يجيبوا لنا الأعرج
المناقشات السياسية أصبحت متعبة. نلف وندور كلنا في حوارات غير مجدية ولا نصل إلى نتائج. هذا الغموض المستمر يتعبني كما يتعب غيري، أما ما يؤلمني فهو افتقاد من كان يجيبني على كل أسئلتي.
قبل قدوم الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الفترة الثالثة والأطول والأخيرة لحكمه، وفي أثناء الحكم القصير للسلطان المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، اضطربت أحوال البلاد السياسية وزاد على ذلك جفاف أصاب ماء النيل فتشائم الناس. تعاطف المصريون مع ابن السلطان الذي كان الحكم من حقه بعد مقتل أخيه الأكبر الذي حقق بطولات كبيرة ولكن عامل أمراءه بكثير من الطيش. في حكمه الأول والثاني، أضطر الملك الناصر إلى ترك ملكه ومن حظه وسعد أقداره أن تُرك حيا. كان من يصل إلى السلطنة من المماليك هو ببساطة الأقوى، ليس صاحب الحق.
ولكن، كان نظام حكم المماليك سلطانيا وراثيا، حتى وإن كان السلطان الأب قد اغتصب السلطة من سابقه. كانت موافقة الأمراء الكبار ضرورية بالطبع وكان الصراع على السلطة لا يتوقف ولهذا من كان يصل إليها كان يعرف جيدا أن احتمالات خروجه منها مقتولا هي الأقوى.
الوراثة في النظام الملكي أو السلطاني مفهومة وإن لم أقبلها. الوراثة في النظم الجمهورية، سواء وراثة السلطة أو الحكم، لا مقبولة ولا مفهومة ولا أي حاجة.
تشائم المصريون في أواخر حكم الملك المظفر بيبرس الجاشنكير من الحال السياسي وجفاف الشريان الإلهي فظهرت أغنية شعبية:
"سلطاننا رُكين، ونايبنا دُقين، يجينا الماء من أين؟
يجيبوا لنا الأعرج...ييجي الماء ويدحرج"
لم يكن الملك الناصر بحسب الوصف وسيما كمعظم المماليك، وكان بإحدى رجليه عرج. يقول المقريزي عنه:
"وكان السلطان أبيض اللون...خطه الشيب، وفي عينه حول، برجله اليمنى ريح شوكة تمغص عليه أحيانا وتؤلمه، وكان لا يكاد يمس بها الأرض، ولا يمشي إلا متكئا على أحد أو متوكئا على شيء، ولا يصل إلى الأرض إلى أطراف أصابعه. وكان شديد البأس، جيد الرأي، يتولى الأمور بنفسه، ويجود لخواصه."
حكم السلطان الملك الناصر محمد مصر وأجزاء من الشام والحجاز لاثنتين وثلاثين سنة في فترته الثالثة. يحسب له أنه كان قويا وأنه كان من البنائين العظام. كان به مما فرض زمن المماليك وظروفهم عليهم من ظلم وبطش ولكنه كان "محبا للعمارة." يشتهر الناصر محمد بين سلاطين المماليك بأنه أكثر من شجع أمراءه على البناء وأجزل لهم العطاء لهذا الغرض. يصفه المقريزي بأنه كان قويا مهابا و"عارفا بأمور رعيته وأحوال مملكته،" شديد الذكاء ويعرف كيف يكسب الناس إلى صفه، ولكنه كان يغدر بمن يكبر من أمرائه وتتعدى قوته الحد المطلوب، "وكان مخادعا كثير الحيل،" حازما في التخلص من أي شخص يستشعر منه خطرا، ولا يؤمن جانبه إذ قد لا يفي بعهوده ولا يمينه.
بالمقارنة بسلاطين آخرين، كان الملك الناصر محمد معقولا جدا!
كانت له شهرة عجيبة عند العامة. يقول المقريزي: "واشتهر في حياته بديار مصر أنه إن وقعت قطرة من دمه على الأرض لا يطلع نيل مصر مدة سبع سنين. فمتعه الله من الدنيا بالسعادة العظيمة في المدة الطويلة، مع كثرة الطمأنينة والأمن، وسعة الأموال..."
في الحكومات المفترض أنها جمهورية، يُفترض أن الإبن لا يرث الأب ليصبح حاكما، كما أنه من المفترض ألا تكون له سلطة تقارب سلطة الأب لمجرد أنه الإبن. المفترض أن يأتي الحاكم بالانتخاب، وإن كان ذلك في الكثير من الأحيان غير مفروض إلى أن يُفرض بقوة ما.
الحاكم الشرعي القادم لهذا البلد في هذا الزمان ليس الوريث المورث. كل ما أرجوه الآن أن تحل عصابة الفساد عن سمانا حتى يأتينا الماء بعد الجفاف، قبل أن يقتلنا العطش.
نحن نستحق حاكما يأتي كما ينبغي لهذا الزمن. ونستحق نظام حكم حقيقي يضمن لهذا البلد تقدما طال انتظاره.
كل ما أتمناه أن يصل إلى حكم هذا البلد من يحبه أهله ويطلبونه عن حق فيأتي جالبا معه الماء بعد السنوات العجاف.
أنا في انتظار الصباح...وأعرج لهذا الزمان
المصادر:
أبو المحاسن بن تغري بردي، مورد اللطافة في من ولي السلطنة والخلافة، المجلد الثاني، تحقيق نبيل محمد عبد العزيز أحمد (القاهرة، 1997)
تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الجزء الثالث، تحقيق محمد زينهم ومديحة الشرقاوي (القاهرة، 1998)