لم يكن يتصور أن لقاءه البسيط مع ٦ من العمال في مدينة الإسماعيلية في عشرينيات القرن الماضى سيكون هو النواة لأخطر تنظيم ديني في القرن الـ ٢١، والركيزة الأساسية للتنظيم الدولى للإخوان المسلمين، الذى يؤرق اليوم القوى العظمى ويجبرها على التعاطي معه سرا، أحيانا، حتى وإن لم تعترف به علانية.فبينما كان شتاء عام ١٩٢٨ يسدل أستاره، أزهرت النبتة الأولى لربيع الإخوان على ضفاف قناة السويس خلال لقاء دعا له مدرس اللغة العربية – آنذاك – حسن البنا، الذى يوافق اليوم "١٢ فبراير" الذكرى الـ ٦٠ لاغتياله، وهو الشاب ذو النشأة الدينية الذى دأب على ممارسة العمل الوطنى ضد الإنكليز، وتعاهد ورفاقه فى اجتماعهم هذا على "الدعوة إلى الله" ونصرة دينه مهما كانت التضحيات، ليضعوا بذلك البذرة الأولى لدعوة الجماعة التى نمت فيما بعد لتمتد فروعها وأذرعها ليس فقط فى مختلف أقاليم مصر، بل فى أغلب دول العالم.
شارك البنا فى إنشاء عدد من الجمعيات التى تدعو إلى الفضيلة والأخلاق وتحارب المنكرات، وأنشأ جمعية الشبان المسلمين عام ١٩٢٧ حتى عام ١٩٣٨ عندما أصدر مجلة "النذير".ودخلت الجماعة في تحالفات حزبية وصدامات سياسية مع القصر تارة والوفد تارة أخرى، وبدأ ظهور ما يعرف بـ "التنظيم السري" عام ١٩٤٢ الذي نشأ نتيجة الاصطدام بالسلطة لحماية الجماعة والدفاع عنها عند الحاجة، في مؤشر صريح لتحول الاخوان من جماعة مدنية إلى شبه عسكرية، واستمر الوضع كذلك حتى أصدر رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشي قرار حلها ومصادرة أموالها واعتقال غالبية أعضائها في ديسمبر ١٩٤٨، وشملت مذكرة الحل التخطيط لـ "قلب النظم السياسية" بطرق "إرهابية" و"تدريب الجماعة على السلاح". وبعد نحو شهرين فقط من حل الجماعة، اغتيل مؤسسها، ليخلفه بعد ذلك ٦ مرشدين، هم على التوالي: حسن الهضيبي، وعمر التلمساني، ومحمد حامد أبوالنصر، ومصطفى مشهور، ومأمون الهضيبى، ثم مهدى عاكف.
وطوال تلك الفترة التى نما فيها الإخوان رأسيا، امتد نفوذهم أفقيا أيضا ليتعدى الحدود الجغرافية لمصر، حيث انتشرت دعوتهم كمدرسة وانتقلت لعدة دول عربية مثل السودان وسوريا والأردن، دون أن يكون هناك تنظيم يربط بين هؤلاء والجماعة الأم في مصر اللهم إلا الارتباط الفكري والأدبي، إلى أن جاء الراحل مصطفى مشهور، الذي دشن ما يعرف الآن بـ "التنظيم الدولى للإخوان" عام ١٩٨٢ أثناء تنقله ما بين الكويت وألمانيا، هاربا من الملاحقات في مصر.وتأسس التنظيم الدولي على قاعدة من الجمعيات والشركات التي أقامها مهاجرون من قيادات الجماعة في مصر بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ هرباً من ملاحقة النظام لهم، ويتكون من تشكيلين أساسيين هما مجلس شورى التنظيم الدولي ويتشكل بنسبة انتشار الإخوان في مختلف البلدان، ثم مكتب الإرشاد العالمي ويتكون من المرشد و ٨ أعضاء من بلده، وعدد آخر ينتخب من مجلس شورى التنظيم الدولي بنسبة توزيع الإخوان في باقي الأقطار.وعندما تمخضت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام ١٩٨٧ عن حركة "حماس"، قدمت نفسها فى بيانها الأول على أنها "الجناح الضارب لحركة الإخوان المسلمين العالمية"، واعتبرت نفسها امتدادًا للجماعة في مصر، وكانت الحركة قبل ذلك التاريخ تعمل على الساحة الفلسطينية تحت اسم "المرابطون على أرض الإسراء".وعلى الرغم من أن البعض يعتبر ارتباط حماس بالتنظيم الدولى "فكريا" وليس "عضويا" كما يصرح بذلك مرشدو الجماعة أنفسهم، فإنها تحظى بدعم قوي من الإخوان في مصر وخارجها في قضية الصراع مع إسرائيل، سواء عندما كانت في صفوف المعارضة المقاوِمة أو بعد انتقالها للسلطة الوطنية، بل إنها استطاعت من وجهة نظر البعض تطوير خطابها السياسي خصوصًا فيما يتعلق بعلاقاتها بالأنظمة العربية.ويرى منظرو الإخوان أن الجماعة السورية كانت موجودة حتى أواسط الثمانينيات عندما فرت قياداتها من سياسة الحديد والنار والبطش المخابراتي التي انتهجها معها النظام، والتي وصلت لحد التصفيات الجسدية الفردية والجماعية داخل المعتقلات، أما فلول هذه الجماعة الباقية في سوريا الآن فهم متهمون بأنهم مجرد "نمر من ورق"، يستخدمهم النظام كفزاعة يلعب بها وفق مصالحه أمام الغرب.أما فى الأردن، فقد تأسست جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٤٥ على قاعدة جماهيرية ممتدة بسبب جهادها في قضايا التحرر فى فلسطين والعالم العربى، وبمبادرة من عبداللطيف أبوقورة، الذى اتصل بالبنا، ثم انضم إخوان فلسطين إلى الأردن لتشكيل جماعة واحدة اهتمت بـمخيمات اللاجئين وإنشاء المدارس، وتابعت الجماعة أنشطتها الاجتماعية ثم السياسية حتى شارك أعضاؤها فى الانتخابات النيابية عام ١٩٦٣ وحصلوا على مقعدين رغم أن هذه الفترة شهدت انحساراً فى التيار الإسلامي، مقابل المد اليساري والقومي، قبل أن تنعكس الأمور بعد هزيمة عام ١٩٦٧ حيث شارك إخوان الأردن في العمل الفدائي ضد إسرائيل من خلال حركة فتح.بعد ذلك اتسعت مشاركة الجماعة السياسية والعامة فكانت الأكثر حضوراً ونجاحاً بين القوى السياسية المختلفة، فيما وصف بأنه تحالف تاريخي بين النظام من جهة والإخوان ممثلة فى ذراعها السياسية "جبهة العمل الإسلامى" استمر طوال ٦ عقود إذ حصلت فى المجلس النيابي الـ ١١ على ٢٢ مقعداً بالإضافة إلى رئاسة المجلس لـ ٣ دورات متتالية، كما شاركت بـ ٥ وزراء فى عام ١٩٩١، الأمر الذي دعا الحكومة لإصدار قانون انتخابي جديد بهدف محاصرة الحركة الإسلامية وتقليل فرص فوزها، عندما بدأت المصلحة المشتركة تنتفي بين الجانبين في ظل المتغيرات الإقليمية في المنطقة والعالم، خصوصًا بعد توقيع اتفاق وادى عربة ١٩٩٤ الذي رفضه الإخوان بشدة.كانت علاقة إخوان الأردن الودية بالنظام حتى وقت قريب استثنائية بين الأنظمة العربية الأخرى التي عادة ما تتسم علاقتها بالجماعة الإسلامية بالتناحر والرغبة في الإقصاء، كما حدث مع جماعة الإخوان في الكويت التي لف الغموض تاريخها منذ عام ١٩٣٦، بسبب حظر قيام الأحزاب ككل، وهو ما جعلها تعمل سرا.وكما أثر الغزو العراقي على الكثير من مناحي الحياة في المنطقة، كان من نتائج هذه الخطوة إعلان إخوان الكويت رسميا تشكيل ذراعهم السياسية تحت اسم "الحركة الدستورية الإسلامية".أما في العراق، فقد فرضت ظروف الاحتلال الأمريكي الذى ترزح تحته البلاد وضعًا جديدًا على "إخوانه" الذين يقاوم بعضهم الآن تحت غطاء شعبى وبمباركة الكوادر، بينما يجلس نصفه الآخر فى المجلس المعين من قبل الأمريكيين.وردا على تداعيات الثورة الشيعية في إيران ومحاولات تصديرها، ظهر تيار فكري في فترة الثمانينيات فى السعودية سعى إلى التوفيق بين عقيدة الفكر الوهابى وسياسة الإخوان المسلمين المصريين، الذين لاذوا إليها في العهد الناصري، وهي المعادلة التي وصفها المراقبون بالمستحيلة، حيث حاول أصحاب هذا التيار الذي أطلق عليه تيار الصحوة للجمع بين الشكل السلفي للتدين والديناميكية السياسية والاجتماعية للإخوان.ومرة أخرى من خلال أعضاء مصريين بالجماعة، كانت هناك محاولات مبكرة لمد فرع جنوبي للإخوان فى السودان عبر إرسال وفود بدأت عام ١٩٤٥، وكانت هناك قنوات أخرى عن طريق الطلاب والمهاجرين السودانيين في مصر، بل كان من المفترض أن تكون ذراع الحركة الإسلامية في جارة مصر الجنوبية هي الأولى خارجها، لكن مؤرخي الحركة يرون أن كثرة القنوات ساهمت في تأخر تبلور عمل الإخوان في السودان نتيجة ظهور تشكيلات عدة تدعي الانتماء للجماعة.وظلت الحركة فى ركود نسبي حتى لمع نجم حسن الترابي في انتفاضة ١٩٦٤ التي أطاحت بالحكم العسكري، الأمر الذي رشحه لقيادة الحركة تحت مسمى "جبهة الميثاق الإسلامي"، ثم توالت الأحداث والانقلابات في الخرطوم فصعدت معها الحركة تارة وهبطت تارة، حتى نجحت حركة الإخوان المسلمين السودانية في تدبير انقلاب يونيو ١٩٨٩ الذي استولت بعده على السلطة لتصبح بذلك أول حركة إسلامية معاصرة تتولى السلطة في العالم، وهو ما لفت إليها بطبيعة الحال أنظار واشنطن التي كشرت عن أنيابها ووضعت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، فى غضبة ترشح السودان من حين لآخر لضربة انتقامية محتملة تستهدف إسلامييها وإسلاميي المنطقة العربية بأكملها.* الصحافية أميرة عبد الرحمن* نقلا عن صحيفة "المصري اليوم" المصرية