغافل.
و لكي تكتمل حلقة السخرية المريرة و الكوميديا السوداء لمسيرة الذاكرة الفنية المفقودة في الواقع التشكيلي المصري، فإنكم حين تقرؤون هذه السطور يكون تراث "زكي مرسي" بسبيله للاندثار؛ حيث تتعرض أصول أعماله الخاصة بالشاشة الحريرية بأكملها للضياع – و هي تعد بالعشرات – نتيجة لعدم وجود مكان ملائم لاحتوائها بعد أن يؤول مخزنها الحالي إلى مالك العقار في ختام نزاع بينه و بين ورثة الفنان.
نداء لمن يهمه الأمر: ساهموا في رتق ثقوب الذاكرة الفنية المصرية، بادروا إلى استنقاذ جانب من تاريخها المهدر. و إلا فلن يكون كل ما نمارسه باسم الفن و باسم النقد و باسم الإبداع إلا زيفا و تلفيقا و خداعا. و حينئذ لن يأمن أي منا أن تدور الدوائر و تنقلب عجلة الحظ و يطاله ضعف الذاكرة الفنية .
د. ياسر منجي

Wednesday, April 11, 2007

ملتقى الفنانين و النقاد العرب

ملتقى الفنانين و النقاد العرب