Saturday, 28 November 2009

أوشفيتز دايت

تساحي ملاميد

ترجمة: نائل الطوخي


أوشفيتز دايت


خشبة المسرح عارية إلا من سرير مساج مغطى بملاءة.

عاملة المساج الشابة ببالطو بيتي، وزبون يبلغ خمسين عاما تقريباً.

مشهد افتتاحي، بعد أن ينتهي الزبون من متعته، يجلس على السرير وعلى وجهه تعبير راض. الجو السائد بين الاثنين يبدو كبيت دعارة فرنسي، يدور به حوار آخر بخلاف الحوار المباشر.

عاملة المساج: كيف كان الأمر، بابا؟

الزبون: رائع. ماذا قلت لي اسمك؟

ع.م: ليلاخ، بابا، هل أنت فعلا عالم صواريخ؟

ز: وهل أنت فعلا تعزفين على البيانو؟

ع.م: والناي والكمان.

ز: هل تعزفين لي أغنية على البيانو؟

ع.م: ليس لدينا هنا.

ز: طيب احكي لي نكتة

ع.م: بكل سرور. مرة كان هناك أمريكي وروسي عليهما ملء استمارة كي يدخلا لكوبا، وكان مكتوبا عليها سؤال: "من انتصر في الحرب الباردة، الروس أم الأمريكان؟" عندئذ سأل الأمريكي الروسي "قل لي، من خسر في الحرب العالمية الثانية، هل هم الألمان؟"، فقال له الروسي: "نعم". فقام الأمريكي بتسجيل إجابته: "الأمريكان انتصروا في الحرب العالمية الثانية."

ز: لم أفهم.

ع.م: كأنه لا يعرف أن الروس انتصروا في الحرب العالمية الثانية.

ز: الأمريكان هم من انتصروا في الحرب العالمية الثانية.

ع.م: الروس هم من انتصروا في الحرب العالمية الثانية.

ز: الأمريكان.

ع.م: الروس.

ز: بديهي أنهم الأمريكان.

ع.م: مؤكد أنهم الروس.

ز: الأمريكان والإنجليز بنوا خط ماجينو.

ع.م: لا، عاملات المساج هن من بنين خط ماجينو. *

ز: الأمريكيات.

ع.م: الروسيات.

ز: الأمريكيات.

ع.م: الروسيات.

ز: العاهرات.

ع.م: الأمريكيات.

ز: الروسيات.

ع.م: العاهرات الأمريكيات وعاملات المساج الروسيات.

ز: مازلت لم أفهم النكتة.

ع.م: ما الذي لم تفهمه؟ أن ستالين قبض على الألمان؟

ز: ستالين قتل أشخاصا كثيرين.

ع.م: جدتي كانت في أوشفيتز** عندما تم إطلاق سراح الروس هناك.

ز: ما الذي كانت تفعله هناك؟

ع.م: أشغال شاقة.

ز: لصالح من؟

ع.م: الألمان.

ز: ولكن أي أشغال كانت تقوم بها هناك؟

ع.م: شاقة.

ز: لصالح من؟

ع.م: الألمان، قلت لك.

ز: أعني إن لم يكن لها رئيس، شخصي، أم أنها كانت تعمل لصالح جميع الألمان؟

ع.م: آها، نعم، كانت تعمل لصالح قائد المعسكر.

ز: وما الذي كانت تعمله من أجله؟

ع.م: تطبخ، تنظف، تخيط.

ز: وهذا ما يطلق عليه أشغال شاقة؟

ع.م: لم تكن تفعل هذا فقط. الطبخ، والتنظيف، والخياطة، كانت تقوم بهم بعد ساعات العمل المعتادة.

ز: ساعات إضافية.

ع.م: نعم، ساعات إضافية. في الصباح كانت تعمل لأربعة عشر ساعة، تقف في الماء حتى ركبتيها، وتقطع الأحجار.

ز: تبدو كأنها بعصة.***

ع.م: هي بعصة حقيقية.

ز: ما هي البعصة؟

ع.م: الأشغال الشاقة، قلت لك.

ز: أقصد، ما هي البعصة الأصعب، الأشغال الشاقة في الوقوف لأربعة عشر ساعة في الماء حتى الركبتين وتقطيع الأحجار أم الطبخ والتنظيف والخياط بعد ساعات العمل؟

ع.م: كلاهما بعصة.

ز: نفس البعصة؟

ع.م: ماذا يفرق؟ كلاهما بعصة.

ز: ولكن كانت تأخذ على الخياطة والطبخ والتنظيف أوفرتايم.

ع.م: ولكنها بعصة. الطبخ والتنظيف والخياطة هي بعصة.

ز: حتى لو أخذت أوفرتايم؟

ع.م: حتى لو أخذت أنا أوفرتايم.

ز: وأنت، هل تأخذين أوفرتايم؟

ع.م: مقابل ماذا؟

ز: مقابل عملك هنا.

ع.م: هنا نتحاسب بشكل مختلف. آخذ خمسين في المائة لي، وخمسون في المائة لصاحب البيت.

ز: حتى لو كنتي تعملين في الساعات الإضافية؟

ع.م: ما الذي أتى بالساعات الإضافية هنا؟

ز: لأن جدتك كانت تأخذ أوفرتايم.

ع.م: كانت تعمل في التنظيف والخياطة والطبخ.

ز: ولم تعمل في المساج؟

ع.م: ماذا تقول، جدتي لم تعمل في المساج، جدتي كانت مناضلة.

ز: قلت من قبل أنها كانت من ناجيات معسكر برجان بلزان.

ع.م: أوشفيتز.

ز: ولم تكن عاملة مساج؟

ع.م: كانت مناضلة.

ز: في برجان بلزان أم أوشفيتز؟

ع.م: كانت تأخذ بقشيشا.

ز: من الأمريكان أم الروس؟

ع.م: من قائد المعسكر.

ز: وماذا كان؟

ع.م: ألمانياً.

ز: ألماني روسي أم ألماني أمريكي؟

ع.م: ألماني يهودي.

ز: يهودي آري؟

ع.م: يهودي إسرائيلي.

ز: قائد المعسكر كان يهودياً إسرائيلياً؟

ع.م: كان عالم ذرة ألمانيا آريا يهودياً روسياً أمريكياً إسرائيلياً.

ز: وكانت تعزف من أجله على البيانو؟

ع.م: على الكمان.

ز: قلتِ من قبل على البيانو.

ع.م: على الكمان.

ز: ولكنك قلتِ من قبل على البيانو.

ع.م: أنا أيضا أعزف على البيانو.

ز: ليس على الكمان؟

ع.م: وعلى الكمان أيضا.

ز: وقلت أنك تعزفين على الناي أيضا.

ع.م: على الناي أيضا أعزف.

ز: الناي، البيانو والكمان.

ع.م: أنا أعزف على كل شيء.

ز: هل لديكم هنا بيانو أو كمان أو ناي؟

ع.م: قلت لك أنه ليس لدينا.

ز: قلت أنه ليس هناك بيانو، ولكن الناي والكمان يمكن إحضارهما.

ع.م: لمن يدفع بقشيشا.

ز: إذن اذهبي لإحضار كمان، وسوف أبحث في المحفظة.

ع.م: أنا ذاهبة.

تغلق عاملة المساج البالطو وتخرج. الزبون يلبس بلوزة من التريكو، يبحث في المحفظة، يخرج والمحفظة بيده ويتعثر بعاملة المساج التي تدخل ومعها جراب الكمان

كلاهما: هيي، هيي.

يخفي الزبون المحفظة وراء ظهره. تخفي عاملة المساج الجراب خلف ظهرها هي أيضاً.

ز: لم تذهبي لإحضار الكمان.

ع.م: لم تبحث عن النقود.

ز: بحثت.

ع.م: وأنا أحضرته.

ز: إذن اعزفي لي شيئاً.

ع.م: إذن أرني النقود أولاً.

ينبش الزبون في المحفظة، عاملة المساج تضع جراب الكمان على الأرض وتفتحه بحيث يكون مائلا بزاوية أمام ساقيها.

ز: ماذا تفضلين، دولارات، روبلات أو شيكلات؟

ع.م: ماذا تفضل، أسد لتينور بمقام سي الصغير أوبليجتو لباخ، أم كونشرتو لبجنيني، أم إتيود في مقام ري الصغير لتشايكوفسكي؟

ز: ابدأي في العزف.

ع.م: أرني النقود.

ينظر كلاهما إلى الآخر ببطء، عاملة المساج تنظر إلى محفظة الزبون، الزبون ينظر إلى جراب كمان عاملة المساج، عاملة المساج تمسك بيدها محفظة الزبون، الزبون يأخذ جراب الكمان.

تفتح عاملة المساج المحفظة على اتساعها، تظهر للجمهور أنها خاوية.

الزبون يعرض أمام الجمهور الجراب الخاوي للكمان.

تتردد موسيقى من الخارج، ومطر من الأرواق المالية يهطل على الاثنين، اللذين يقفان ويتطلع كل منهما إلى الآخر، وإلى الجمهور.

__________________________________________


ولد تساحي ملاميد عام 1964. يعمل مهرجا طبيا لإدخال البهجة على المرضى. ابن لعائلة دينية متوسطة. خدم في السلاح التعليمي بالجيش الإسرائيلي. مر برحلة طويلة من كونه فتى متدينا إسرائيليا ليصبح من دعاة السلام. يقول عن نفسه في مرحلة ما بعد الخدمة العسكرية: "احترت في أسئلة هويتي، حتى الآن لم أخلع الكيباه [الطاقية اليهودية الدينية]، وأتجول في البلد بالحلة العسكرية، من أجل الحصول على "الخصم" في ثمن تذكرة الأوتوبيس. كنت ألبس بلوزة من التريكو، وعليها السترة العسكرية، وبعد أن أدفع للسائق، أجلس في الأوتوبيس، أخلع السترة العسكرية، حتى أبدو مدنيا بين ركاب الأوتوبيس الآخرين.... في فترة متأخرة سافرت لأوروبا، وهناك عرفت المزيد من دعاة السلام، يمكن القول أنهم كانوا ودودين بدرجة كبيرة."

"الآن أدرس التمثيل في "كنفايم" وهي جماعة فنية... أسكن في شقة إيجار وحدي في الحي البوهيمي "بلورنتين"، وأسترزق عبر العمل مع العجائز. صديقة جديدة وجيدة لي، هي راقصة شرقية إسرائيلية، أقامت لعام بالقاهرة، وبفضلها أشاهد الرقص الشرقي على موقع "اليوتيوب".

هذا المشهد المسرحي منشور في مجلة "معيان" الأدبية المستقلة بعددها الخامس والأخير.

___________________________________________

* خط حدودي قامت فرنسا ببنائه بعد الحرب العالمية الأولى لحمايتها من ألمانيا.

** أوشفيتز هو اسم أشهر معسكرات التعذيب التي أقامها النظام النازي ضد ضحاياه، ومنهم اليهود، في الحرب العالمية الثانية.

*** كلمة بعصة أخذها الإسرائيليون من اللهجة الفلسطينية، وتعني ورطة، وتكتب بالعبرية بنفس الحروف تقريبا: באסה

Friday, 20 November 2009

كسك عضاض















شيز

ترجمة: نائل الطوخي

إفرات يروشالمي، المعروفة باسم "شيز"، shez، هي أديبة وشاعرة إسرائيلية، تعيش في تل أبيب. ولدت عام 1959. حصلت عام 1999 على جائزة رون إلدار للشعر، على بعض قصائدها المنشورة في كتابها الأول "رقصة المجنونة"، وعرضت على المسرح مسرحيتان من تأليفها، "إلى البيت"، و"سلسلة جواهر بيضاء".

عام 2001 نشرت روايتها السيرذاتية الأولى "إعادة الأفواه لأرض إسرائيل". وفي عام 2004 حصلت على لقب البطلة الثقافية من الجماعة السحاقية. وفي عام 2005 صدر كتابها الثالث "داجنة". ومنه نترجم هذين المقطعين، ثم بعض القصائد من ديوانها "رقصة المجنونة."

تعالج شيز في أعمالها مواضيع مثل استغلال الأطفال والحب السحاقي، من منظور نسوي بالطبع، ويبدو هذا بوضوح في المقطعين الواردين هنا من قصة "داجنة"، وهي القصة ذات الطابع السريالي والكوميدي، وتتخيل فيها الكاتبة الأعضاء الجنسية للنساء ذات أسنان، وهو كابوس الرجال الأول في رأي فرويد، كما تقتبسه عنه الناقدة ميراف ساريج في تحليلها للقصة بصحيفة هاآرتس، وعن طريق هذا الكابوس تميز شيز بين العضو المدجن للمرأة، الأعزل من الأسنان، والعضو غير الداجن والذي لم يتنازل عن أسنانه.

في حوار مع هاآرتس سئلت: "إلى أي درجة الكتابة الإيروتيكية شائعة لديك؟"

لا أعتقد أنني أكتب كتابة إيروتيكية. وإنما كتابة تتناول تعايش البشر في هذا العالم مع عالمهم الداخلية والخارجية. جزء من هذا التعايش هو التعايش أيضا مع الغرائز والدوافع الجنسية. كوني إنسانة وامرأة معناه أنني أملك دوافع جنسية من بين ما أملك، ولذا فأنا أكتب من هذه المنطقة أيضاً. في درج مكتبي ثمة نصوص غير محررة، بعضها بورنو خالص. هذا شرعي، ولكنني لا أهتم بنشرها مثلما هي عليه، وهذا ليس لأنني أهتم بألا أكون فظة. السؤال هو ما الذي أهدف إليه. بخلاف هذا، ففي رأيي، ليس هناك ما هو إيروتيكي وما هو بورنو، مثلما أنه ليس هناك ما هو مثلي وما هو غيري. نحن نحاول إعطاء توصيفات لشيء ما هو في رأيي امتداد طويل جدا لنفس الشيء."

كسك عضاض


"كسك عضاض"، قالها بصوت عال.

"كسك عضاض"، كررها، "وعلينا معاملة الكس العضاض كما نعامل الكلب العضاض، ليس لدينا خيار. هذا ليس أمرا شخصياً، ولا لأنني أحبك. ليس لدي أي شيء ضدك. ليست عندي أية مشكلة معك، بالعكس. أعتقد أنك ذكية وحكيمة ولطيفة ورائعة وبشوش. أعتقد أنك تملكين قوة نسائية فريدة في ليونتها. لأجل الحقيقة، إن لم يكن كسك عضاضا كنت لأدعوك على العشاء على السطح. بل إنني خططت من قبل لفعل هذا [...] تفهمين، هناك الكثير من الصفات في المرأة، الكثير من الصفات المهمة بالنسبة لي – ذكية وحكيمة ولديها حس دعابة وقدرة على الاستماع وليونة ومرونة فكرية، ولديك كل شيء، في الحقيقة، حتى القلب الطيب. ولكن للأسف، فكسك عضاض، وأنا، بتاعي يحتاج بيتاً دافئاً، بتاعي يحاج كساً مستقبلاً وليناً ومدجناً ومطيعاً."

***

"أفتح أزرار بنطلونه، أعتلي الطاولة، أعتليه، أثبت له أن كسي ليس عضاضاً أبداً، وهو يدمدم بكلمات الحب. يعدني بأنه سيفعل من أجلي كل شيء غداً، وأن كسي هو الأفضل في العالم، ويخرج بتاعه من داخلي، وينزل عليّ، ويثبت لي أن كسي هو الأفضل مذاقاً ورائحة في العالم، ويثبت لي أن عليه الآن الحرب دفاعاً عن كسي وأنه ليس مستعداً للتخلي عنه، ونقبل بعضنا البعض قبلات فرنسية تقوم بتثبيت العهد بيننا، وأقول له: تحبني صح؟ تحبني وسوف تحافظ على كسي، وأنت ترى كم أن كسي لطيف ومطيع ويسمع الكلام ومضياف، صح؟ وهو يقول "نعم نعم"، كأنه منوم مغناطيسياً يتحدث: كسك هو الأفضل في العالم."


ماما

خذي الطفلة وجففي

بقايا المني حول فمها

وبفوطة مبلولة جففي داخل فراغ فمها وبشكل جيد

جففي أسنانها الصغيرة

وغني هدهدات للصغيرة واطلبي منها أن تحلم

بالعشب – الأخضر، السماء – الزرقاء، العصافير، الزقزقة


حباً فيّ

حباً فيّ

يسلك هتلر جوهرة أولى من السلسلة

في داخل حنجرتي، ثم تأتي

جوهرة ثانية، وأخرى، وثعبان

أبيض طويل يتلوى زاحفاً إلى الداخل


ذرائع أدبية

عندما يحل يوم الدين على الآباء المغتصبين

لن تقولوا كلمة واحدة

وفي النهاية ستجلسون هادئين

وسوف تعطون مكانا لفظاعة بكاء الطفلة

ولكن حتى يأتي يوم الدين سوف تستمرون في إغلاق فمي

وفي الابتسام لي بتهذيب

ولن تنشروا قصائدي في أماكنها

وسوف تواصلون حياتكم بذرائعكم الأدبية

***

كوني فظة كوني لامبالية قليلاً

كوني قاسية وللحظة

كوني لينة للغاية

وسيري إلى حيث

لا أستطيع

الحياة

بدون ضرباتك

اركليني

اصرخي فيّ

ابصقي

اشتمي اليوم الذي ولدت فيه

اشتمي أمي

اضحكى على ذكراها

أقيمي كومة من الزبالة بجوار قبرها

ارمي خراء الكلاب على عربة اليد

ونيكيني برجليّ المفتوحتين

حيث يصبح حجر شاهد القبر بارداً بارداً

وتدخل سخونة الشمس في كسك



Friday, 13 November 2009

بغداد: منظر طبيعي

ساسون سوميخ

ترجمة: نائل الطوخي


نقدم هنا ثلاثة فصول من سلسلة مذكرات ساسون سوميخ، الناقد الإسرائيلي ذا الأصل العراقي وأستاذ الأدب العربي بجامعة تل أبيب. الفصول الثلاثة منشورة عام 2003 في صحيفة هاآرتس، وتم نشرها فيما بعد بكتاب يحمل عنوان "بغداد، الأمس". الفصلان الأولان هنا، "نجوم لامعة" و"منظر طبيعي"، تم ترجمتهما للعربية ونشرهما عام 2003 في صحيفة "أخبار الأدب" المصرية.


بغداد: نجوم لامعة

ذكرياتي الأولى كطفل في بغداد، مدينة مولدي، لا ترتبط بنهر دجلة، الذي يقسم المدينة، أو بالشوارع والأبنية التي شكلت المدينة ذاتها. وبشكل عام فليست مرتبطة بأي شيء أرضي. كانت النجوم اللامعة على اتساع السماء وطولها في الأمسيات الصيفية هي ما شكلت ذكرى أيام طفولتي. لأن سكان بغداد، على امتداد أشهر الصيف الحارة والجافة، كانوا يعتلون أسطح البيوت وينامون هناك على أسرتهم لثلاثة أو أربعة أشهر متواصلة.

كنت أعتلي سريري الصيفي المغطى بناموسية بيضاء، ولدقائق أو ساعات كنت أتطلع لعالم النجوم المتلألئة بلا توقف، نجوم صغيرة وكبيرة، نجوم تخلق طرقات وسبلاً سرية. كانت الناموسية دقيقة وتصدر منها رائحة طيبة لصابون الغسيل ولم تمنعني من رؤية الوجود النشط عالياً هناك جيداً. في الليالي التي كان فيها القمر مكتملاً أو يوشك على الاكتمال كنت أتطلع طويلاً في المخلوقات المختلفة على سطح القمر. وعندما سألت عن هذا قيل لي أن ما أراه هو صورة لراعيين يقودان أغنامهما في الجبال باحثين عن مرعى. وهكذا اكتشفت صورة يمكن أن يتم تفسيرها هكذا.

في الفصل الدراسي الثالث أو الرابع تعلمت في المدرسة أن الأمور ليست بسيطة بهذا الشكل. وأن ما نراه هو جبال القمر وصحراءه، وأن هذا ليس إلا كوكباً يشابه الكرة الأرضية غير أنه أصغر منه قليلاً ويدور حوله. درست أيضاً أن النجوم التي تملأ السماء هي ملايين من الكواكب البعيدة جداً وأن البريق الذي يصلنا منها هو نور قديم يعكس واقعاً كان قائماً قبل عشرات الألاف من السنوات. يصلنا النور متأخراً جداً بسبب المسافة الهائلة. لست متأكداً أن معلميَّ قد استخدموا عندئذ تعبيرات مثل "السنوات الضوئية"، وإذا استعملوها فلست متأكداً من أنني قد فهمت (من الجيد أنه في تلك الأيام، أي قبل ستين عاماً، لم يكن مصطلح "الثقوب السوداء" قد وجد بعد، وهو المفهوم الذي لازلت حتى اليوم لا أفهمه كفاية).

من الطبيعي أنه في تلك الليالي، وأنا بداخل الناموسية، قد طرأت على ذهني الصغير أسئلة "وجودية" كثيرة: من خلق كل هذا، متى وكيف؟ بديهي أن ما كان مكتوباً في سفر التكوين (والذي تعرفت عليه للمرة الأولى عندما بدأت في دراسة العهد القديم والذي ترجمته إلى العربية التبشيرية الأمريكية) لم يكن "منطقياً" وبالتأكيد ليس "علمياً". مرة وراء مرة كنت أحلم، في تلك الأمسيات الصيفية، بتعلم علم الفلك عندما "أصير كبيراً"، حلم لم يتحقق إذ أزاحته جانباً أحلام أخرى (لم تتحقق هي الأخرى)، مثل الألعاب الكيميائية أو صناعة السينما أو الكتابة الأدبية.

نجوم أخرى نقشت في ذاكرتي في الأمسيات الصيفية على السطح، وهي نجوم السينما بالتحديد. بعض دور السينما القليلة كانت تعمل على بعد عدة شوارع من بيتنا، وأغلبها كان يملكه يهود. واحدة منها كانت تدعى "سينما ديانا" وكانت تعرض أفلاما هوليودية في الغالب. كانت الأفلام في الأشهر الصيفية تُعرض في الهواء الطلق في ساحة مكشوفة قريبة من المبنى الرئيسي المسقوف. وفي الليالي التي يصبح فيها الهواء رائقاً واتجاه الريح يصبح جنوبياً كنا نسمع شريط الصوت كاملاً محمولاً إلى سطحنا، بالتحديد في العرض الثاني لليلة. ولأن الفيلم- أي فيلم- كان يعرض على امتداد أسبوعين أو ثلاثة بشكل متواصل فكنا نعود ونسمع النص الذي يلقيه الممثلون، أي نجوم عالم السينما. هكذا كنا نحفظ شفوياً نصوص مشاهد كاملة. كانت أغلب الأفلام الأمريكية عندئذ من النوع "الموسيقي" الزاخر بالبهجة والرقص والأغاني. أذكر بشكل خاص فيلماً على هذه الشاكلة اسمه "Moon Over Miamy" حفظنا نصه الكامل شفوياً، حيث عُرض لشهرين متواصلين، إذ كان مصوراً "بالألوان الطبيعية"، كما كانوا يقولون عندئذ، وليس بالأبيض والأسود، كسائر الأفلام. وهكذا تمرنت بشكل مجاني وبلا مقابل على اللغة الإنجليزية الأمريكية المختلفة قليلاً عن الإنجليزية البريطانية التي درسنا قواعدها في المدرسة.

هذا فيما يخص الأمسيات. أما صباحات الأجازة الصيفية فكنت أقضيها داخل البيت. منذ أن تعلمت القراءة (بالعربية، ثم بالإنجليزية) انغمست في متعة قراءة لا تنتهي للكتب. وعندما أقول "متعة" فلا أقصد بالضرورة متعة روحية وفكرية، حيث كانت أغلب الكتب التي قرأتها في طفولتي كتب مغامرات وأحداث خارقة. لم أقرأ كتب أطفال كثيرة، واحد من الأسباب هو قلتها بالعربية، ربما باستثناء الكاتب المصري كامل الكيلاني، والذي كان يكثر من معالجة الأعمال الكلاسيكية من الأدب العالمي (روبنسن كروزر، بيضاء الثلج) بالأسلوب المريح بالنسبة للأطفال. غير أن كتب المغامرات المخصصة لجمهور البالغين أو للشباب الناضج فكانت موجودة بوفرة. كانت صناعة الكتب في القاهرة (والتي أسست بدرجة كبيرة على أكتاف لبنانيين نشطاء هاجروا لمصر في أواخر القرن التاسع عشر) تغرق أرفف الكتب في العالم العربي بكتب كان الـ"أكشن" فيها له الأولوية على كل شيء. وفي أشهر الشتاء والتي كانت تشغلنا فيها الدراسة والواجبات المنزلية، كنت أحلم بالأشهر الصيفية، بأن تحل علينا بشكل جيد، وبكومة الكتب التي كانت ملقاة على طاولة الكتابة بغرفتي.

كان ما يمنح ساعات القراءة في الصيف حلاوة خاصة هو المناخ، أو بصياغة أفضل، الهواء الذي كان يسري في غرفات بيتنا وبيوت كثيرة في بغداد. كان معلقاً على نوافذ غرف النوم، من الخارج، إطار خشبي دقيق في حجم النافذة، والذي كان اتساعه عشرين سنتيمتراً، وكانت مزروعة فيه باقات أشواك من نوع معين يدعي (عاقول)، ويصدر رائحة خضراء مسكرة. كانت الرياح الساخنة التي تصلنا من كل الاتجاهات تندفع إلى الداخل بكل قوة هبوبها. وكنا نسكب من حين لآخر دلاء ماء على الأشواك المؤطرة، لتتحول الريح الداخلة إلى نسمات باردة، فيما يشابه عمل مكيفات اليوم الكهربائية (وحتى إن كانت تلك الأخيرة تصدر ضوضاء ولا تصدر منها روائح عطرية). تعلم صناع تلك الأطر في سنوات بلوغي استخدام أسلوب الرش لأجل تجنب الحاجة للرش اليدوي: كانوا يضعون أنبوبة مطاطية مجوفة على الإطار وكانت القطرات التي تقطر منه تضاعف متعة الجلوس في الغرفة المكيفة. وهكذا لم يكن المكوث في البيت سيئاً إطلاقاً. من كان يعاني هم هؤلاء الذين لم يكن بمقدورهم قضاء أيامهم في غرف كتلك، وبدرجة أكبر هؤلاء الذين كان يضطرون للسير في شوارع المدينة وفي أزقتها للاسترزاق بينما الشمس اللاذعة والعواصف الملتهبة (التي كانت تدعى "هيوف") تصاحبهم لدى خروجهم من بيتهم وأحياناً كذلك داخل بيوتهم. للحظ الطيب لم تكن هبات الريح الحامية ظاهرة مستديمة تجتاح بغداد طوال أيام الصيف، وكان هناك أيضاً أيام بلا "هيوف".

كانت أمي أحياناً ما تنقل لنا قلقها بقولها أن انغماسي في القراءة هو أمر خطر وقد يؤذي عينيّ. ولكن في نفس الوقت فقد كان جلوسي أغلب الوقت في البيت وعدم تجولي في الشوارع يمنحانها إحساساً بالأمن. ولهذا لم يعترض والداي عندما قررت العمل بالكيمياء، وأنا في الفصل الدراسي السابع أو الثامن. إشتريت من مكتبة "ماكنزي" كتاباً إنجليزياً اسمه "كيف تقيم معملاً كيميائياً في بيتك" مخصصاً لمن يبلغون 15 أو 16 عاماً، وبدأت في جمع برطمانات تحوي مواداً كيمياوية، كما هو معروض في الكتاب. وضعت البرطمانات وأنابيب الاختبار على أرفف مؤقتة تم نصبها بالخارج، بالقرب من الحديقة الضيقة المحيطة ببيتنا. كانت "التجارب" الكيميائية تهدف لـ"خلق" سوائل ذات ألوان مختلفة، أو مزيج من المساحيق والسوائل، لأجل فهم العمليات الكيميائية التي كانت تحدث. كان كتابي يرشدني أحياناً لتجارب تبدو نتائجها كالسحر، وكان أصدقائي الذين كانوا يزورون"المعمل" الخاص بي ينفعلون من القدرة "فوق البشرية" للكيميائي الصغير. كانت أمي تساعدني أحياناً بمبالغ تافهة خصصت لشراء المستحضات الكيميائية.

حتى وقع في أحد الأيام، في إحدى التجارب، انفجار صم الآذان. أسرعت أمي راكضة للحديقة مذعورة غير أنها هدأت إذ اتضح لها أن صوت الفرقعة كان جزءاً من اللعبة. ربما كنت محاطاً بالدخان غير أنه لم يحدث ضرر أو كارثة. في أعقاب الانفجار أصر والداي ألا أقوم بتجارب كتلك في البيت، حتى برغم أني لم أصب من الفرقعة. إهتم الجيران – جيران مسيحيون كان بيتهم قبالة "الناصية الكيميائية" الخاصة بي – بمعرفة سبب الانفجار، وفي تلك الأيام، أيام انفجار فندق "كينج ديفيد" في القدس، إن لم أكن مخطئاً، كان ممنوعاً على طفل يهودي العمل في أشياء كتلك، حتى وإن خرج منها سالماً!

منظر طبيعي

أكتب هذه الفصول لكي أصف سلوكيات أو فولكلور بغداد ويهودها. إنما هي ذكريات من أيام الطفولة والصبا. وربما لا أستطيع الحكي عن سنوات نشأتي في عاصمة العراق بدون ذكر بعض المواقع البغدادية البارزة والتي تكونت فيها الخبرة الإنسانية والاجتماعية كذلك. في قلب كل هذا نهر دجلة الكبير بشحمه ولحمه.

يمر دجلة بالمدينة ويكون ضفتين. يتراوح اتساعه في أغلب المواقع من نصف كيلومتر وحتى كيلومتر. هو نهر بلا نهاية، وفي كل الأوقات يعبر ألاف البغداديين بواسطته من ضفة لأخرى على الجسور التي أخذت تتكاثر في طفولتي، أو ملاحةً بوسائل ملاحة مختلفة. مياه دجلة نفسها هي ميدان لعمليات مختلفة ومتنوعة. فيها قوارب صغيرة ومتوسطة مزودة بمجاديف تنقل أناساً وأغراضاً بين الضفتين، فيما يشابه تاكسيات للنهر. يدعى هذا النوع من القوارب اسمه "بَلَم" ويجلس فيه حتى عشرة راكبين. كانت الأسر الموسرة، التي بنت لنفسها بيوتاً عملاقة في الجانب الشرقي (الكرخ)، تحتفظ بقارب كهذا بجوار بيتها وتشغل مراكبياً (بلمجي) يعمل في خدمتها طوال اليوم. كان البلمجي يتلقى أوامر من كبير العائلة وبعد أن ينقل الـ"ريس" في الصباح لعمله في الضفة الغربية (الرصافة) كان يعود شرقاً لنقل أفراد الأسرة الآخرين وفقاً لـ(لجدول العمل) اليومي الذي يستلمه. لدى نهاية اليوم ينتظر البلمظي في الضفة الغربية لأجل إعادة من يعمل لديهم لبيتهم.

برغم المسافة الكبيرة بين ضفة وأخرى فيمكننا رؤية بيوت (الكرخ) بوضوح من شارع (أبو نواس) في الضفة الغربية (والذي سُمي على اسم شاعر عاش في بغداد في القرن الثامن الميلادي، أي في عصر الخليفة هارون الرشيد). أحد تلك البيوت هو البيت الجميل للقاضي داود سمرة، وهو قانوني يهودي عمل لسنوات طويلة نائباً لرئيس محكمة العراق العليا. بشكل عام لم يستعمل سكان بغداد أسماء (الرصافة) و (الكرخ) وإنما تعبير (الضفة الثانية..هذاك الصوب). منحت الحركة المستمرة بين شرق المدينة وغربها انطباعا عن النهر كله بأنه ليس مجرد (منظر طبيعي) جامد وإنما خبرة ديناميكية عاصفة.

مياه دجلة في صباي كانت نظيفة ومناسبة للسباحة. تعلم أغلب سكان المدينة (أو صيغة أفضل: أغلب الرجال)، عندما كانوا أطفالاً، السباحة، وكذلك العبور من جانب لآخر سباحةً. تم إرسالي لمعسكر السباحة في صيف عام 1938، أي وأنا في سن الرابعة أو الخامسة. كنت أستيقظ في الخامسة صباحاً و أسير برفقة شخص ما من أبناء عائلتي باتجاه المعسكر الذي يبعد حوالي كيلومترين من البيت لأجل بدء دروس السباحة مبكراً في الصباح. بدأت أسبح عندما بلغت ست سنوات أو سبعاً مع قافلة السابحين البسيطة المصحوبة بالأغاني والهتافات المبهجة إلى الضفة الشرقية وأعود بعد فترة إلى الضفة الغربية. بعدها صرت أتحلى بالشجاعة وأعبر النهر بنفسي أو برفقة صديق. عندما جئت إلى البلاد (إسرائيل) في عام 1954 اكتشفت لأول مرة البحر وأمواجه الهادرة المختلفة لدرجة كبيرة عن أمواج نهر دجلة في أشهر الصيف. تعودت على البحر بسرعة، فقد كان عندئذ نظيفاً بشكل مذهل وسبحت كثيراً فيه ولكن حقيقة أنني لن أستطيع الوصول لأية (ضفة ثانية)قد أقلقتني.

كانت مياه دجلة ترتفع في فصل الشتاء وتصل إلى أرضية الشاطئ، وحتى أوائل الأربعينيات كان النهر يهدد بغمر المدينة، ومن حين لآخر بالفعل كان يفيض على ضفتيه. كانت السلطات تجند بالقوة الرجال العاملين بالشارع للمساعدة في حمل أجولة الرمل بهدف كبح المياه المتصاعدة (تم حل المشكلة عندما بنت الحكومة سداً أحاط بحواف المدينة حيث أقام عابرو سبيل كثيرون مع عائلاتهم في مساكن مؤقتة).

في مقابل هذا، ففي الصيف كانت مياه النهر تتمدد وفجأة كانت تظهر أسطح كبيرة من (الجزر) الصغيرة أو الكبيرة والتي اعتدنا على إطلاق عليها اسم (الجزرة) (أي:الجزيرة الصغيرة). هذه الأسطح الجافة والنظيفة في وسط النهر كانت تعد أماكن لقضاء الوقت. كانت رائعة وباردة في أمسيات الصيف الساخنة في بغداد. عندما تلوح في بالي بغداد قبل خمسين عاماً أو أكثر، فإن الصورة الأكثر إطراباً التي أتذكرها، هي ليالي السباحة والأكل على الجزرة. كنا نصل بالبَلَم لأحد الزوايا الهادئة على الأرض البكر، وبجانب الأدوات الموسيقية (أو الفاتيفون) للتسلية، فقد كنا نأتي معنا بسمك عملاق، من نوع الشبوطة، والذي كان مفخرة انتاج نهر دجلة. كنا نشعل ناراً من خشب الشجر والذي نكون قد أعددناه مسبقاً. كان (رجل النيران) المتخصص في شي السمك العملاق حول النار، يهيئه على مشواة مفتوحة وهو معلق على أعمدة. بعد ذلك كان ينزل السمك ويتبله بالتوابل (وبالأساس الكاري الهندي) والطماطم المقطعة لشرائح. كنا نضحك ونلعب أثناء انتظارنا للسمك الآخذ في النضج (السمك المشوي بهذه الطريقة كان يدعى مزجوف أو مسقوف). عندما كانت تصل لأنوفنا روائح خلطة التوابل كنا نعرف أن أوان الاحتفال قد حان.

بين الأسر التي اعتادت أسرتي قضاء الوقت معها بالجزرة كانت أسرة التاجر ناتان ساعتشي، صديق أبي، الصغيرة. ولكن لدى انتهاء الحرب العالمية الثانية هاجر ناتان مع أسرته واستقر في لندن. بنى هنالك مع ابنيه إمبراطورية اقتصادية عظيمة كانت في أساسها شركة اتصالات، وهناك من يقول بأنه بفضل شركة ساتشي للاتصالات وصلت مارجرت تاتشر لرئاسة حكومة انجلترا. مات ناتان في عاصمة بريطانيا في شيخوخة هادئة غير أن ابنيه ما زالا نشطين بكامل قوتهما في مجالات عمل مختلفة. من بين أعمالهم الأخرى هناك تجارة اللوحات والأعمال الفنية. في عام 1997 أو 1998، بينما أنا في نيويورك، أقيمَ في متحف بروكلين، أحد أهم وأجمل المتاحف في الولايات المتحدة، معرض لمجموعة خاصة تنتمي لأحد أبناء ناتان ساعتشي. جذب المعرض اهتماماً كبيراً وأثار كذلك عواصف عامة بسبب لوحات فضائحية تضمنها. كنت آمل بلقاء السيد ساعتشي/ساتشي – وهو من أبناء جيلي على الأرجح – في الاحتفال بافتتاح المعرض كي أسأله عما إذا كان مازال يتذكر "ليالي الجزرة"، غير أنه اتضح لي أن الالتقاء بملكة بريطانيا أكثر سهولة من الوصول إلى التاجر اللندني الكبير. أسفت لضياع فرصة اللقاء بالرجل لأنني رغبت في أن أقول له أنه منذ أن تركت عائلته بغداد قبلنا بست سنوات فقد توقفنا عن زيارة الجزرة، ومحتمل أن عائلتي لم تذهب هناك، لأنه بفضل أبويه، محبي الحياة، فحسب وجد أبواي طريقهما للجزرة.

لم أقم بتحليل إلا أقل القليل مما أتذكره عن الحركة المستمرة في نهر دجلة. يلوح لي النهر في سياق "أدبي" كذلك. في عام 1949 على وجه التقريب بدأت في كتابة أشعار وكتابات نقدية، وكما حكيت في موضع آخر، فقد صادقت بعض الشعراء العراقيين الشباب الذين كانوا في بداية طريقهم الأدبي. كنا نلتقي في أشهر الصيف بأحد المقاهي المنتشرة على طول الضفة الغربية. في إحدى الأمسيات أتيح لي أن ألتقي بالكاتب الفلسطيني المنفي جبرا ابراهيم جبرا، وهو مسيحي مولود في بيت لحم، والذي كان قد وصل حينئذ لاجئاً إلى بغداد، وأقام هناك حتى موته في 1996 وكتب هناك أغلب أعماله الأدبية (روايات وأشعار وترجمات من الأدب العالمي). كان خريج جامعة كمبردج ومن أفضل مترجمي شكسبير للعربية. تم استيعابه جيداً في المجتمع الأدبي لبغداد، تزوج ابنة بإحدي العائلات الأرستقراطية البغدادية المسلمة وكان صديقاً حميماً للشاعر بلند الحيدري. غير أنه في سنة 1968، أي بعد مرور عشرين عاماً على التقريب منذ لقائنا لجوار دجلة، وعندما أصبحت باحثاً في جامعة أكسفورد، جاء جبرا هناك من بغداد لإلقاء محاضرة في المعهد الشرقي في زقاق pusey lane . كنت ضمن جمهور مستمعيه ولدى انتهاء المحاضرة قابلني د.مصطفى بدوي، والذي كان يشرف على رسالة الكتوراه الخاصة بي، بجبرا في غرفته بالمعهد. وعندما أشار في أذني الضيف أنني قادم من إسرائيل تراجع جبرا بشكل واضح وحافظ على صمته لدقائق قليلة. في النهاية سألته عن صديقنا المشترك بلند الحيدري والذي بفضله تعرفت على جبرا لأول مرة. عندما سمعني أذكر بلند (وبالتحديد بلكنة بغدادية واضحة) انتبه فجأة وسألني أين عرفت بلند. ذكرته بلقائنا في المقهى بجوار دجلة. قال: أه! أذكر أنه كان هناك صبي يهودي نحيف كان من المعجبين ببلند. هل كان هذا أنت؟ منذ تلك اللحظة ذاب الجليد الذي فصل بيننا.

في أيام حرب الخليج عام 1991 شاهدت في نشرة الأخبار التليفزيونية صوراً مخيفة عن تفجير جسور ومبان في بغداد. ومثل بغداديين كثيرين في إسرائيل (وفي أماكن أخرى) شعرت عندئذ بمشاعر قاسية ومتناقضة. النهر وجسوره والتي شكلت لي مناظر طبيعية للوطن تتلقى ضربات رهيبة ومئات من البشر يلاقون حتفهم. غير أن الطاغية البغدادي (والذي لم يولد في بغداد) يقوم بقتل ألاف الشهداء من أبناء بلاده ومن بلاد أخرى. يرسل صواريخ "سكود" باتجاه إسرائيل وبالتحديد في المناطق التي يسكن فيها الكثيرون من مهاجري العراق. هل يمكن مع كل هذا التوجه إلى ضمائر قادة العالم وأن نطلب منهم إسقاط ضرباتهم بالطاغية مع الامتناع عن المساس بالمدينة الرائعة؟ بتلك الروح ضممت صوتي بوسائل البث البريطاني إلى أصوات يهود وغير يهود من مهاجري بغداد، ولكن كان واضحاً لي أننا نصرخ في الصحراء.

أدوية مستوردة

يوما ما في بداية 1947 عاد أبي من عمله في البنك إلى البيت وعلى لسانه قصة مخيفة. لقد تم إلقاء القبض على اثنين من رجال الأعمال اليهود، وهم صغار السن جداً، في إطار الحملة التي نظمتها أجهزة الحكومة العراقية لاصطياد قياديي الحزب الشيوعي. كان اسم هذين الشابين أبراهام ناجي ويعقوب سحيق. وسيمثلان أمام محكمة أمن الدولة. اتضح أن الاثنين كانا عضوين كبيرين في الحزب غير القانوني (وهناك من يقول بأنهما هما من قاما بتمويل نشاطه) ولهذا فيتوقع لهما عقوبات ثقيلة، وقد يتم الحكم عليهما بالإعدام، كما هو معتاد بالقانون العراقي.

ناجي وسحيق كانا شريكين في شركة يهودية كبيرة (الإخوان جوري) عملت على استيراد الأدوية وبيعها في الصيدليات والمستشفيات. عرفهما أبي وأحبهما كثيراً أيضاً. كان يشير إليهما من حين لآخر بوصفهما (صديقين موهوبين ومستقيمين). أذهلته خبر القبض عليها. كان يؤمن في أعماقه أن كل اهتمامهما يتلخص في استيراد الأدوية، ولم يكن يعتقد أنهما يبحثان عن ترياق لأمراض المجتمع والعدل للعالم كله. في البداية رفض التصديق واعتقد أن المسألة هي تهم باطلة ضد "يهود صالحين"، لكونهم يهوداً فحسب. ولكن عندما اتضح أن الاتهامات قائمة على حقائق شعر كأنهما قد خاناه.

كانت الصحافة العراقية تمتلئ يومياً، ولأسابيع كثيرة، بقصص عن أعمال القياديين الشيوعيين المحبوسين حالياً، وعلى رأسهم زعيمهم، وهو مسيحي يعود أصله إلى جنوب العراق، واسمه يوسف سلمان يوسف، ويدعوه الجميع "فهد". اكتسب فهد مهاراته الشيوعية في مدرسة نشطاء الشرق بالاتحاد السوفيتي الذي تم إرساله إليه. لدى عودته أسس حزباً شيوعياً منضبطاً يخضع لجميع أحكام ستالين.

أبراهام ناجي ويعقوب سحيق كانا من الأصدقاء المقربين لفهد، وفي الواقع فلقد ألقي القبض عليهما مع الزعيم في بيت فهد الرائع. كانت امرأة أبراهام ناجي، واسمها إيلين لبيت درويش، عضوة نشطة كذلك في الحزب، وألقيت على عاتقها مهمات صعبة وخطرة (كأن تكون رسولة بين القادة المحبوسين وبين هؤلاء في الخارج). هي أيضاً كانت تعلم ماذا يعني السجن العراقي.

حكم على أبراهام في البداية بالشنق غير أنه استأنف الحكم وتغيرت العقوبة إلى الحبس لمدة 15 عاماً مع الأشغال الشاقة. أطلق سراح ناجي بعد عشر سنوات على يد نظام عبد الكريم قاسم الثوري (والذي طرد النظام الملكي في يوليو 1958) وانتهى به الأمر بأن انضم إلى زوجته التي كانت قد جاءت إسرائيل في السابق. أقام الزوجان ناجي في رامات جان. كنت ألتقي بهما في ملتقيات واجتماعات سياسية. واصل أبراهام اعتبار نفسه شيوعياً غير أنه لم ينضم، كما أعتقد، للحزب الشيوعي الإسرائيلي. كان يتذكر أبي بالخير وذهل عندما سمع بموته في إسرائيل بعد أزمة قلبية وهو يبلغ ستاً وخمسين عاماً فقط. كانت نهاية أبراهام وإيلين تراجيدية. ماتت هي بمرض خبيث عام 1966 وفي عام 1967 وضع أبراهام حداً لحياته.

عودة لبغداد، بسبب عدم اهتمامي بالسياسة غابت عني بعض الحقائق المتصلة ببيئتي القريبة. فؤاد مثلاً، وهو من أفضل أصدقائي في مدرسة "شيميش"، كان متعاطفاً نشطاً مع الحزب، ولم أعرف أنا هذا حتى اختفائه من المدرسة حينئذ. اضطر في عام 1948، وهو يبلغ 13 أو 14 عاماً، مع عمه يوسف (والذي كان عضواً نشطاً بالحزب) إلى التواري عن أعين الناس لأشهر كثيرة، وبعدها لم يعد للدراسة في مدرستنا. هرب عمه إلى مدينة البصرة، وهنالك ألقي القبض عليه وحكم عليه بالحبس المؤبد وأطلق سراحه أيضاً عام 1958 على يد حكومة قاسم. أما فؤاد نفسه فهرب من الشرطة والتي كانت بالتأكيد مهتمة بإلقاء القبض عليه، ووصل إسرائيل عام 1951. هناك تجددت صداقتنا القوية حتى موته عام 2000. عمل في البلاد صيدلياً بصندوق المرضى، وهي المهنة التي تلقى أسسها في مخازن جوري لاستيراد الأدوية!

كانت لي صلات أخرى، مباشرة أو غير مباشرة، بشيوعيين يهود شباب. غير أن ما أحزنني أكثر من أي شيء حدث عن طريق غير مباشر. أعني شاباً اسمه ساسون ديلائيل تم إعدامه شنقاً عام 1949 بتهمة نشاطه كـ"قيادي أعلى" (أو شبه أعلى) في الحزب الشيوعي. لم ألتق بساسون نفسه، غير أنني عرفت عائلته. كان أخوه الأكبر، عبودي، مدرساً للإنجليزية في المدارس اليهودية، وعمل أيضاً لسنة واحدة مدرساً بديلاً لهذه المادة عندما قضى مدرسنا البريطاني، مستر روجرز، أجازته في وطنه بإنجلترا. كان أخوه الأصغر فتحي تلميذاً بفصلي في مدرسة "شيميش" وكنا صديقين مقربين. في إطار هذه الصداقة اتفق لي لمرة أو مرتين أن أزور بيتهم القريب من بيتنا. لم تبد هناك أية سمة تدل على تسيس ما. بيت عادي لأسرة من الطبقة المتوسطة الموظفة، مثلنا. كان فتحي نفسه بعيداً بعد السماء عن الأرض عن فكرة الشيوعية، وهكذا كان – كما يبدو – سائر أفراد الأسرة.

وبالفعل، فأنا لم أكن أعلم أنه في هذا البيت نشأ أحد القادة الشجعان للشيوعية العراقية. كان ساسون، في رأي كل من عرفه، عبقرياً. اتضحت مواهبه عندما كان تلميذاً في المدرسة، ومنذ تعرفه على نظرية ماركس جعل منها ديناً وأصبح خبيراً بكل أسرار المادية الجدلية. انضم للحزب في شبابه وعمل لفترة ما موظفاً في وزارة حكومية، غير أنه قبيل عام 1948 ترك وزارته وكرس نفسه للنشاط الشيوعي. في عام 1949، بعد حبس وشنق قادة الحزب، حمل على عاتقه المسئولية العليا في الحزب. وعلى مدار شهرين أو ثلاثة حمل لقب "مسئول أول" (سكرتير عام). غير أنه سرعان ما ألقي القبض عليه وحوكم وشنق في الميدان الرئيسي لبغداد (كما شنق من سبقوه - فهد ورفاقه بتهمة القيادة العليا) عشيه شنقه كتب الكلمات التالية: "أدعو الله أن ألا يذهب نضالي عبثاً. لا يمكن لقوى الرجعية أن تسود إلى الأبد. سأموت غداً لأنني آمنت أن للبشر الحق في التحكم في مصيرهم، وهو الديمقراطية والسلام والحياة الكاملة. أنا إنسان حر لأنني أعرف الحقيقة..."

من عرفوه عن قرب (ومنهم صديقي الكاتب سامي ميخائيل) يتحدثون بانفعال عن قدراته وجرأته. غير أنه في نظر شيوعيين عراقيين كثيرين كان يبدو حالة إشكالية للغاية. وصل للقيادة تقريباً بـ"بضربة خاطفة" وحاول إرساء نماذج جهادية متطرفة ومغامراتية في الحزب. بسبب تطلعه للسيطرة على الشارع من جديد، بعد سحق الثورة الشعبية في 1948، حمل لواء الخروج الجماعي لأعضاء الحزب والمتعاطفين معه إلى الشارع. بهذا انكشف أمام أعين الشرطة، كما يزعم المعارضون، سائر الكادر الحزبي، والذي حافظ في الماضي على السرية. يطرح باحث بارز في الشيوعية العراقية، حنا بطاطو، وهو عراقي مسيحي نشر كتاباً ضخماً عن هذا، مزعماً مثيراً للسخرية (وإجرامياً بالتأكيد)، عن كون ديلائيل كانت تحركه دوافع صهيونية وأن هدفه المدرك كان تدمير الحزب الشيوعي، فليرحمنا الله.

عليَّ الإشارة إلى أن ديلائيل لم يكن الشيوعي الوحيد الذي صعد لمرتبة القيادة في الحزب الشيوعي وتم شنقه بسبب هذا في الميدان المركزي لبغداد. سبقه يهودا صديق، والذي، بسبب رؤية القيادة التقليدية في الحزب عمل لفترة قصيرة "مسئولاً أول" حتى أمر القائد فهد وهو في سجنه بتعيين شخص آخر مكانه. وفي كارثة بالنسبة للحزب تم حبس هذا الشخص، واسمه مالك سيف، وانهار أثناء التحقيق معه، قام بالإدلاء بمعلومات عن رفاقه وكان الشاهد الرسمي في محاكماتهم. هكذا نجح النظام العراقي في يوم واحد في شنق أربعة قادة "تاريخيين" كان كل واحد منهم ينتمي لمجموعة دينية مختلفة: فهد (مسيحي) وزكي بسيم (مسلم شيعي) وحسين الشبيبي (مسلم شيعي) ويهودا صديق (يهودي).

هناك من يقول بأن لحاق يهودا بالقادة المشنوقين، برغم عدم انتماء الرجل للقيادة التاريخية، جاء كإشارة تحذيرية للطائفة العراقية. يقال أن نوري السعيد، وهو كبير القادة السياسيين في العراق حينئذ، قد غضب كثيراً على الطائفة اليهودية لأنها قد أخرجت من بينها نشطاء شيوعيين مخلصين. لهذا فلقد ضم نشطاً كان "يمثل" الطائفة اليهودية التي رآها خائنة إلى سائر "ممثلي" الطوائف المختلفة حتى يعتبر من لا يعتبر!

كان شنق ساسون ديلائيل لحظة صادمة في حياتي، أنا الذي كنت أعرف كل أبناء عائلته تقريباً عن قرب. غير أن الفصل الأكثر إدهاشاً لي في قصتي من هذه الناحية لم أقصه بعد: تزوجت بورتونت، وهي ابنة عمي موشيه، والتي هاجرت مع عائلتها للولايات المتحدة وأقامت في لوس أنجلوس، في الخمسينيات من دافيد ديلائل، وهو الأخ الأكبر لساسون. كان دافيد عاملاً اشتراكياً، وفي السبعينيات والثمانينيات كنت ألتقي به مع عائلته أثناء زيارتي للساحل الغربي للولايات المتحدة. كان شخصاً دمثاً، نموذجاً غير سياسي تماماً. غير أنني بعد فترة قرأت كتاب يوسف ميئير (بعنوان "في الحركة السرية بالأساس") أن دافيد كان في بداية الطريق، قبل هجرته للولايات المتحدة، مصدر الإلهام الأيديولوجي لساسون. وهكذا عرفت أنه كتب، عشية شنق ساسون، خطاباً لأخيه دافيد وفيه شرح اعتقاداته ونضالاته وأحلامه. أردت الحديث مع دافيد حول هذا غير أنني لم أجرؤ على فعلها في نهاية الأمر. في المرة الأخيرة جاء البلاد مع زوجته لحضور زفاف ابنه وكان منغمساً تماماً في هذا. مات في أول 2003 بلوس أنجلوس.

ومن موضوع إلى موضوع في نفس الموضوع: دعي ابن بورتونت ودافيد على اسم عمه ساسون. عندما استلمت، عن طريق البريد، الدعوة لحضور حفل الزفاف وقرأت اسم "ساسون ديلائيل" اختلط علي الأمر للحظات. غير أنني فهمت فوراً ما أن اتضح لي أن الزفاف سوف يقام في أحد القاعات الحريدية في بني باراك وأن العريس، الذي يحمل اسم أحد القادة الأسطوريين للحركة الشيوعية العراقية، هو شخص تائب، توراته هي معتقده. من كان هذا الذي قال بأن التاريخ يتكرر مرتين: مرة كمأساة ومرة كمهزلة؟

________________________________________________

كتاب ساسون سوميخ "بغداد، الأمس" منشور بترجمة أخرى عن دار الجمل، كولونيا، ألمانيا، 2008.

Friday, 6 November 2009

رقمك القومي موشوم على جلدي

دفنا شحوري

ترجمة: نائل الطوخي

الرقم القومي

1

بمقص مفتوح الساقين

وشمتَ على جسمي رقمك القومي:

صفر

خمسة

ستة

أربعة

ثلاثة

ستة

تسعة

ستة

إلى آخره


اليوم أخجل من التعري

حتى لا ترى رقمه القومي

يركض على شاشة جسمي في الظلام

لن تتسامح

ستجول بإصبعك على الرقم الأول وتلخص الأمر:

لقد كان صفرا في النهاية

هذا ما كانه

2

بفضل قدرتي التي تتجاوز الحواس على اكتشاف رقمه القومي

رنّ لي

كي يعرف مني كيف اكتشفت عورته على الملأ

صمتُ صمتا طويلا على الخط

صمتاً اجتاز قارات وجزراً

وفدانات من الأشواك

وأرخبيلات ومطبات هوائية

وتيارات متقابلة

في نهاية الصمت الحدادي انفجر فجأة في الغناء

ثلاث كلمات ترددن مرة تلو الأخرى

من فمه إلى فمي

حتى تم ابتلاعهن في أعماق الصوت

وتحولن إلى كلمات لطيفة

بردانة؟، سألني فجأة وسحب بطانية من خلفه

غطاني وغطاني وغطاني

مثل مومياء بين ذراعيه

3

عندما خمنت أخيرا رقمه القومي

بدا هذا كأنني خمنت كل أرقام اليانصيب

وأنني أرددها في جميع المناسبات

جاء كلب كبير باتجاهي

من لسانه السميك يقطر الدم

عصفورة سوداء ميتة على الرصيف

بؤبؤاها غائران بعمق في محجريهما

وهو

يتمهل متسائلاً كيف حدث هذا

هذه القوة القاسية

التي تجعله يقف عاريا مكشوف العورة

رقمه القومي معلق في ميدان المدينة

بدون ثياب

ملاءة حمراء مبقعة بالمني:

مداعبات انتهت بصياح

صرخة واحدة ووحيدة

انطلقت من فمه

عندما اكتشف أنني اكتشفت

رقمه القومي

أنا وأختي

جارة أختي تعتقد أنني مجنونة

امرأة لديها أربعون عاما

وطفلان

وتعاني على الدوام من الرجال

حكت لي أختي بالأمس أن الجارة أوقفتها على السلم

أخبرتها أنها قرأت في الجريدة

أن أختها تكتب في قصائدها عن إحباطاتها من الرجال

سألتْ أختي عن سن أختها

وقالت أختي أن أختها لديها أربعين عاما

وأضافت أنه برغم سنوات الإحباط

فهي مع هذا تأمل في العثور على الرجل المناسب

الجارة قامت بحركة تجاهل بعصا السير الخاصة بها

أراحتها على جانبها المبطن

ونزلت خطوة خطوة إلى الأسفل

وقالت أنه ليس سهلا في سن الأربعين

ومع طفلين، أن تجد المرأة زوجاً

وافقتها أختي ولكنها كررت الإشارة في أذنيها المبتعدتين

أنه مع كل هذا فأختها لم تفقد الأمل

وأطلقت الجارة تنهيدة

في مساء الأمس قبل النوم

وأنا أجلس بجانب الكمبيوتر وأختي تطوي الغسيل

تقرب طرفي الملاءة الوردية

وتطابق بينهما في عجينة واحدة مكرمشة

سألتُها أية جارة تقصد بالتحديد

قامت أختي بحركة في منطقة الحوض وقلت أنا

أها هذه السمينة بعصا السير

وأومأتْ أن نعم وقلدت أيضا حركة التجاهل

التي قامت بها بعصاها

عندما كررت أختي معلومة

أن أختها لا تزال غير يائسة من العثور على الرجل المناسب

____________________________________________________


دَفنا شحوري، ابنة أبوين من الناجين من الهولوكست، ولدت في تل أبيب عام 1968. أبوها كان مزارعا وأمها شاعرة ورسامة، وممثلة بمسرح الكامري، وأختها، شافي شحوري، هي شاعرة ورسامة. نشرت دفنا شحوري قصائدها الأولى في دورية "عخشاف" تحت رئاسة تحرير الناقد جفريئيل موكيد. كما صدر كتابها الأول عن دار نشر "عخشاف" في 1988.

على مدار السنوات التالية نشرت أيضا قصائد في دوريات مثل "هاليكون"، "شافو"، "موزنايم"، "عيتون 77"، وتكتب حاليا نقدا فـ"معاريف"، و"تايم أوت"، وكان لها عمود ثابت فيما قبل بـ”nrg”، وفازت مرتين بجائزة كيرين يهوشواع رابينوفيتش للفنون، ولها طفلتان.

ومن كتبها ، "سويا مع شافي شحوري"، 1988، "القدرة: قصائد" 1992، "فكرت في ارتداء جوارب من الليلك"2003، "جولدفيش: قصائد"، 2009.

Friday, 30 October 2009

شمعون بلاص: أنا اليهودي العربي الأول

حتى وهو يقترب من سن الثمانين، لم يبد الأديب شمعون بلاص أي علامة على المهادنة. يواصل وصف نفسه بأنه يهودي – عربي، وهو المفهوم الذي صكه هو، يكتب الروايات فقط بالعربية والدراسات فقط بالعربية ويبتعد – بقوة تقريبا – عن التيار المركزي الثقافي. ليس من عجب في أن الجيل الجديد من الكتاب الشرقيين في إسرائيل يراه نوعا من الأب الأول، ويمكن أن تندهشوا، فهو بالتحديد متفائل فيما يتعلق بمصير دولة إسرائيل.

ران ياجيل

ترجمة: نائل الطوخي


شمعون بلاص (79 عاما) هو أديب أصيل، عميق، مولود في العراق ولن يبيع لك بأي شكل كيتش الشرق، وإنما الحياة نفسها. لا توجد في سرده ملامح نمطية رومانسية وإنما بشر. وبخلاف الأديبين المعروفين سامي ميخائيل وإيلي عامير، فشمعون بلاص وسرده، لم يتركزا أبدا باتجاه وعي المؤسسة الصهيونية. مثال جيد على هذا هو روايته "صولو" (سوفريات بوعاليم، 1998) والتي يغوص فيها داخل حياة مسارح القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر. جذاب، مجرد وبعيد عن أي من الأحداث الجارية.

أبطال بلاص هم أشخاص أيديولوجيون، أخلاقيون للغاية، يختارون الحفاظ على الاستقلال البالغ داخل الإطار أو السياق الذي يعيشون فيه عن طريق اختيار الحياة في الهامش. على سبيل المثال بطل رواية "وهو آخر" (زمورا – بيتان، 1991) الموصوف على هيئة أحمد نسيم سوسة، اليهودي العراقي الذي أسلم في الثلاثينيات وأصبح إحدى الشخصيات المركزية في مؤسسات السلطة، أو هنري كورييل في رواية "شتاء أخير" (كيتير، 1984)، وهو قائد الحزب الشيوعي في مصر والذي تم حبسه وهاجر في النهاية إلى باريس. حاضر الرواية هو الشتاء الأخير في حياته، عندما قتل على مدخل بيته في 4 مايو 1978 على يد إرهابيين لم يتم الكشف عن هويتهم وهوية من أرسلوهم.

على امتداد سنوات طويلة كان بلاص شيوعياً نشطاً، وترك حزب ماكي في مرحلة متأخرة نسبياً بالستينيات. في الحزب تعرف أيضاً على زوجته جيلا، والتي كانت شيوعية منذ الرضاعة، وهي أستاذة للفن الحديث وتهوي جمعه. عمل كمراسل للشئون العربية في جريدة الحزب "كول هاعام"، وعامل طباعة.

بعد هذا تنقل بين جرائد أخرى وكتب أعمدة شخصية، وكان حريصا على الحرية التامة كي يستطيع الاستمرار في كتابة سرده. بعد 15 كتاب سردي (روايات وقصص قصيرة)، نشر الآن سيرة ذاتية قصيرة، "بالضمير الأول" (هاكيبوتس هامئوحاد، سيمان كريئاه) ركز فيها على سنوات تكونه كأديب ورجل أيديولوجي، بداية من كونه صبياً وشاباً في الحزب الشيوعي بالعراق ثم كإنسان ناضج هنا في إسرائيل.

ترد في "بالضمير الأول" ثلاث صور جذابة عن أشخاص مركزيين في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. الزعيم الكاريزمي الذي انضم للحزب من خلال الحركة الصهيونية، موشيه سنيه، السكرتير العام، شموئيل ميكونيس، الذي وصفه سنيه بكلب حراسة الحزب، وبالطبع الشاعر – الثمل الخالد للحزب ألكسندر بن.

في بداية طريقه كأديب لم يكتب شمعون بلاص إلا بالعربية، لأنه كان مؤمنا أن الإنسان لا يمكنه كتابة أدب شخصي قريب لهذه الدرجة من لحمه ودمه إلا بلغته الأم. كتب روايته الأولى "المعبرة"، في البداية بالعربية وبعد هذا فقط أعاد كتابته بالعبرية وصدر عام 1964 عن دار نشر "عام عوفيد". وببطء بدأ في الانتقال لكتابة الأدب بالعبرية، أما العربية فلم تصبح ملزمة.

في واحدة من الفقرات الجميلة من "بالضمير الأول" يكتب:

"وذات ليلة، ، لدى عودتي متأخراً من المطبعة حملت في يدي قبل الصعود للنوم كتابا لطه حسين (كاتب وناقد مصري معروف، ر. يـ) لأجل فحص شيء ما لا أذكره. ولكن بعد أن أطفأت النور هاجمني مدٌ رهيب من الكلمات، والجمل وأبيات الشعر بالعربية، مثل سد انهدم فجأة، أطار النوم من عيني حتى الصباح. كان هذا هو انتقام العربية مني، كما تعودت على أن أقول لنفسي، العقاب المستحق لي على ما يبدو لأنني أدرت ظهري للغتي الأم المحبوبة والحميمية".

مثير للاهتمام أنه مع السنوات حدث انفصام بين اللغتين: العربية بالتحديد يستخدمها بلاص كلغة للبحث الأدبي. هو متخصص كبير في السرد العبري الحديث وبشكل خاص في السرد الفلسطيني، بل وأعد رسالة الدكتوراه عن فترات الصراع العربي الإسرائيلي في الأدب، بالسوربون، ودرس لسنوات في جامعة حيفا. يستخدم العبرية وهي لغته الثانية في الكتابة الإبداعية، أي الأدب الرفيع، القصص والروايات.

الفصل أمر محسوم تماما، طبيعي في الحقيقة، حتى أنه لا يستطيع كتابة سرد بدلا من كتابة دراسة ولا يستطيع كتابة دراسة بدلا من السرد. الدراسات يكتبها في غرفته، ولكن السرد يكتبه لسنوات في البلكونة، وبهذا هذا في كوخ مؤقت على السطح الذي تهدم في النهاية بأوامر بلدية تل أبيب، وفي النهاية فيما يشبه غرفة صغيرة مرتجلة ومغلقة لأجل التركيز.

الأدباء الشرقيون الشباب المهتمون بالمجتمع الذين يتحرك أغلبهم مسرعا نحو مركز الوسط الأدبي يعتبرون بلاص مايشبه أباً أولياً، شخصا فكر في أفكارهم قبل أن يولدوا هم أنفسهم ويوجدوا في العالم. بلاص كان من أوائل المثقفين الذين أصروا على تسمية "يهودي عربي"، بل ودخل في جدالات غير قليلة لهذا مع الوسط الأدبي، وأولهم كان البروفيسور جرشوم شاكيد رحمه الله.

على خلاف الموسيقى الشرقية

التقيت جيلا وشمعون بلاص في بيتهما بشارع بيلو بتل أبيب. وبرغم أنني خططت للمجئ في الميعاد الدقيق، مثل شيوعي جيد يصل لاجتماعات الخلية بغرض النشاط وتجنيد الرفاق، فلقد قمت بتأخير الثورة لربع ساعة. أجلس في الصالون عرقانا كلي، ومرتديا خوذة الموتوسيكل القديم وأطلب كوباً من الماء.

بلاص: "رجاء، اشرب واسأل."

كيف ترى هذا الكتاب، "بالضمير الأول"، على ضوء كتبك السابقة؟

"هذا كتاب ذكريات، يركز على مواضيع معينة في طريقي، على بداية الكتابة، بغداد، الحزب الشيوعي العراقي. كان هو الحزب الوحيد منذئذ الذي عارض بحدة الاحتلال البريطاني وطالب باستقلال العراق. عندما كنت صبياً وجدت على سلالم بيتي إعلانا يقول: "وطن حر وشعب سعيد". ما الذي نريده أكثر من هذا؟ (يبتسم بسخرية). بدأت في محاولة كتابة الأدب منذ الصف الثالث. دخولي للحزب العراقي وأنا أبلغ 16 عاما كان أمراً رومانسيا. شعرت في ضميري أن هذه خطوة صائبة."

"في مقابل هذا، فمن خلال قراءتي للدوريات الفرنسية عرفت كيف تبدو أرض إسرائيل (فلسطين، المترجم) قبل الهجرة. أذكر بدقة الصور الملونة بالأبيض والأسود للمعبرات في البلد قبل الهجرة. وضع الشيوعيين في العراق تزايد خطورة حتى احترق المعبد وقررت الهجرة لإسرائيل. عندما سمعتْ أمي هذا قالت لي: "إما أن نهاجر جميعا أو لا يهاجر أحد". وهذا ما حدث. هاجرنا جميعا باستثناء أبي الذي بقى لأغراض العمل في العراق ولم يهاجر إلا في السبعينيات وهو على فراش المرض، كنت قد أصبحت في باريس، مواظبا على عملي الأكاديمي."

يدعي الكثيرون أنه حدث ازدهار للأدباء الشباب المهمومين بالمجتمع والمنشغلين بالأسئلة عن الشرق والغرب في العقد الأخير. سامي بردوجو، دودو بوسي، ماتي شيمولوف، إيلي إلياهو، يوسي سوكري، يحزكيل رحاميم. هل تعرف أسماء هؤلاء الأدباء، هل قرأت أعمالهم؟

"قرأت القليل، هنا وهناك. ولكن هناك واحدا لم تذكره هو ألموج بهار، والذي كتب كتاب "أنا من اليهود"، حتى عنوان هذا الكتاب مكتوب بالعربية. قرأت هذا الكتاب. هناك فارق بين جيلي وهذا الجيل. الأدباء الذين أحصيتهم هم إسرائيليون. البنية اللغوية لديهم هي عبرية وليست عربية. هذه ليست نفس الخبرة. أفهم رغبتهم في أن ينضموا، ولكن سواء شاءوا أم أبوا فلقد قرأوا ودرسوا بياليك وتشرنحوفسكي. أحياناً لا يكون هذا طبيعياً. مع هذا، فالتوجه والاتجاه للاعتراف بالمحيط العربي هما أمران مرحب بهما وجيدان جدا. ثمة ازدهار وأنا معه."

هل سوف "ينتصر" هذا الأدب، مثلما "انتصرت" في النهاية الموسيقى الشرقية الإسرائيلية؟

"قليلاً جدا ما أسمع الموسيقى الشرقية الإسرائيلية الشعبية. أعرف أن الجمهور يحبها وأن المؤسسة الإسرائيلية تميل اليوم لتقبلها. بخصوص الأدب فأنا متشكك. الأدب الحقيقي، العميق، هو لغة معقدة، هو ليس موسيقى خفيفة. الموسيقى هي لغة عالمية، ولكن الطفل في البيت الإسرائيلي الصهيوني يتحدث العبرية. اللغة هي أمر محلي وهي التي تؤثر على كتابة الأدب."

"عندما بدأت في كتابة الأدب بالعبرية، كنت بالفعل قاسيا تجاهها. منعت نفسي من قراءة الأدب العربي تماماً، حتى الصحف العربية لم أكن أقرأها. هذا لم يكن سهلاً، ولكن هكذا فقط استطعت كتابة رواية "المعبرة" بالعبرية، والتي كانت مكتوبة في أولها بالعربية كلها. الكتابة هي خبرة بصرية للتحرك خلال اللغة. الكتابة عن الطفولة، وفي حالتي طفولتي في العراق، هي ما تبقى في ذاكرتي "الطفولة في الخيال". شيء حميمي. ولكن الموسيقى الشعبية، الخفيفة، قد تسهم في نهاية الأمر في تقارب ما بين اليهود والعرب وهذا بالتأكيد يمكنه العون."

تشعر أنك دفعت ثمنا من الاعتراف الأدبي بسبب أيديولوجيتك؟

"نعم. لم أستجب لتوقعات المؤسسة الأدبية الصهيونية مني كشرقي. لا أقبل كل أوصاف الشرق، الطعام والملابس المبهرجة والنداءات الحسية. أنا أقارب الأمور بشكل آخر. العربي بداخلي. ليس هو الشخص الذي نحن على صراع معه فحسب، وحقيقة أننا عشنا معه في صراع، لا تجعله بأي شكل إنساناً بلا ثقافة. هو إنسان مثل أي إنسان."

"أعتقد أن الثمن الذي دفعته مرتبط بموقفي الانتقادي ضد الصهيونية، لأنني رأيت ولازلت أرى إسرائيل، لا كدولة غربية فقط وإنما قبل كل شيء كجزء من دول الشرق الأوسط. جزء حيوي داخل الصراع والوضع القائم. هكذا فقط تصبح لدينا فرصة للوجود هنا."

"صراعي مع البروفيسور شاكيد نبع من أنه رأى بعض أبطالي يدعون لتدمير إسرائيل بل وحددني، وهذا الأمر لا يحدث بشكل عام في الدراسات الأدبية، باعتباري أنا المؤلف، أدعو لتدمير دولة إسرائيل. الآن، أنا لا أدعو لتدمير إسرائيل، وأكثر من هذا، فأبطال كتبي لا يدعون لتدمير إسرائيل. وقتها أغضبني هذا جداً."

متى أعود لبغداد

عندما حلل شاكيد نثر بلاص كتب قائلا: "الموقف السياسي لبلاص متشائم جداً: هو يتفق مع الفرضيات العربية الأساسية، ولكن في الواقع فهو لا يرى حلا لهذه الفرضيات الأساسية طالما أن دولة إسرائيل لم يتم تدميرها – وهو الافتراض الذي لا يهتم البطل ولا خالقه بقوله على الملأ (أو من الأفضل أن أقول "علنا".)

"هذا الجدل مع شاكيد هو الحدث الواحد الوحيد الذي رددت فيه على تطرق النقد لكتابتي في جريدة "دافار"، في ملحقها الأدبي "ماسا". رددت على التحريض: "عليه بالاعتذار العلني. هذا قذف شخصي وخبيث. أطالب بمحو هذه الفقرة من الكتاب الذي على وشك الصدور، وإذا لم يحدث هذا فسوف أضطر لرفع دعوة عليه." اعتذر شاكيد بنصف اقتناع وانسحب."

كتابك واقعية في الأساس. ألا تؤمن بالأدب الفانتازي؟ فرانز كافكا على سبيل المثال. ما علاقتك بالواقعية في الأدب بشكل عام والأدب الاشتراكي بشكل خاص؟ هل على الكاتب أن يكون مجندا بأي شكل؟

"بالتأكيد قرأت كافكا. ولكن معك حق. كتابتي واقعية. فقط في قصصي القصيرة هناك انحراف عن هذا. صحيح أن الأديب المجند يعبر عن أفكار كبرى. هذا كله كان هو الجدل حول التناقض بين الخط الشيوعي الواقعي الستاليني الصلب والعالم الغربي الذي واصل الدعوة للكتابة الذاتية."

"تفاقم هذا الأمر أكثر مع الكشف عن جرائم سلطة ستالين. في شبابي تأثرت بشكل أساسي بالأدباء الرومانسيين والواقعيين الفرنسيين الذين نعرفهم جميعاً. ولكن في الحقيقة، فلقد عانيت أنا وجيلا من علاقة الحزب بنا لرغبتنا في الفن الحر والمتحرر. كان هذا بؤرة صراعات غير قليلة مع ميكونيس وزوجته، على سبيل المثال، واللذين كانا يناديان بخط ثقافي دوجمائي."

هنا تتدخل جيلا في الحديث: "الاتجاه في الحزب كان أحادياً جداً. واقعية اشتراكية حرفية. شمعون لا يكتب هكذا. الشخصيات الأساسية في كتبه هي شخصيات تفكر وتشعر وليست ذوات آراء محددة لا تتغير أبدا، تتحرك باتجاه الهدف. هناك شكوك وأسئلة، هذا موجود وهذا طبيعي."

يضيف بلاص: "عندما ظهرت روايتي "المعبرة" لم أكن قد انضممت للحزب، ولكنني كنت على صلة بالرفاق"، جريدة "كول هعام"، نشرت نقداً إيجابياً عن الكتاب، ولكنها تحفظت وحكمت بأن العمل يفتقد القائد الشيوعي، وأنه من غير المحتمل أن يتم تنظيم رجال المعبرة وحدهم هكذا عرضاً. العمل يفتقد رجل الحزب الذي عليه أن يأتي من الخارج ويقوم بقيادتهم."

"الشيوعيون لم يكونوا راضين عن الشخصية الساحرة للقائد المحلي، يوسف شابي، والذي تحول في الرواية الثانية لبلاص، "شرق تل أبيب"، إلى معلم ونائب مدير مدرسة في حي هاتكفاه، يدعو إلى أفكار اجتماعية عن المساواة والتعددية الثقافية."

أي الأدباء العرب الذين تنصح القارئ الإسرائيلي بمعرفتهم. ماهي في رأيك فرص إسرائيل للاندماج في محيطها اليوم؟ وهل كنت لتسافر بغداد لو كنت تقدر؟

"أوصي بإلياس خوري، أديب لبناني، وبغسان كنفاني، أديب فلسطيني لدينا معه تاريخ مشحون، وبإدوار الخراط، المصري القبطي. وبالتأكيد كنت لأسافر بغداد اليوم لو استطعت. ليس للسكنى هناك، وإنما فقط للزيارة. أيام الجدل عن موضوع اليهودي العربي دعوني في أمسية لي باتحاد الكتاب وترددت نداءات من جانب الجمهور: "اذهب اذهب، عد للعراق!."

"في الحقيقة، لماذا يمكن أن يكون هناك يهودي أمريكي، أو يهودي فرنسي، ولا يمكن أن يمكن هناك يهودي عربي؟ هل لأن العرب يتم النظر إليهم كأعداء؟ يثيرني أن أرى ما حدث هناك. الكثير جدا مر بهذه المدينة، بغداد، وبهذا البلد، العراق، يثيرني أن أرى ما تبقى من الماضي. كان هناك عندئذ النهر الذي كانت تظهر به الجزر في الصيف. تزورني صور من المقاهي والأزقة وأكواخ الاستحمام على شاطئ دجلة، حيث تركت ملابسي وخرجت للسباحة للضفة الثانية. ربما تندهش لسماع هذا، ولكن بالنسبة لمستقبل إسرائيل في المنطقة فأنا أريد أن أكون متفائلاً."

"قد تكون إسرائيل دولة مستقلة مندمجة في الشرق الأوسط، إذا انسحبت من كل الأراضي المحتلة، ونجحت في التطور داخل حيز البحر المتوسط وأن تتقبله وتتقبل ثقافته. ما يضايقني الآن هو أمر واحد فحسب، أنني على ما يبدو لن أتمكن من رؤية كل هذا يحدث."

عن معاريف

Friday, 23 October 2009

جزائر، عودي للبيت



روني سوميك

ترجمة: نائل الطوخي


ولد روني سوميك في بغداد عام 1951 باسم "روني سوميخ". وهاجر إلى إسرائيل عام 1953. درس الفلسفة اليهودية في جامعة تل أبيب وفي السنوات الأخيرة قام بتدريس الأدب وترأس ورشة للكتابة الإبداعية. نشر عشرة دواوين، منها "صولو" 1970، "منفى"، 1976، "سبعة سطور عن معجزة نهر اليرقون"، "زر الضحك" عام 1998، "حزب الحليب"، 2005، "الجزائر" 2008. قام عام 1997 بتسجيل ألبوم "انتقام الطفل المتعثم"، في نيويورك، و"خط الفقر" في فيينا، مع موسيقار الجاز إليوت شارب. وفي 2001 ظهر الألبوم الثالث "مختصر تاريخ الفودكا".

ترجمت قصائده إلى 39 لغة، منها العربية، حيث قام الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم بترجمة ديوانه "ياسمين"، وصدر عن دار الكرامة.

الفيديو المصاحب للشاعر وهو يغني. والصور بالترتيب من أعلى هي صورة الشاعر، صورة غلاف ديوانه "جزائر"، والسفلى لقصيدته "قمح" مطبوعة بالعبرية.

جزائر





لو كانت لي طفلة أخرى


كنت سأسميها جزائر


وكنتم ستخلعون أمامها القبعات الاستعمارية


وكانوا سيدعونني: "أبو جزائر."


في الصباح، عندما تفتح عينيها الشوكولاتيتين


كنت سأقول: "هاهي أفريقيا تستيقظ".


وكانت ستداعب شقرة رأس أختها


وهي واثقة في أنها وجدت الذهب من جديد


الحبوب على شاطئ البحر هي صندوق الرمال الخاص بها


وفي أثار أقدام الفرنسيين الذين هربوا من هناك


كانت ستخبئ البلح الذي تساقط من الأشجار


جزائر، كنت سأقبض على سور البلكونة وأناديها


جزائر، عودي للبيت، وانظري كيف أنني دهنت الحائط الشرقي

بفرشاة الشمس

الخواجة بياليك

طفلة عربية تغني قصيدة لبياليك*

وظل جناحي الأوتوبيس يسود أشجار الزيتون

في منحنيات وادي عارة.

لا أم. لا أخت، وعيناها تقيسان

من جفن لجفن ارتفاع نجوم

الخواجة بياليك

ذات مرة قرأت أن أول علامة

تبشر بالانطفاء المتقارب لنجم

هي التورم البارز

والاحمرار في الأماكن الخارجية

على جبال شفتيها مدهونة سجادة حمراء

وأطراف القصيدة ضربت دو، ضربت لا

لملايين السنوات يستمر الانهيار حتى تحول النجم إلى كرة مبيضة

تبث فائض الحرارة إلى فراغ

بيت غير منتهي.

الشمس التي تحترق في لهبها تنقط العرق على الفانلات

الزرقاء للعمال

وصوت الصلوات البعيدة للمؤذن يمتد

كحصيرة ممزقة على ظهر حمار

غلب حماره

صورة شخصية من الكوماندو

جريمة القتل الكاملة تحتاج إلى كتلة جليد. ثلجه المسنون

ينزلق بداخل شريان الرقبة

والدم يذيب البصمات

وهكذا، الإصبع المتروك على ورقة تتحول لرقبة منتصبة

قبل أن تقفز الساقان على الأسلاك

للرقص في قلب المعسكر.

في سن الثامنة عشر مضغتُ مسامير

وبصقتُ فأراً

وفقط بسبب النظارة لم يأخذوني للصاعقة.

في عينيْ موظفة التجنيد كان البحر ملوناً

والمراكب البخارية كانت تدور في شواطئ شفتيها

خذ كاميرا، هذا ما أرادت قوله لي، وصور حياتك

سوف تفقدها ذات يوم

وسوف لن تتبقى لديك إلا

النسخة

القيود. قصيدة شارع

وضعوا القيود في يديه لأنه ليس هناك حب في العالم.

وسرق هو رشاشة ماء

حتى يأتي رجال الشرطة ويبحثوا عنه

من أسفل لتحت ويفهّموه

أنه لا يعني شيئاً أن تسرق رشاشة ماء بينما ليس لديك حتى العشب اللازم لها.

أيضا ليس لديه أب. وأمه هي سطر في كراسة

العاملة الاشتراكية.

أي ساقين بيضاوتين لهذه الاشتراكية

مثل الجبن الـ9 في المائة التي يقدمونها يوميا في المؤسسة

قالت له أنه يرسم الغراب جيداً

وفي نفس اليوم ذهب للأرمني في المدينة القديمة

طالبا أن يرسم له هذا وشما على عضلته، كأن يده

جدار في مغارة قديمة.

جمال الجناحين هو ما رأوه هناك

وعينين

ورأس مائلة باتجاه السماء التي كانت

هي سقف الحبس.


قمح


إلى ليئورا وشيرلي



حقل من القمح يرفرف على رأس زوجتي

ورأس ابنتي

كم هو مبتذل أن نصف الشقرة بهذا الوصف


وبرغم هذا، فهنالك ينبت خبز

حياتي



________________________________

* الشاعر الإسرائيلي القومي حاييم نحمان بياليك

Friday, 16 October 2009

يورام كانيوك: رحلة اليهودي الأخير


مايا سيلع

ترجمة: نائل الطوخي

كان يمكن ليورام كانيوك أن يكون الإسرائيلي المطلق، النموذجي. ولد عام 1930 في تل أبيب، كان بياليك هو أباه الروحي. وأبوه، موشيه كانيوك، كان السكرتير الشخصي لمئير ديزنجوف والمدير الأول لمتحف تل أبيب للفنون. مربيته الخاصة كانت زوجة برينر. معلمته في الحضانة كان حفيدة فريشمان. وتشرنيحوفسكي كان طبيبه في المدرسة. كان مقررا له أن يكون الصبار الحقيقي [الصبار هو اليهودي المولود في فلسطين، العبراني، القوي، وفق الصورة الشائعة.. المترجم]، الوسيم وناعم الشعر، وصحيح أنه وسيم وحارب في حرب الاستقلال، ولكنه بدلا من العودة منها يحمل سكينا بين أسنانه فلقد عاد مصدوما وتنتابه الكوابيس. لأن كانيوك لم يرغب بالفعل في أن يكون الإسرائيلي المطلق، لقد أراد دوما أن يكون يهودياً من "هناك".

في هذه الأيام، بعد ثمانية وعشرين عاما من صدوره للمرة الأولى في دار نشر "هاكيبوتس هامئوحاد"، يرى النور كتابه "اليهودي الأخير" عن دار "يديعوت سفاريم. هو كتاب معقد، مركب، مشحون، يتحرك للخلف والأمام ويقف في مكانه. ومثل محجر، معدن أو ألماس، فمن غير الواضح كيف خلق ولا متى، ولا من أي المواد هو مصنوع. أحيانا ما يبدو وكأنه دوما كان هناك.

لم يدخل كانيوك أبدا ضمن كلاسيكيات الأدب الإسرائيلي، لم يكن منتميا أبدا، دوما ما كان غير شائع، وربما وحشياً أكثر من اللازم، خارج القوانين. في السنوات الأخيرة حظت كتابته بحياة جديدة وشباب كثيرون وجدوا بها ما فوته أباؤهم على أنفسهم. يقول كانيوك: "فجأة أكتب بأسلوبهم، ولكنني كتبت هذا منذ أربعين عاماً. أنا لست أديبـ"نا"، وإنما الأديب الخاص "بي". لا أكتب باسم شخص آخر وأنا حاد جدا أحياناً." يذكرني "مرة كتبت عني أنني أديب متشرد ، وهذا أعجبني بالتحديد. لم أسر أبدا بجانب الحائط. لم أجد نفسي."

كتب "اليهودي الأخير" على مدار سنوات طويلة، بالتبادل. عندما رأى الكتاب النور لأول مرة، كان كانيوك قد أصبح أديباً يحقق مبيعات عالية وحظت كتبه "حيمو ملك القدس"، "آدم ابن كلب"، و"حصانخشب"، بنجاح ولكن وفق كلامه، فـ"اليهودي الأخير"، أهم بالنسبة له من سائر رواياته.

في عام 1982 كتب البروفيسور جفريئيل موكيد في "هاآرتس" أن هذه هي "إحدى الإبداعات المذهلة المكتوبة في العقود الأخيرة بالسرد العبري"، وكذلك وصف طابع العمل بقوله: "أمامنا صندوق نفسي ومفاهيمي كثير الأبعاد يحاول مبدعه أن يجمع فيه كل واقع القرن العشرين.. وبشكل خاص الواقع اليهودي الإسرائيلي."

في مقدمة الطبعة الجديدة يكتب عوزي فايل: "اليهودي الأخير"، هو أقل كتاب قرأته في حياتي، والأكثر أيضاً." ويضيف: "اليهودي الأخير يتواصل حتى اليوم. يحدث طول الوقت. الكتاب لا يزال يُكتب." الأديب دفير تسور كتب في كلمة ظهر الغلاف أن كانيوك "وضع في مركز "اليهودي الأخير" الأماكن النائية والمُبعدة للغضب والحزن اليهودي وربطها بشوق لا يتوقف في نهايته تحدث السقطة المؤلمة."

مؤخرا تمت ترجمة الكتاب إلى الفرنسية وفي نقد عن الكتاب منشور في فرنسا مكتوب: "هذا عمل إعجازي للإسرائيلي يورام كانيوك، لم يكن قد ترجم حتى الآن للفرنسية، ليس فقط بسبب القوة الصادمة للمواضيع التي ينشغل بها الكتاب – وهي مواضيع واقعية اليوم حتى أكثر مما كانت عليه قبل عشرين سنة – وإنما على ما يبدو بسبب العمل الكثير الذي تحتاجه الترجمة: يستخدم كانيوك كل مستويات اللغة وأغلب الأشكال الأسلوبية، ولكنه أبدا لا يخرج عن حرفة الكتابة شديدة القوة لديه. إنها متاهة من الذكريات التي تتكوم الواحدة على ظهر الآخر، بدون انحرافات زائدة عن الموضوع وبلا أية ثرثرة."

الأديبة والناقدة الثقافية سوزان سونتاج قالت مرة أنها من بين كل الأدباء المترجمين الذين قرأتهم، فأكثر من تعجب بهم من الأدباء هم جابرييل جارثيا ماركيز، بيتر هندكه ويورام كانيوك. كُتب وقتها في "سيركيس ريفيو" أن الكتاب هو عمل إعجازي ثري، متطلب، ذو منطق فوكنري، أما في "بوكليست" فقد تمت مضاهاة الكتاب بـ"عوليس" لجيمس جويس وبـ"عندما نمت ميتة" لفوكنر. "اليهودي الأخير"، كما هو مكتوب هناك، يطلب من قارئه طلبات صعبة، يضطره للعثور على الصلات والمعاني في الإنجازات المشققة والحيوات الملتوية للشخصيات.

المسيح العبراني

في قلب "اليهودي الأخير" ثمة عائلة تحمل أحداث حياتها الهويتين اليهودية والإسرائيلية، الحرب وفظائعها، ألمانيا والهولوكست وأميركا والتصوف اليهودي، وهناك في الرواية الخلاص والخسارة، الثكل، الفشل واليتم، كما حاول كانيوك أن يضم بين الصفحات كل مصير الشعب اليهودي، الأمل وخيبة الأمل، العجز والقدرة، الحماقة والحكمة، والأسف شديد العمق والقدرة على البقاء وومضة الحياة.

يحكي الفصل الأول من الكتاب عن بوعاز، شاب يتجول في الشوارع بعد عودته من الحرب محطماً تماماً. يمكننا أن نرى فيه كانيوك نفسه. يحكي كانيوك أنه كتب هذا الفصل في 1964، بعد عودته هو وزوجته ميرندا للبلد من الولايات المتحدة. "الصفحات الخمسون هذه عالجت موضوعا كان يزعجني لسنوات طويلة، الإتجار بالمعاناة والإتجار بالموت. طول الوقت كان يأتيني أناس ويطلبون مني أن أكتب كتباً عن أبنائهم، هناك آلاف الكتب التي أنفقت عليها العائلات المال الوفير ولم يقرأها أحد."

بعد أن كتب هذا الفصل، كتب كتباً أخرى. عاد إليه في 1970، عندما انتقل مع عائلته للسكنى في حي موراشاه برامات هاشارون. "بالقرب مني كان يسكن السيد جلبرت وزوجته، كلاهما كان في أوشفيتز ولكنهما لم يتعرفا على بعضهما البعض هناك. كل منهما فقد عائلته. هي فقدت زوجاً وأطفالاً وهو فقد زوجة وأطفالاً. وفق هذه القصص فلقد بقى لسنوات طويلة في أوشفيتز لأنه كان يصنع كل أنواع العلب الصغيرة، والتي كان النازيون يقومون بإهدائها لعائلاتهم في الأعياد. كان يحكي كيف رأى بنتيه تختفيان."

يحكي كانيوك عن علاقته بجاره: "أصبحت أنا المسيح العبراني له. كان يهتم لأمري. كان يخرج مرتديا طاقية صيادين ومعه سكين مطبخ تحسبا لحالة إذا ما صنع له شخص ما، لا قدر الله، أي شيء. كان يدعوني السيد كانيوك. وعندما كان يحكي لي كانت زوجته تخرج من الغرفة. لم يحك الكثير ولكنه حكى لي كيف نجا، وذات مرة قال لي: "لم يكن هناك راديو، ولم تكن هناك أية صلات مع العالم وقلت لنفسي أنني بالتأكيد سوف أكون اليهودي الأخير."

وهكذا ولدت لدى كانيوك فكرة الكتاب. إحدى الشخصيات هي أديب ألماني، أديب يأتي للقاء اليهودي الأخير. هذا الوضع أيضا لم يحدث فقط في العقل المتأجج لكانيوك، وإنما في الواقع المتأجج لدولة إسرائيل. "الأديب هاينريش بُل زار البلد، ولسبب ما أراد الالتقاء بي. أقاموا له وليمة في بيت حانوخ برتوف." قبل أن يذهب للوليمة انهمك كانيوك في حوار مع جاره، جلبرت، حوار لن ينساه أبدا كما يقول: "سألني "سيد كانيوك هل تخرج اليوم؟، قلت له نعم. "إلى أين أنت ذاهب إذا أمكنني السؤال"، أجبته بأنني ذاهب إلى وليمة"، "عند من؟"، عند حانوخ برتوف"، "وعلى شرف من هذه المأدبة؟" قلت أنها على شرف هاينريش بل. قال: "آه. من هو؟" قلت أنه أديب. "أي أديب؟" ألماني. سألني: "هل هو شخص جيد؟" قلت أنني لا أعرف ولكنني أظن أنه شخص جيد. عندئذ توقف للحظة وقال لي: "قل له أن يعيد لي بناتي."

اتصل كانيوك ببرتوف تليفونياً وحاول اختراع مرض. "قلت له أن حرارتي ارتفعت إلى 48 درجة." ولكن برتوف أصر، ومضطرا ذهب كانيوك إلى المأدبة. "كان هناك أناس كثيرون. أدباء وهكذا. وعندئذ رأيت بُل، رجلا ضخما. طول الليلة كنت أتهرب منه، لم أرغب في لقائه، لأن كل كلمة يقولها جلبرت كانت مقدسة بالنسبة لي. لقد كان أحد الأشخاص الذين كنت مرتبطا بهم نفسياً." ولكن هاينريش بل لم يتنازل. اقترب من كانيوك وسأله إن كان يتجاهله لأنه ألماني. "أجبت بالنفي، وقلت له أنني قابلت جونتر جراس عندما كان هنا، وأن هذا غير ذاك." أصر بُل وسأله عن السبب. وقال له كانيوك "اسمع، سوف أضطر لأن أخبرك شيئا ما ليس لطيفا للغاية أن أقوله. ولكن لدي جار اسمه جلبرت، وهو طلب مني شيئا أنا مضطر لفعله. لقد أرادني أن أطلب منك إعادة بناته له". وعندئذ قال لي بل شيئا لطيفا بشكل خاص، قال لي أنه ربما قد يكون جاء لأرض إسرائيل بسبب هذا."

تصادق كانيوك وبل وفي أعقاب هذا تضخمت معرفة كانيوك بالأدب الألماني. "هو أديب ممتاز، ولكن خطرت على بالي فكرة: في الأدب الألماني التالي للحرب والذي كتبه هؤلاء الشجعان، جراس وبل وآخرون، لا يظهر يهودي واحد، بينما هم قد نشأوا مع اليهود. بُل حكى له أن جميع أصدقائه كانوا يهوداً، وجراس حكى لي أنه نشأ في دنتسيج ورأى الأطفال اليهود يؤخذون، وبرغم هذا فلم يظهر اليهود في كتبهم، لم يتمكنوا من مقاربة هذا، وهذا ليس بسبب الخوف، هذا ببساطة لم يكن في عقلهم، هذا لم يؤلمهم. لقد تسبب لهم بالحزن وليس بالألم. لو كان يؤلمك فسوف تكتب عنه، ولن يساعدك أي شيء. جوتة كتب أن الظلم مفضل على الفوضى، إنها جملة مخيفة."

الخصلة هي المهمة

لم يكن لقاء كانيوك بجاره هو لقائه الأول بالناجين من الهولوكست. "عندما كنت أبلغ 17 عاما تركت الصف الثامن وتطوعت للخدمة في السرية البحرية للبالماح، لأجل الإتيان باليهود لأرض إسرائيل، لم أعرف من هم اليهود ولكنني رغبت في الإتيان بهم. في البداية كنت أكرههم، كانوا يبيعون ويشترون ويقومون بكل الصفقات، وفجأة أحببتهم. أحببت قدرتهم على البقاء. كانوا يعيشون في هذه السفينة تحت وطأة ظروف رهيبة، لا يمكن وصفها، 3000 شخصاً كانوا ينامون مثل السردين، كانوا يقفون في طابور للوصول إلى الحمام، وكان الواحد منهم ينادي الآخر. وقفت هناك ورأيت شابة تقف في الطابور، تنتظر لساعتين أن تدخل. أخرجت شيئا مثل مرآة صغيرة بحجم علبة صغيرة، تطلعتْ بها وسوت خصلتها. كان جميلاً جدا أن أرى هذا."

يحكي أنه عندما تم القبض على المهاجرين بشكل غير شرعي وسؤالهم عمن هم، أجابوا كما تم تلقينهم "نحن يهود من أرض إسرائيل". عندئذ بدأ في التفكير أيضا في نفسه باعتباره يهودياً من أرض إسرائيل. "منذ ذلك الحين وصاعدا، عندما سيسألونني من أنا، لن أقول إسرائيل أبدا، لأنني لا أعرف من هو الإسرائيلي."

قبل عدة سنوات عرضت على مسرح جيشير مسرحية "آدم ابن كلب"، المأخوذة من روايته. انضم كانيوك للمسرح عندما سافر لعرضها في بولندا، في لودج. "وضعوا الخيمة أمام الجيتو. لست بولنديا، أبي جاء من أوكرانيا، من جاليتسيا، ولكنني فجأة شعرت كما لو كنت في البيت. كانت أول مرة في حياتي أشعر أنني في البيت. لألف سنة كنا نعيش في أوروبا الشرقية. ماذا تسوى مئة عام من الصهيونية؟ هي لا شيء."

تحدث عن إحساسه بتضييع الفرصة، تضييع فرصة المنفى: "لم أحب أبدا التين الشوكي، لم أحب الكومبوت، في البالماح كنت أبيعهما من أجل صحن حساء. الجميع أرادوا أن يأكلوا الموز أما أنا فأحببت السبانخ، أن يحب إسرائيلي السبانخ فهذا شيء ما حقير جدا. كنت مقلماً هكذا، لم أنجح في طي البنطلون بالشكل السليم. وهكذا لم أنجح في أن أكون صبارا أكثر مما كنت. لم أنجح في أن أكون اليهودي الذي أردت أن أكونه."

يفسر هذا بأنه لم يتحدث لغات أجنبية، وأنه لم يأت هنا بنفس حمولة اليهود إياهم الذين التقاهم: "تدريجياً دخلت في هذه الحمولة ولكن عن طريق أشياء أخرى." أحد الأشياء التي ساعدته على الدخول في وجهه اليهودي كان تعلم القبالاه. "عندما عدت من الحرب كنا نجلس في مقهي "كاسيت"، وهناك عرفت أفراهام حلفي، أحبني وكنا نتنزه سوياً. كانت كوابيس الحرب وقتها تنتابني، وذات يوم قال لي "عليك بتعلم القبالاه" [فرع من فروع التصوف اليهودي.. المترجم]. ذهبت للدراسة عندئذ في القدس في بتسليئيل، وخلال سنة كنت تلميذا حرا لدى جيرشام شالوم. تعلمت الشبتائية، وأثارت اهتمامي. تدريجيا دخلت في هذا بدون معرفة الجمارا، بدون معرفة الأساس اليهودي الحقيقي، وإنما الأساس الحسيدي والقبالي، كل ما لم يكن موجوداً في التلمود."

عجنون الملك

وفقاً لكلامه، فكل ما حدث في حياته وكل ما كتب عنه تم جمعه في كتاب "اليهودي الأخير." "لـ13 عاما كنت أعمل على هذا الكتاب بالتناوب، أنهيت كتابته عام 1980، عندما غادرنا موراشاه. ألكسندر ساند، والذي كان محررا بدار نشر هاكيبوتس هامئوحاد، أحب الكتاب ونشره." ولكن في الأكاديمية لم يكونوا ينتظرون كانيوك بالذات. "هم أصلا لم يستقبلوني أبدا. أنا متشرد ، أليس كذلك؟ المتشردون لا يمكنهم أن يندرجوا في كلاسيكيات الأدب." يقول أنه في البداية شعر بنفسه مهانا ولكنه تعود منذ ذلك الوقت. "حتى تندرج ضمن كلاسيكيات الأدب فعليك السير في مكان آمن بشكل كاف، مكان عجنوني. [ في إشارة لشموئيل يوسف عجنون، الأديب الإسرائيلي الوحيد الحائز على جائزة نوبل بالمناصفة.. المترجم] هناك أدباء ممتازون يقومون بهذا، ولكن الأمر معكوس بالنسبة لي. لماذا؟ لا أعرف."

وفقا له، فكل ما لا يقف في "صف عجنون" تم محوه ببساطة. "قرأت منذ فترة قصيرة كتبا لآشير بيريش والذي تم نسيانه تماما. حاييم هزاز اختفى. أفيجدور هامئيري. يـ. لـ. بيرتس كتب أدبا أكثر حداثة مما يكتبونه اليوم. وهناك أديب آخر شعرت بالقرب منه وهو بشفيس زينجر ولم يتم قبوله هنا. هو لم يكن متوائما مع العجنونية، عجنون كان هو الملك."

يحكي أن الباحث في الأدب جرشون شاكيد لم يكتشفه إلا وهو على حافة الموت. "تطلب الأمر منه عشرين عاما حتى يتصل بي تليفونيا، اتصل بي وقال لي "قرأت اليهودي الأخير. إنه كتاب مذهل. قلت له: "أنت كتبت تاريخ الأدب العبري بدون أن تدرجه فيه. وقال لي: "هذا غير جيد، صحيح." وحاول إصلاح هذا الأمر."

في "الحق في الصراخ"، وهي مقالة نشرها شاكيد عن إبداع كانيوك بدورية "عخشاف" عام 1998، قارن كانيوك ببرينر وكتب: "الخبرة التي يتعامل معها كانيوك هي المصير اليهودي العبثي، وعبثه مضاعف: اليهود قريبون من الثقافة الغربية التي خططت ونفذت إبادتهم. هم أكثر قربا لمن ضحوا بهم، من قربهم للثقافات الأخرى. الدولة التي أقامها اليهود قائمة، عند كانيوك، على التضحية بشعب آخر، وهكذا فالعبث التاريخي هو أن الضحايا تحولوا لجلادين. هذه الظواهر الخارجية تحولت إلى مشاكل داخلية تمزق نفس أبطال كانيوك ونفس مبدعهم إرباً."

يقدم كانيوك شهادة عن كتابه: "هذا نوع من خلط اللغات والكلمات. لا أستطيع كتابة ما يجب كتابته. كتبت عن طريق عدم معرفتي بالكتابة. أنا أكتب عجزي. أغلب الأدباء الإسرائيليين الجيدين يكتبون بحيث يمكنك قراءتهم بسهولة أكثر. بينما عندي يرتبك القراء.ابنتي قالت مرة أن الأدب يهدف لإعطاء الشرعية للعبث. هذا بالنسبة لي سر الكتابة. لهذا فأنا أحب يوجين يونسكو بشدة، وتوماس فينشون."

وفقاً لكلامه، فهو لا يحب من يخترعون القصص. "كثيرون من أصدقائي الأدباء يخترعون القصص. إذا أرادوا الكتابة عن الغيرة، يقومون بالبحث، لأنهم أبداً لم ينيكوا من الخلف ولم يسيروا أبدا في الشوارع الجانبية، كلهم كانوا أطفالا جيدين درسوا الأدب في الجامعة. أنت تقرأهم، بعضهم جيد للغاية، وترى أنهم يخترعون. بالنسبة لي، أرى أن الأديب الذي لم يمر بتجربة قاسية في الحياة سيكون من الصعب عليه أن يخترع تجربة."

يعتقد أنه ليست هناك حاجة للحكم بشأن أي تيار تنتمي له رواية "اليهودي الأخير"، وبأي أسلوب تمت كتابتها، أو كيف تتطور الحبكة. "أنا أقرأ من العهد القديم يوميا على مدار خمسين أو ستين عاماً. أحب القصص العبثية. أبراهام الذي يقدم زوجته مرتين باعتباره أخته، ثم يرسل ابنا لكي يموت في الصحراء ويرسل ابنا آخر لكي يقدمه قرباناً. على ما يبدو فهو لم يحب إلا هاجر، ولكن لا ينبغي الحديث عن هذا. في النهاية هو أبو الأمة. هذا هو جمال الأشياء، صح؟ لا أحد يشرح هذا لأنه لا يجب شرح كل شيء. أنا لا أكتب في علم النفس. أنا لا أفسر."

في غرفة عمله، في شقته المؤجرة بوسط تل أبيب، ثمة صورة كبيرة، متر ونصف في متر، لرودولف فالنتينو الوسيم، هدف إعجاب النساء في وقته، البطل الأخرس للفيلم. يقول كانيوك: "دوماَ ما أحببته. شخص ما جاءني بهذه الصورة منذ فترة طويلة. عندما طلب مني المصور الخاص بكم أن أنظر باتجاهه، فهمت فجأة، للمرة الأولى منذ أربعين عاماً، أنه يشبهني عندما كنت شاباًَ للغاية. لسنوات كنت أظن أنني قبيح وبائس وكنت أنظر إلى رودولف لأجل العثور على بطل. وفي الحقيقة فلقد كنت عندئذ، أو أنني ربما، عميقا في داخل عقلي، رغبت في أن أكونه."

إذا لم تكن الكتب موجودة، ليقرأوا قوائم المطاعم إذن

يورام كانيوك هو واحد من بين قلة من الأدباء وقفوا ضد شبكة "تسومت سفاريم" وعمليات البيع التي تقوم بها، وكان ممن يؤيدون قانون مراجعة أسعار الكتب، والمسمى أيضاً بالقانون الفرنسي، والذي يهتم بتحجيم الخصومات على الكتب في أول سنتين لصدورها. يقول أنه أصيب بخيبة أمل لأن الأدباء الإسرائيليين لم يقفوا بجانبه. "هذا ضايقني. الأدباء المندرجون في كلاسيكيات الأدب يمكنهم السماح لنفسهم بفعل هذا من أجل أدباء يربحون 40 أجوداه على الكتاب. كيف أن أحداً منهم لم يقف بجانبي؟ مم يخافون؟ حتى كتبي يبيعونها في "تسومت سفاريم" وأنا وقفت ضدهم. القانون لن يمر لأنه ليس هناك دعم من قبل الأدباء."

وفق تقرير المبيعات الأخير لكانيوك، فعلى مدار الشهور الخمسة بين أغسطس وديسمبر 2008 بيع 1348 نسخة من كتبه، وربح هو من هذا 7878 شيكلاً. وحتى لو كان قد تلقى السعر الكتالوجي المثبت على الكتاب، كان سيلاقي صعوبات معيشية.

  • ما الذي تعتقد أنه بإمكان الدولة فعله حتى تساعد الأدباء؟
  • "قبل كل شيء، عندما يصدر كتاب جديد لي يبيع عدة آلاف. "عن الحياة وعن الموت" بيع منه 7000 نسخة مثلاً. انظري، أنا لا أؤمن أن الدولة ستفعل شيئاً. ربما تتشاور الحكومة مع وزير الثقافة السوداني من أجل معرفة ما سيفعلون في دولة أخرى متقدمة مثلنا. ليست هناك دولة في العالم الغربي تستثمر أموالا قليلة لهذا الحد مثل إسرائيل. في فترة حزب مباي كانوا يستثمرون، ولكن مباي لم يعد موجودا."

رنا فربين، محررة الأدب الأصلي في دار يديعوت سفاريم، نشرت هذا الأسبوع في "يديعوت أحرونوت" تقريرا عن سعر الكتب في فرانكفورت وقالت فيه أنها اكتشفت أن القانون الفرنسي له عيوب كثيرة. مثلا، حقيقة أن سعر الكتاب في ألمانيا هو 20 يورو. وهو سعر مرتفع للغاية بالنسبة لأغلب السكان، ومعناه أن المعرفة صارت هي النصيب الأساسي لأصحاب الثروات، مثلما في العصور الوسطى بالضبط. وحتى في فرنسا، كما تقول، فأغلب الناس لا يمكنهم السماح لنفسهم بشراء كتاب في السنتين الأوليين لصدوره، كتبت قليلة فحسب هي ما تتبقى على أرفف المكتبات أكثر من سنتين.

يعترف كانيوك أنه من الأفضل للقراء ألا تكون هناك مراجعة وأن تكون هناك خصومات وعروض. "ولكن من سيزودهم بالمادة التي يقرأونها؟ لن يكون هناك أدباء. هناك الكثير من الناس في فرنسا وألمانيا يتحدثون عن هذا القانون باعتباره قانونا رائعاً. أنا أرى هذا أيضا في تقارير المبيعات التي أستلمها من ألمانيا وفرنسا. الوضع أفضل بكثير مما هو هنا."

  • المشكلة هي أن الأدب قد يتحول إلى اهتمام الأثرياء فحسب.
  • "لو كان الأمر هكذا، فسوف يدفع القراء القليل جداً ولكن لن يكون هناك كتاب ومترجمون. ينبغي العثور على الحل الوسط. صحيح أن يمكن العيش بدون كتب يورام كانيوك، ولكن لا يمكن شراء كتب بدون أن تكون هناك كتب، وكيف ستكون هناك كتب لو كان الكاتب لا يمكنه الاسترزاق. أي شيء هذا؟ ليأخذوا قوائم المطاعم المفلسة إذن وسيكون لديهم عندئذ ما يقرأونه."

عن "هاآرتس"