في حياة كل منا تجد الجدة العجوز .. التي يمتلئ وجهها بالتجاعيد وتحدثك من خلف كرمشات الجلد عن أساطير كأنها وجدت لتحكى على لسانها فقط .. إلا إن جدتي كانت في رأيي أنا الأسطورة فبياض الثلج ليست أجمل وذات الرداء الأحمر ليست أذكى بالتأكيد
جدتي الارستقراطية إلى حد الترف ، السكندرية إلى حد الأغواء ، الأنثى كما عليها أن تكون .. إستطاعت بعد وفاة جدي وخسارته لأمواله أن تتحول إلى تلك الصلبة لحد الرجولة..
اللحظة التي تركت مدينتها ونزحت إلى القاهرة بأبنائها التي لم تتعدى أكبرهن العاشرة من عمرها بعد .. استطاعت أن تترك ما تعودت عليه من حياة الترف لتشغل صباحا وظيفتها كمعلمة بإحدى المدارس الحكومية ثم تعود لتنحني على ماكينة الخياطة في تلك الغرفة ذات السقف الخشبي فوق سطح فيلا اخيها الأكبر .. ذلك الأخ الذي تكرم وترك اخته تسكن بأربعة اطفال منهم رضيعة في غرفة خشبية ملحق بها اشتباه في مطبخ ودورة مياه وارتضى لنفسه الحياة بفيلا تحتوي عدد غير محدود من الغرف المغلقة غير عابئا بامطار الشتاء المتساقطة فوقهم او بحرارة الشمس التى تنفذ من ثقوب السقف الخشبي .. هو نفسه الأخ الذي قاد ثورة مقاطعتها حينما قررت الزواج من مبيض النحاس الذي كان حانوته في بداية شارعه .. حينما قررتها جدتي ليس ابدا لتجد من يعيلها بقدر ما كان لتجد من يحمي بناتها ويقوم ابنها الوحيد .. لحظة زواجها التي كانت القطيعة بينها وبين اخوتها وكانت البداية لتحول جدتي من مدام .... إلى أم .... هي نقطة تاريخية إن كنت تدرك
جدتي التي عرفتها أنا بغطاء الرأس وسبرتاية القهوة ونسوة الحارة ملتمات حولها .. عرفها احفادها الأكبر مني عمرا بالفساتين عارية الذراعين وفورمة البومباي
من أثبتت دوما أن سكندريتها كانت بحرا جعلها منه ومثله جدتي التي تركت إخوتها وتزوجت المعلم مبيض النحاس والذي وللحق كان رجلا ليس مثله الكثير في هذا العالم .. هي نفسها جدتي التي حينما تصالحت مع إخوتها كانت تجلس لتفتخر بأبنائها الذين اصبحوا خمسة من بعد مجيء خالتي من زوجها الثاني .. ابنائها الذي هم الأفضل .. فأتموا تعليمهم دون فشل واحد .. وأصبحوا جميعا من اصحاب المناصب .
نفس المرأة التي كانت تنتظر فراخ الجمعية التي تأتي بها جارتها وتبيعها بسعر مخفض .. والتي كانت تمارس الطقوس الخاصة باستلام الفراخ من فتح الشباك على مصراعيه وامرنا بالابتعاد ثم الطلب من جارتها ان تقوم بالقاء الفراخ من الشباك المفتوح انتهائا بوقفة الحساب والمفاصلة .. هي نفسها المرأة التي ربت ابنائها الخمسة على اصول العائلات الارستقراطية وتصرفاتهم بالرغم من الحارة الضيقة التي سكنوها ونسوتها .. المرأة التي لم تكتفي بتربية ابنائها الخمسة فقط بل وقامت بتربية ابنائهم جميعا بداية بابن خالتي الأكبر وانتهائا بابنة خالتي الصغرى.
المرأة التي نظرت لي في لحظة من لحظات الخفي .. اعترضت حينما مازحني احدهم باني اشبه القمر قائلة .. "بنتي من الغجر .. مالنا بالقمر وحجارته" ..
هي التي ملأتني بأساطيرها سحراتلك المراة التي اسمعتني كل الأساطير إلا أسطورتها الخاصة فتركتني اعرفها واراها في عيون الآخرين .. التي علمتني كيف ارفض عالمي واحاول بناء غيره .. التي جعلتني اقترب من البحر عشقا لا نسبا .. هي نفسها المرأة التي اختارت عندما وهنت للمرة الأولى في حياتها أن ترتد فورا لتعيش في ماضيها
الخاص دون الشعور بحاضرها وضعفه...
..................
the painting is for
Belinda Del Pesco