تُبعِد الإناء عن النار الخفيفة لتجري اليد أولى إبداعاتها، ولاتكترث بالصواريخ والقذائف والطائرات.
فتلك إرادتي:سأذيع رائحة القهوة لأمتلك فجري.
.........
ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال تُرسى ببطء على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكا بطيئا بالملعقة، بشكل دائري في البداية، ثم من فوق إلى تحت، ثم تحركها تحريكا دائريا من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة، بين الملعقة والأخرى أبعِد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار، بعد ذلك "لقم" القهوة أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى ثم أعدها عدة مرات إلى اسفل. إلى أن يعيد الماء غليانه وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق لا تدعها تغرق، أطفِئ النار ولا تكترث بالصواريخ.
خُذ القهوة إلى الممر الضيق صبها بحنان وافتنان في فنجان ابيض. فالفناجين الداكنة اللون تفسد حرية القهوة، راقِب خطوط اللبخار وخيمة الرائحة المتصاعدة، أشعِل سيجارتك الآن السيجارة الأولى المصنوعة من اجل هذا الفنجان،
السيجارة ذات المذاق الكوني التي لايعادلها مذاق آخر غير مذاق السجارة التي تتبع عملية الحب، بينما المرأة تدخن آخر العرق وخفوت الصوت.
ها أنا ذا أولد امتلأت عروقي بمخدرها المنبه، بعدما التقت بينبوع حياتها، الكافيين والنيكوتين وطقس لقائهما المخلوق من يدي.
اتساءل:كيف تكتب يد لا تبدع القهوة؟
كم قال لي أطباء القلب وهم يدخنون، لا تدخن ولا تشرب القهوة.وكم مازحتهم: لحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة ولا يكتب....
أعرف قهوتي وقهوة أمي وقهوة أصدقائي أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها، لاقهوة تشبه الأخرى، ودفاعي عن القهوة هو دفاع عن خصوصية الفارق.
ليس هنالك مذاق اسمه القهوة،فالقهوة ليست مفهوما وليست مادة واحدة وليست مطلقا
لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته،
ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة وذلك يعني ان مطبخ السيدة ليس مرتبا
وثمة قهوة لها مذاق عصير الخروب وذلك يعني أن صاحب البيت بخيل
وثمة قهوة لها رائحة العطر ذلك يعني أن السيدة شديدة الإهتمام بمظاهرالأشياء
وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم وذلك يعني أن صاحبها يساري طفولي
وثمة قهوة لها مذاق القِدم من فرط ما تألب البن في الماء الساخن...
ذلك يعني أن صاحبها يميني متطرف.
وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي ذلك يعني أن السيدة محدثة النعمة
لا قهوة تشبه الأخرى، لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها،لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى، وأنا أعرف القهوة من بعيد:تسير في خط مستقيم في البداية ثم تتعرج وتتأود وتلتف على سفوح ومنحدرات،تتشبث بسنديانة أو بلوطة، وتتغلب لتهبط الوادي وتلتف إلى ما وراء وتتفتت حنيناً إلى صعود الجبل وتصعد حين تتشتت في خيوط الناي الراحل إلى بيتها الأول ...
رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشيئ الأول،لأنها تنحدرمن سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأت من آلاف السنين وما زالت تعود.
القهوة مكان.القهوة مسام تُسربُ الداخل إلى الخارج، وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها هي رائحة القهوة.
هي ضد الفطام.ثدي يُرضِع الرجال بعيداً.صباح مولود في مذاق مر، حليب الرجولة والقهوة جغرافيا....
********
محمود درويش