آخر يوم دراسة
كانت تقود سيارتها بسرعة شديدة وكأنها تهرب من شيئ ما ، رفعت نظرها إلى مرآة سيارتها لتجده كالعادة يتبعها بسيارته ويكاد يلتصق بها ، هذا المشهد الذي تكرر يومياً ولعدة أشهر منذ بداية العام الدراسي وحتى اليوم .. آخر يوم في الدراسة ، قبل أن تصل للإشارة التي تفصلهما عادة عن بعضهما ويرحل كل منهما في طريق مختلف إلى مقرا عملهما ، إنحرفت على غير العادة إلى شارع جانبي سكني هادئ ، وهدأت سرعتها تدريجياً قبل ان تقف تماماً تحت ظل إحدى الأشجار الكثيفة ، نظرت في المرآة فوجدته وقف بسيارته خلفها وعلى مقربة منها
بعد عدة أيام من بداية السنة الدراسية إعتادت فيها مصاحبة إبنتيها التوأم صباحاً للمدرسة التي إلتحقا بها في عامها الدراسي الإبتدائي الأول ، شعرت بشيئاً غريباً سرعان ماإكتشفت أن هناك من يرقبها ويتبعها بنظراته ، لم يكن إلا هذا الرجل الأنيق في منتصف الثلاثينات الذي دائماً مايرتدي بزته كاملة مع رباطة العنق ، داكن اللون قليلاً ذو وجه رجولي وشارب متوسط الطول ، لم يكن الرجل يفعل أكثر من متابعته لها بنظرات يحاول إخفائها أحياناً بنظارته الشمسية وهو يقوم بمصاحبة إبنه لنفس المدرسة قبل أن يتبعها بسيارته ذات الدفع الرباعي حتى إشارة الإنفصال ، أزعجها تكرار المشهد يومياً دون حدوث أي تغيير بصورة جعلتها تسترجع هذا الطالب الذي كان يتتبعها سيراً على الأقدام يومياً وهي في طريقها لمدرستها الثانوية للبنات ، وهو في طريقة إلى مدرسته الثانوية لمدة عامين كاملين دون ملل أو كلل ، كان ينتظرها خلف ساق شجرة ذات أغصان سميكة وأوراق خضراء صيفاً وشتاء وجذور ضاربة في القدم حتى مجيئها صباحاً فيتتبعها حتى تصل لمدرستها ثم يواصل طريقه إلى مدرسته ، لم تتغير طريقته طوال العامان ولم يبدو منه أي محاولة منه لحدوث أي تقدم في هذا الوضع ، كانت تحاول تفادي الغياب عن الذهاب للمدرسة حيث أنها باتت متيقنة أن اليوم الذي تغيبه عن الدراسة لن يستطيع اللحاق بمدرسته لتأخره في إنتظارها ، حتى أنهت دراستها الثانوية ومن يومها لم تعد تراه ورحل دون ان تعرف عنه شيئاً ، تتذكره أحيانا عندما تذهب لزيارة والدتها وتمر من أمام الشجرة ، ولكنها أصبحت تتذكره يوميا كل صباح عندما يتابعها هذا الرجل الثلاثيني الوقور
اليوم هو اليوم الدراسي الأخير لإبنتيها وهاهي رحلة المتابعة اليومية توشك على الإنتهاء في يومها الأخير ، إستنكرت سيناريو المراهقة التي عاشته سابقاً على رجل الثلاثينات ، كانت تعلم أنه يفرقها عما يسميه البعض بأزمة منتصف العمر عشر سنوات ، ولكنها كانت تدرك أنها تعانيه بين جنبات زوج أناني غير محب ، كانت تناجي الحب ولكن بينها وبين خيالها فهي تعلم بقسوة الواقع ، تساءلت بينها وبين نفسها عمّا يريده هذا الرجل وهل الإعجاب يصل إلى تلك الدرجة من الإنشغال ، وهل يبتغي هذا الرجل حباً خيالياً يحاول أن يجعله واقعياً في مراقبته اليومية لها ، كانت تدرك أنه متزوج يوم أن رأته مع إبنه وزوجته عصراً في أحد المراكز التجارية التسوقية ، إرتبكت كثيراً وهي بصحبة زوجها كما إرتبك هو عندما رآها وهو بصحبة زوجته المنتقبة ، إندهشت وقتها فلم يكن يتوافق شكله وطريقته وملابسه مع شكل زوجته
لاتدري لماذا شعرت أن الشجرة التي وقفت أسفلها تشبه تماماً تلك الشجرة العتيقة التي كانت تمر من أمامها ، وكأن القدر يريد أن يستكمل حدوتة سابقة لم تنتهي نهاية طبيعية ، ثوانٍ مرت وهي تنظر في المرآة حتى تحرك الحجر خارجاً من سيارته ذات الدفع الرباعي مترجلاً في إتجاه باب سيارتها الأمامي ، إبتسمت إبتسامة صغيرة في المرآة الجانبية تعبر عن خيبة أمل وهو يقترب بعدما أدركت أنه ليس هذا هو طالب المراهقة .. هذا يحدث في الروايات فقط ، بيد مرتعشة أمسك بمقبض الباب وإنحنى قليلا ليطل وجه جميلاً أصبح أكثر إحمراراً من الخجل ، وبكلمات متعلثمة تأبى الخروج يعتذر لها عن المضايقة ويأسف على إزعاجه لها بمضايقتها ، قالها وهي تشعر أن الأرض تتلاعب به تحت قدميه ، إبتسمت إبتسامة خفيفة تحاول بها أن تزيل بعض من التوتر الذي إنتابها هي الأخرى ، ثم صمت وظلت صامتة حتى طلب منها أن تسامحه فهو ليس ذلك النوع من الرجال الذي يتعود أن يقوم بمعاكسة السيدات ، إبتسمت تلك المرة وهي تراه يقول ماكانت تتوقعه منه فلم يكذب حدثها ، كانت تتوقع ماسوف يقوله ولكنها لم تكن تعرف كيف سيكون ردها ، إستفسرت منه عما يريد قال لها أن يشعر بإرتياح كبير تجاهها ، وكل مايريده فقط أن يحادثها ، كانت هي الأخرى تشعر بدقات قلبها تزداد سرعة وسط مشاعر مراهقة تملكتها ، إستجمعت شجاعتها وإعتذرت له عندما طلب منها رقم هاتفها وقالت له لا الظروف ولا الزمن ولا الحياة تسمح لنا للأسف بأن يكون بيننا كلام ، بخيبة أمل إعتذر لها وتأسف على إزعاجها راجياً أن تمنحه فقط فرصة رؤيتها ، قالت له بصوت شبه مخنوق .. الشارع ملك للجميع ولن أستطيع أن أمنع أحداً ، عاد من حيث جاء ورمقته بنظرة أخيرة وجدته يتعثر بالطريق قليلاً قبل أن يصل لسيارته
عادت بسيارتها من الطريق الفرعي إلى الطريق الرئيسي وغيرت وضع المرآه لتفادى رؤيته ، رأت وجهها في المرآة فحدقت في صورة عينها وعلى وجهها إبتسامة شاحبة تعبر عن ثقتها في إنتصارها على نفسها ، بصمت وتحدي أطالت النظر قليلاً فوجدت دمعة تولدت بين جنبات عينيها ، وصلت لإشارة الفراق وأعادت وضع المرآة لوضعها الطبيعي .. بحثت عنه فيها فلم تجده ... برغم الزحام المحيط بها شعرت بالوحشة