نشرت في الثقافة الجديدة يناير 2009
بعد أربع سنوات، وربما خمس، سأسكن بيتا مصنوعا من الخشب. سيكون خارج الكتلة السكنية، حيث يتسنى لي أن أرى حقول الأرز في الصيف تكسو الأرض بلون أخضر فاتح، وفي الشتاء يكسوها القمح بالأخضر الداكن. وسأتسلى بمتابعة تغير لونها بالتدريج حتى تجف وتصبح صفراء، وربما يذكرني لونها الأصفر بالذهب اللامع، وقد يأخذني هذا إلى أغنية قديمة كنت أغنيها وأنا في طور المراهقة، سأتذكر هذا فأنساق إلى ترديدها بنفس الروح المثالية:
" يا اللي الذهب شعرك ..
مفرود على ظهرك ...
لو أمتلك مهرك ....
يضيء لي قنديلك ...
وربما أنشغل في ترديد أغنية أخرى يذكرني بها الضباب الذي يلف الحقول كل صباح، حتما ستتناسب الأغنية التي أختارها مع ما يلقيه الضباب في نفسي من شعور بغموض العالم، ونكهة الحياة . مثل :
الدنيا ريشة في هواء
طايرة من غير جناحين
واحنا النهاردة سوا
وبكرة هنكون فين
سأرددها وأنا أنظر إلى قباب المدافن التي تظهر من بعيد، ويغطيها الضباب فتكون باهتة الألوان، وسأستبعد قرب الموت مني وأنا أسكن بيتا خشبيا ليس كباقي البيوت.
سيكون البيت المصنوع من الخشب مثيرا للفرح، وأنا أنظر من نافذته العلوية إلى حدائق البرتقال التي تمتد خلفه من جهة الجنوب. وسأشعر بالبهجة وأنا أرى حبات البرتقال وهي تتلألأ كالمصابيح ليلا بين أوراق الشجر .
البيت الخشبي الذي سأسكنه سيكون مكونا من غرفة واحدة ،مثل الكوخ الكبير. وسيوحي للناظرين بأنه مخزن للتبن أو العلف، سيكون ارتفاعه سته أمتار حتى أتمكن من بناء سندرة علوية أصعد إليها بدرج خشبي ، وحيث أستطيع أن أرى المنزل بأكمله من فوق السندرة ، وأنا أستند على إطارها المصنوع من الخشب أيضا . ستشبه السندرة الشرفة العالية وهي تطل على المنزل من الداخل . وسأخصصها للنوم بعد أن أزودها بستارة من القماش السميك كي تحجب الضوء في الوقت الذي أرغب فيه بالنوم، سأفعل ذلك في وقت القيلولة فقط، أما في الصباح فسيحلو لي أن أصحو على ضوء الشمس وهو يتسلل من زجاج النافذة الشفاف مصحوبا بزقزقة العصافير. أعرف كيف أستدرج الطيور إليّ نافذتي، سأضع فتات الخبز كل يوم على حافتها العريضة، تلك التي سأجلس عليها ليلا لأتأمل النجوم وهي تلمع في السماء مثل حبات الماس، وسأغني وقتها الأغنية الإنجليزية التي كنت أفضلها وأنا طفلة :
أيتها النجمة الصغيرة اللامعة
كم أتتعجب منك
وأنت تطلين على العالم من فوق
تشبهين الماس أعلى السماء
سأتذكر كم كنت أغنيها بشغف.. أضحك وأنا أحرك يدي في حركة مرتعشة أقلد لمعان النجوم في السماء . سأفعل ذلك وأنا جالسة على حافة النافذة أحيانا، وأحيانا أخرى وأنا مستلقية في الفراش، أستعد للنوم تحت السقف المائل وأنا أراقب لمعان النجوم .
سيكون مكان النوم في الجهة الشرقية للبيت التي تعلو الباب مباشرة وفي الجهة الغربية ستكون السندرة الثانية التي سأصعد إليها هي الأخرى بدرج خشبي، والتي سأقضي بها أكثر الأوقات، حيث سأضع بها دولابا للكتب، وطاولة صغيرة عليها الحاسوب الذي سيأخذني إلى عالم أكبر اتساعا، وحتما سأجد به سبلا إلى مدن لا أستطيع أن أراها على خارطة الكون .
سأطهو الطعام في بيتي الخشبي أغلب الأوقات على نار المدفأة التي تجاور أريكة كبيرة، حيث سيحلو لي أن أجلس أمامها على الأرض ، مرتدية البنطال الجينز والسترة السوداء والشراب الوردي القصير . سأجلس على السجادة التي يتداخل فيها اللون الأحمر بالأسود، ألتمس الدفء من النار. أراقبها وهي تلقي بضوئها البرتقالي على جسدي وملابسي، وعندما تخبو سأقوم بشي الدجاج أو السمك، على جمرها في أمسيات الشتاء. أما في الصيف فسأصنع السلطة المحببة بالنعناع وزيت الزيتون، وسأطهو المعكرونة على الموقد الكهربائي الذي سأضعه في المطبخ أسفل السندرة الغربية، حيث أصعد إليه درجتين بعرض البيت، وسأضع به طاولة الطعام الدائرية التي سيمكنني دورانها من رؤية وجوه الأصدقاء الذين سأدعوهم للعشاء.
سأعتقد وأنا أعيش في هذا البيت، بعد أربع أو خمس سنوات أني سأستمتع بالسلام والهدوء حتى أموت، وأني سأنعم بالخلود الأبدي لو فقط قدر لي أن أدفن فيه.
بقي أن أبحث عمن يساعدني في بناء حلمي الخشبي مكان معلف الأبقار الذي يتوسط الحقول، والذي سأرثه ـ ربما ـ بعد أربع أو خمس سنوات .