قرر داوود عبد السيد أن يقف بعيداً ينتظر شىء ما قد يأتى و ما أن وصله حتى كتبه فى رسالة وضعها بزجاجة مربعة و رحل الى الأسكندرية و القاها فى المياه و تركها للموج يقذفها الى الشاطىء حيث نقف!!.
رسائل البحر .. فيلم حالم دفىء متواطىء الى أقصى درجة مع الروح و العقل, ملىء بكادرات رومانسية صافية بسيطة, انتقالاته هادئة مسالمة, فيلم يخاطب الأنسان بداخلك, يخرجك من العالم المادى, من المدينة المليئة بالصخب و الضجيج التى تلهيك عن الجمال المحيط بك ( الفيلم لا يوجد به رنة موبايل او موبايل, او كمبيوتر, او حتى تلفزيون ).
حالة من الصفاء و السكينة, سلة من الهدوء و السعادة تقدم اليك على نغمات من الموسيقى الكلاسيكية فى واحة خضراء يطير فى سماءها عصافير تصدح بأجمل الألحان الملائكية و انت جالس على مقعدك الوثير ترتشف شرابك المفضل فى جو ربيعى منعش بجوار كل أحبائك الذين تريدهم!!.
(بعد ان خرجت من السينما فى ذلك المول الكبير و ارتطمت باذنى اصوات مدينتى القاهرة و بأنفى رائحة العوادم, شعرت بالغثيان و القرف الشديد فالفيلم وضعنى فى حالة شبه روحانية, انستنى تلك المادية اللعينة).
الفيلم ملىء بالرموز و الأفكار مخلوطة بالقيم الأنسانية الجميلة و المنغمسة فى فلسفة بسيطة تصل اليك فى هدوء, تخاطب روحك و عقلك و تبعدك عن لغة الشارع, تشعرك بالوحشة و الحنين و اللهفة لوطن جميل تبحث عنه فى مدينة فاضلة وسط صخب تخشى منه و لا يخشى عليك.
يحيى بطل الفيلم الدكتور السابق و صياد السمك الحالى رمز بسيط للأنسان الثورى الحالم الرومانسى المحمل بالمثاليات الذى يرفض غواية الشر الجميل, هو الأنسان المثقف الواعى الذى يحاول فك طلاسم الرسالة و لكنه يعجز امام طغيان الجهل باللغة المستعملة فى الرسالة!!!, فقد بحث عنها فى جميع لغات العالم و لم يجد لها معنى.
هو الأنسان الذى لا يستطيع ان يفعل الا ما يستطيع أن يفعله . هو الفيلسوف و المثقف و الحالم و الثورى, الثائر على الفساد المحيط به, الذى يتأتأ و يفقد الكلمات امام العالم المادى, امام غضبه على المادة يفقد اللغة و تتثاقل الكلمات فى فمه فتخرج متقطعة. يحيى هو تاتأة المثقف امام عالم من الفساد.
فى واحد من أقوى المشاهد المعبرة, يطلب الحج هاشم الذى يعرف الله و لا يفوت فرضاً ( الذى يريد شراء المنزل الذى يقطن به يحيى ليهدمه و يحوله الى موول كبير ). يطلب من يحيى ( الذى يرفض بيع الشقة لأنها تاريخه الشخصى ), ان يزوره فى السوبر ماركت ليفطران سوياً . يصعد مع يحيى الى الطابق العلوى من السوبر ماركت, يقدم له تفاحة, و يخطره بأن يستبدل شقته الحالية فى تلك العمارة باختيار من ثلاثة اما شقة ادارى تصلح كعيادة طبيب فى منطقة مشهورة و فى المول الجديد الذى سيقيمه الحج, اما شقة فى أحدى عماراته الحالية, اما نقود . و لأن يحيى لا يستطيع ان يفعل الا ما يستطيع ان يفعله, يرفض بكل بساطة و هو يعيد التفاحة ( رمز الغواية ) الى الطبق مرة اخرى و ينهض و يترك له الغرفة و السوبر ماركت ( رمز هو الأخر ).
يحيى الذى يرفض غواية الشر الجميل المتمثلة فى القوة و الشهرة و النفوذ و الأستقرار ( اليس هذا مانبحث عنه جميعاً !؟) و التى تجلت فى الموول و النقود و الشقة , و الذى يتأتأ فى وجه الفساد يتحول الى متكلم فصيح تنطلق كلماته فى سلاسة و هدوء فى ليلة رومانسية على ضوء الشموع مع الحبيبة فى لحظات خالصة من الحب تخبره نورا و هى تضحك فى وجه " انت مش واخد بالك انك مبقتش تتهته " !؟.
نورا تلك الفتاة الذى استمتع الجمهور بجسدها متأكداً من كونها مجرد مومس هدفها الرئيسى ( كما تعود من أفلام اخرى ) ان تكون مجرد تسلية يتندر عليها , يفاجأ الجميع بأنها صاحبة الموسيقى الكلاسيكية التى تتداخل مع سعادة البطل و تصنع بهجته , يخبرها يحيى عندما تذهب اليه بمشغل اقراص و سى دى لسيمفونية كلاسيكية يحبها و تقوم بتشغيلها , يخبرها بأنه يكره الأسطوانات لأن كل شىء بها مثالى , اما التجربة الأنسانية فهى اكثر أكتمالاً لانها تشكل مغامرة و دائماً ناقصة الا أنها اكثر متعة " مرة الاوركسترا يبقى ممتاز , مرة المايسترو يبقى سىء جداً , مرة العازف يبقى متفوق , مرة يبقى المسيقيين نشاز ". هذه هى الحياة الأنسانية الكاملة , دائماً غير مكتملة و تشكل مغامرة , فنحن لا نعرف ما سيحدث, ربما نستمتع فى لحظات و اخرى نحرم من السعادة لان اخرين قرروا أن يطبقوا الحزن علينا حسب سلطة ما ( مشهد ضرب يحيى فى الشارع على يد الشرطة لأن الضابط أعتقد انه يسخر منه بتلك التأتأة و هو يحمل مشغل الأقراص الذى كانت تخرج منه فى اللحظة السابقة الموسيقى الكلاسيكية التى يعشقها , مشهد جميل يعبر عن عمق المغامرة التى نحياها مع اخر لا يستطيع ان يفعل الا ما يستطيع ان يفعله ) .
نورا, الفتاة التى تكتشف انها ليست مومس و لكنها تحتاج الى التحرر من صورتها السلبية التى صنعت عن ذاتها و استسلمت لها حتى انها صنعت حكايات كاذبة عن نفسها , تحرج مخيلتك و تجعلك تعيد النظر اليها ( مغامرة المفاجأت التى يضعك بها داوود , كأنه يعيد تعليمك الحياة الأنسانية و يعيد صياغتها فى عقلك المنهك المادى , يجعلك تنظر الى الأخر دون شك بل بحالة صفاء و قبول فالتى اعتقدت انها مومس, تجدها تتألم من تلك الصورة المصنوعة عنها حتى انها تصدقها ).
ربما تكون رسالة صياد الى اولاده , او صلاة راهب , او رسالة تحذير , او حتى شخص بيهزر .
هكذا تخبر نورا يحيى فى مشهد النهاية عندما يتسائل يحيى عن ماهية الرسالة . تجيبه نورا بالكلمات السابقة . رسالة من الحياة. رسالة تمثل ابعاد الأنسان فى تلاحم شديد, تمضى من افق الى افق و من حالة الى حالة , نسيج انسانى بسيط يصنع العالم المحيط بنا يرسل لنا برسائل لا ينبغى أن نهملها حتى لو لم نفهمها , قبول للأخر حتى لو كنا مختلفين , تيارات بشرية تصنع يومنا بين العائلة و الأسرة و المواطن البسيط ( صياد و اولاده ), او صلوات المؤمنين, او صرخة تحذير من فساد او خيانة, او حتى ضحكات بسيطة تسعد يومك ( شخص بيهزر) .
فى مشهد النهاية, الأكثر إجمالاً و جمالاً , تجد نورا و يحيى فى قارب, يتراقص فوق المياه, و الموسيقى تدوى فى الخلفية يقطعها صوت الديناميت الذى يستخدمه الحج هاشم فى صيد الأسماك, تطفو تلك الأسماك الميتة على وجه المياه , تحيط بهم و بالقارب فى تعبير واضح و جميل , حيث يعدك عبد السيد بأن الفيلم سينتهى و ستخرج الى عالمك الجميل المحاط بالأسماك الميتة التى يصطادها الهاشميون بالديناميت, مقدمين لك تفاحة الشر الجميل, و يذكرك بأن هناك الف نورا تسىء الظن بها.
رسائل البحر .. هو ايقونة الأنسان .
داوود عبد السيد .. شكراً.