26/02/2009

لماذا لم تمت غزة؟!؟!

تأثرت ربما في طريقة تفكيري بنظرية السؤال المقلوب، فقد كرر صديقي هذا الأسلوب أكثر من مرة أمامي، فكان عندما يسأل أحدهم مثلا: لماذا الاختلاف؟ نراه يقلب السؤال: ولماذا نتفق؟..

ربما كان السؤال غريبا وعجيبا لبرهة من الوقت، ولكنه جيد لأنك تعرف لماذا تتفق، وما هو الهدف المرجو من وراء الاتفاق، وذلك حتى لا يصير الاتفاق مداهنة ومواربة..

ولهذا وبعد محاضرة طويلة حول أسباب فشل إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة، قلبت السؤال بدوري، لماذا نقول لماذا فشلت إسرائيل في وأد المقاومة؟، دعونا نقلب السؤال: لماذا لم تمت المقاومة؟

إن السؤال الأول ينسب الفعل إلى إسرائيل أولا، فهي التي فشلت في إنهاء المقاومة، ولكني لم أرد التفكير على هذا النحو، فالمقاومة ليست جمادا يتلقى الفعل فقط، بينما الفعل والفشل أو النجاح يعود للعدو.

فالمقاومة هي التي نجحت في البقاء، وهي التي صمدت ولم تمت، ولهذا يجب أن يكون السؤال هو: لماذا لم تمت غزة؟ ولماذا ظلت مقاومتها حية؟

ترى يا زواري الكرم.. لماذا؟؟

27/12/2008

ليسقط صاحب الضربة الجوية "الثانية"


غزة تدكها طائرات الاحتلال.. الشهداء يتناثرون في الطرقات وأمام المقرات الأمنية.

آآآه يا غزة، يا غزة الصمود في زمن المذلة، تدفعين ثمن العمالة والخيانة والتواطؤ.. بالأمس، احتسى القاصفون والقاتلون الشاي مع زعماء العرب، وهددوكم من على منابرهم، واليوم.. كما لو كانت الأوامر صدرت من أفواه زعماء العرب، تقصفون وتقتلون.


يبدو أن تلميحات الكثيرين بأن صاحب الضربة الأولى هو نفسه صاحب الضربة الجوية الثانية ستجد صدى أوسع، وستحمل تعليقات ألذع، وستواصل سمعتنا انحدارها ما لم نوقف العبث.

لا تبالي كثيرا يا غزة.. سواء أصدر هؤلاء الزعماء أوامر قتلك، أو علموا بها وتآمروا عليك، أو حتى لم يعلموا وفوجئوا وأحرجوا كما يقولون، فقد أصدروا أوامر قتلك جوعا منذ زمن طويل.

دم أبنائك في رقابهم يا غزة، وفي رقبة كل متخاذل وخائن.

لا تسامحيهم يا غزة.. لا تغفري.. فهؤلاء يزيدهم الحلم غرورا.

17/12/2008

عبد العزيز المجاهد!!


وهكذا صار مجددا خلف القضبان... عبد العزيز مجاهد، لعله اسم يجسد معاناة طالب يحمل فكرا متوقدا وهمة عالية ولكنه يعيش في مصر.


عبد العزيز مجاهد، هو ابن جامعة حلوان وأمين اتحادها الحر لعام 2005/2006، وهو الطالب الإخواني الودود المتميز في نشاطه الطلابي وأدائه الدعوي.

ليس عبد العزيز مجاهد إرهابيا، وليس عضوا في خلية مسلحة تابعة لحماس كما يدعي النظام، ولكنه طالب مصري مسلم يحيا بإسلامه ولإسلامه.. يتكلم بتواضع جم وأدب شديد، ويناقش بحجة واضحة وكلمات صريحة قاطعة.. يتسلل للقلوب سريعا وبخفة، ويمتلكها بهدوء.. تماما كما يفعل كل مرة، ودون أن يشعر أحد، ربما حتى هو نفسه!.

ليس عبد العزيز مجاهد ملاكا أو طفرة دون بقية طلاب مصر، ولكنه من الفئة التي نعتز بها ونفخر بها، ولكن للنظام الأمني الغشوم رأيًّا آخر.

لم أقابل عبد العزيز مجاهد إلا مرة أو مرتين، ولم أتحدث معه على النت أو الهاتف كثير، بل ربما لا يذكرني أو يعرفني عبد العزيز مجاهد، ولكني أعرفه مجاهدا بأخلاقه وأدبه وإبداعاته وعقليته الناضجة.

عبد العزيز مجاهد تم اتهامه في قضية الدكتور جمال عبد السلام مدير لجنة الإغاثة والطوارئ والمدير العام لاتحاد الأطباء العرب، وكانت التهمة التي وجهت لهما مع آخرين هي الانضمام إلى جماعة محظورة وتكوين بؤرة جهادية تابعة لحركة حماس!!.

ربما إذا رأيتم عبد العزيز مجاهد يوما ما فستضحكون من هزلية هذه الاتهامات، فنظرة عابرة على البنية الضعيفة لجسده وقامته القصيرة ستكذب هذه الاتهامات من أساسها، فلماذا تلجأ حماس إلى أخي الكريم عبد العزيز ذي البنية الضعيفة إذا أرادت تجنيد شباب داخل مصر، وعندها من أبناء الإخوان الأشداء ما يسد عين الشمس؟

ولكن عبد العزيز بجسده القصير وعقله الكبير كان صداعا مزمنا للنظام الغشوم، حتى إنه تخبط حتى في تلفيق الاتهامات له، أراد التخلص منه بأي وسيلة فألحقه بقضية الدكتور جمال عبد السلام.

ربما رأوه بسبب عقله عملاقا.. أكبر من جيوش أمنهم المركزي، متسلحا بعلمه وفهمه أكثر من عتاد تشكيلاتهم الخاصة.. فلم يصدقوا إلا أنه حمساوي مجاهد.. وصدقوا.. ولكن ليس بذراعه وببنيته ولكن بنظرته وعقليته أيها الأغبياء.

المجاهد عبد العزيز، ليس الرنتيسي هذه المرة أو ليس رنتيسي فلسطين، ولكنه رنتيسي جامعة حلوان إن صح التعبير، يمسك قلمه فيكتب كصحفي موهوب، ويقرأ للصحفيين فيلمح ما بين السطور ويحلل ما وراء الكلمات بذكاء فطري لطيف.


عندما فتح معبر رفح لم يستطع الانتظار، فعانق تراب فلسطين الطاهر، وصافح المجاهدون الأبرار، فكان ذلك سبب اتهامه، وقالوا له أنت منهم، فربما ابتسم حينها وقال بلسان حاله (هذا شرف لا أدعيه).. هو حمساوي الروح وليس الذراع، مجاهد الفكر لا السلاح، ولكنه سئموا روحه المتوقدة وهمته العالية فلفقوها على عجالة ودبروها بليل وألصقوها به ظلما وعدوانا.



معذرة يا عبد العزيز.. يا أخي الكريم، ولكنهم سفهاء، لا يفهمون عقلك الكبير، وأغبياء لا يشعرون بقلبك الكبير، وعاجزون لا يقدرون جهدك النبيل.

صبرا يا أخي الحبيب -وما مثلك يصبَّر- فإن الله جاعل لهذه الأزمة فرجا، كما جعل لسابقاتها، وتخرج منها بإذن الله أقوى عزما وأرجح عقلا وأوضح بصيرة.



عذرا أخي الفاضل، للإعلام الجاهل الذي اختزلك في رقم داخل القضية، ولكن حسبك أجر الخالق تبتغيه، لا عرفان المخلوقين.

ويا إخواني الكرام يا من قرأتم هذه السطور.. ادعوا معي للمجاهد "عبد العزيز مجاهد".

16/12/2008

غزة..ويستمر الصمود.. وتستمر الملحمة





"غزة بلا شموع"!! هكذا جاءتنا الرسالة ونحن صائمون يوم وقفة عرفات، تنحدر دمعتان وتتمتم الشفتان بالدعاء.

ولا تزال ملحمة الصمود مستمرة يا غزة.

ربما ونحن ندعو لغزة لم نكن ننتظر منها ومن أهلها ومن مرابطيها أن يخرجوا علينا بحماسة ملتهبة، وأن يعاودوا تأكيد نهجهم المقاوم، وأن يشدوا من أزر المقاومين الذين يجوعون بسبب اختيارهم لهم.

ربما كان غاية ما نتمناه هو أن تواصل غزة الصمود، الصمود في صمت، ولأطول فترة ممكنة.

لكن غزة فعلتها مجددا، حطمت كل توقعاتنا ووقفت شامخة عالية، أعلنت التحدي وجددت شد أزر المرابطين، خرج الآلاف من سكان غزة في ذكرى انطلاقة حركة حماس الـ21، وخرج علينا رئيس الوزراء الشرعي المقاوم إسماعيل هنية ليذهلنا ولتذهلنا غزة بصمودها.

غزة التي تعجب بعض أصدقائنا الأوروبيين من بقائها بلا حوادث شغب أو نهب جماعي رغم الحصار والتجويع، وقال إن الأمر لو حدث في مجتمع من دول العالم الأول لانطلقت أعمال النهب والتكسير والسرقة والفوضى.. تخرج غزة برغم كل هذا لتضرب أعلى المثل في التحضر والصمود.

تخرج مشتعلة الحماسة كما لو كانت في بداية طريق المقاومة، لا الأحداث وهنت عزمها، ولا التجويع ثبطها، ولا تخاذل الخونة ضرها...



عجيبة أنت يا غزة!!.

تعيشين في الظلام ولكنك تنيرين لشعوب الحضارة طريقها في التحلي بمكارم الأخلاق والصمود.. محاصرة ولكنك صرت رمز الحرية رغم أنف الأقوياء... صغيرة ولكنك ملأت الدنيا وملأت الأسماع والأبصار بأعاجيب أهلك وقومك.

أطفالك رجال يا غزة.. أنظر في عيونهم فأستمد منها الأمل، أرى الابتسامات على وجوههم رغم الجوع والظلام، أولئك المرابطون في وجه القوى الغاشمة الظالمة، ومن خلفهم أنظمة خذلتهم وشوهت صورتهم ولم تحم ظهرهم.. ورغم ذلك هم باسمون.



كلما ضاقت حلقات المحنة عليهم، كلما أبدعوا وضربوا لنا مثلا جديدا يذهلنا ويذهل العالم معنا، ولذا صرت كلما اشتدت الأزمة وزاد الخوف عليهم.. استبشرت بهم ولهم خيرا.

أنام.. فأحلم بغزة، أتذكر أصوات أصدقائي من هناك الذين لم أرهم، وتلوح صور من رأيت صورهم، أتخيل أن تراب غزة يفوح برائحة كرائحة العنبر أو الياسمين، كلما سمعت خبرا عنها.. انتظرت ما يصل من داخلها لتقر عيني ويطمئن قلبي.

أضع يدي على قلبي لغزة وأهلها، ولا أدري.. هل ينبض قلبي خوفا.. أم استبشارا..

يا غزة.. ليكن الله معك.




02/12/2008

"غزة".. عندما يكون السكوت من "قهر"

"غزة".. عندما يكون السكوت من "قهر"
قديما قالوا: "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب".. ولست أدري كيف انطلق أصحاب الأمثال ورواتها يتحدثون ويهيمون في فضيلة السكوت على جميع أوضاعها، فإذا كان الكلام أحيانا (وأحيانا بمعنى الندرة) فإن السكوت حينها يكون من ذهب، فالسكوت أفضل من الكلام على أي حال.

وضاربوا الأمثال ورواتها لم يذكروا ولم يرووا لنا مثلا يبين فضيلة الكلام، ولم يحضوا عليه على أي حال وفي أي وقت، فكأن الثقافة العامة والهدف هو السكوت.. ثم السكوت.. ثم السكوت.

هذه الأمثال تعبر عن واقع فعلي موجود، فالكل أصبح يفضل الصمت، وقد يتكلم.. ولكنه يتكلم خلسة وخفية كأنما يتوارى أو يستر عورة الكلام، سواء كان هذا الكلام بحق أو بدون حق، لدفع ظلم أو إبراء ذمة أو لا، فكل الكلام سواء، ولا تتكلم إلا إذا كنت "مسنودا" أو لك "ظهر" يحميك ويقيك سياط الظالمين، وهذا الظهر لن يكون بالطبع إلا من الظالمين أنفسهم.

فضيلة الكلام


ولست أدري كيف تسلل هذا الكم من المذلة والمهانة إلى مجتمعاتنا وثقافتنا، وكيف تناسى المجتمع فضيلة الكلام، على الرغم من أن ديننا –الذي هو مكون أساسي في ثقافتنا- حض قول الحق، ولم يجعل السكوت أفضل من الكلام إلا إذا كان الكلام بشر، فالله خلق لنا اللسان لننطق ونتكلم فيما يرضيه، بل جعل الله عدم النطق والكلام مذمة وعلامة بارزة على ضعة الأصنام وعدم أهليتها للعبادة فقال تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم: "قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ". فكفى بالأصنام ضعة ودنوا عدم كلامها وألا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا.. فكيف تعبد وتتخذ أربابا؟ وقد شعر قوم سيدنا إبراهيم بهذا الخزي فنكسوا على رءوسهم: " ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ".

وكفى كذلك بالنطق فضلا أن جعل الله الحقيقة التي يقسم بذاته عليها مثل النطق، فقال تعالى: "فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ".. ولكننا لم نعد ننطق!!.

لقد أعلى رسول الله من شأن الكلمة حتى جعلها أحب الجهاد: "أحب الجهاد إلى الله كلمة حق تقال لإمام جائر".. ولكننا أخرسنا ألسنتنا، وحتى إذا قال أحد لأخيه شيئا أشار له بأصبعه على فمه.. يعني أن اكتم ذلك عني.

ثقافة الخَرَس


إننا نعاني من ثقافة الخرس التي تجتاح مجتمعنا، وحضارة الخُرس لا تعلو أبدا، فحتى عندما يتكلمون يكون كلامهم مما لا يستتبع عملا ولا يستنهض همما، فهو وعدمه سواء، لا فرق بينهما، وتضيق مساحة الكلام المسموح، وتخط للمباح حدود لا يتخطاها وتفشو مساحات الخرس.

وكلما زادت مساحات الخرس وطغت على مساحات الكلام المفيد.. تواضعت حضارة تلك الأمة، وزادت مساحات الكلام غير المفيد، أو الكلام الأخرس! ورأينا الهمة والنخوة تهورا، والنجدة ولو بالكلمة فعلا أهوج.

الصمت قهرا


ثقافة الخرس تتجلى أكثر ما تتجلى إزاء الصمت المطبق على ما يجري من حصار غزة، فهذا هو الطغيان الذي لا يختلف عليه اثنان.. ولكن لا كلمة ترده، ولا فعل يمنعه، إنه الخرس وثقافة السكوت التي يتجرعها مجتمعنا ويرددها ويعلمها أبناءه جيلا بعد جيل.. فصارت تدرَّس للناشئة بعدما كان العرب يعلمونهم معاني النجدة والمروءة وإجابة الصريخ.

الآن يصير السكوت من قهر وليس من ذهب، سكوت تحت وطأة لقمة العيش وكسل الهمة وعجز القدرة، سكوت القهر المادي والمعنوي، فلا نسمع المساجد تضج بالدعاء كعادتها لشعب مسلم يموت جوعا، ولا الخطباء يتكلمون عن مليون مسلم يبيت كل منهم يتلوى من شدة الجوع..

كل كاتب يكسر قلمه عن ما يحدث في غزة يكسره قهرا.. وكل خطيب يسكت صوته عن ما يحدث في غزة يسكته قهرا.. ويأخذ القهر في كل حالة شكله وأسلوبه، فهنا تحت تعليمات الوزارة تارة، أو تحت المحافظة على لقمة العيش تارة أخرى، أو ربما لأن القراء سيكرهون وخز ضمائرهم تارة ثالثة، أو قد يكون الكاتب ذاته كره أن يوقظ ضمير نفسه رابعة، وفي كل الأحوال تجلت في غزة السكوت قهرا.. فعند الحديث عن غزة لا يكون السكوت من ذهب، ولكنه من قهر.

29/11/2008

تحيا جمهورية الأهلي!

تحيا جمهورية الأهلي!



تابعت باهتمام -كما تابع كثير من المصريين- أحداث مباراة الأهلي، كما تابعت عقبها الفرحة العارمة التي عمت مشجعي النادي ومحبيه ومناصريه، ودوت أصوات الألعاب النارية وأبواق السيارات التي تخرج منها الأعلام الحمراء تعبيرا عن الفرحة والبهجة بفوز النادي الأهلي المصري بالبطولة الإفريقية الأخيرة، ورأيت جموع وجحافل الجماهير التي سهرت طوال الليل تزحف نحو المطار لاستقبال بعثة النادي عند عودتها.

حتى أنني تناهى إلى مسامعي إنشاد بعض الصغار: "يا نادي الأهلي يا أجمل نادي.. لك حبي وفؤادي".. على نفس نغمة النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي"، ورأيت الفرحة تتراقص في عيونهم -هم والكبار على السواء- عقب انتصار الفريق.


الكرة أكثر عدالة




وإذا كان الفرح بفوز النادي الأهلي حقًا لكل مشجعيه، أو كان ذلك حقًا لكل مصري، فإن ما ليس حقًا هو استبدال النادي الأهلي بالوطن والدولة، والانتماء إليه بدلا من الانتماء لمصر، ولكن يبدو أن قطاعا من بين شباب وطني قرروا دهس انتماءاتهم، وقرروا أن يستبدلوا بها انتماءات تكون فيها المنافسة أكثر عدالة وتستوي بها كفتا الميزان.

يبدو أن الانتساب إلى الكرة صار أكثر فخرا، والاهتمام بها أكثر مصداقية، والفوز أو الهزيمة فيها ممكنان، ففي كرة القدم يوجد حكم قلما يظلم، أما في حياتنا فقد عزف الناس عن الاهتمام بشتى المجالات التي نهشها الظلم وتفشى فيها الفساد والاستبداد، وهجر باقي الأنشطة التي ظلت النتيجة فيها محسومة سلفا.

يبدو أن الناس - ولو عن دون وعي - هاجرت إلى عالم تبحث فيه عن العدالة المفقودة والمنافسة الشريفة، وليس عن السلطة المطلقة وتوحد الخصومة والحكم في يد شخص واحد، ويبدو أن فرارهم إلى عوالم أخرى قد أضعف انتماءهم لعالم الواقع وآمالهم فيه.

يبدو أن الانتماء لفرق كرة القدم وأنديتها والاهتمام والمتابعة والفرحة أو الحزن والتضحية والبذل من أجلها صار اليوم أكثر حدة وأكثر بروزا من الانتماءات الوطنية والقومية، فالشاب اليوم مستعد للسفر إلى الكاميرون أو السهر حتى الصباح أمام المطار لدعم ناديه، ولكنه غير مستعد لأن يضحي برغبته ويترك المقعد في وسائل النقل نظيفا إذا ما عنَّ بباله كتابة اسمه عليه، ويبدو أنه سيكون مستعدا للمخاطرة بسلامته وحياته إذا احترق هذا النادي، ولكنه لن يكون كذلك عند احتراق مباني الدولة.


الأهلي وكيل الشباب



أيها السادة.. إن شبابنا يعلنها صراحة -بوعي أو دون وعي-: "لتحيا جمهورية الأهلي".. وهذا الشباب ليس مخنثا، وليس متخاذلا، فهو لديه مبرراته ودوافعه، سواء علمها وشعر بها أم لا، فالنادي الأهلي لم يظلمه، ولم يجلده في أقسام الشرطة، ولم يحشره في طوابير العيش ساعات كل صباح، ولم يكن مسئولا عن البطالة، ولم يشحنه في وسائل النقل العام.. باختصار.. النادي الأهلي أجمل شيء في حياته.

إننا أمام جيل يرى جلَّ انتصاراته في عالم كرة القدم، ويرى النادي الأهلي رمزه وبطله وفارسه، لقد صار انتماؤه إلى النادي الأهلي واهتمامه به أفضل مذاقا من تعليق الآمال على الأنظمة الفاسدة والمستبدة؛ فهو رمزه ووكيله الذي يخوض بدلا عنه معركة متكافئة ويفوز فيها، أما هو فلا يمكنه أن يخوض هذه المعركة، ولا يعتزم خوضها؛ لأن "الكوسة والوسطة والمحسوبية" حسمتها سلفا.

إنه شباب لم ير تقدما وعزا ولا فرحة إلا في كرة بين فريقين، ولكن المنافسة في هذا المجال عادلة، والانتصار ممكن، والظلم والفساد قليل.. فكيف نلومه؟ إنه يعارض معارضة سلبية عبر فرحته العارمة وتعمد إظهارها بهذا الشكل، وكأنه يصرخ بوجه أنظمته: "هكذا يكون النجاح".. وربما تلحظ هذا بين كلماتهم ونكاتهم التي تعبر عن ذلك؛ مثل قولهم على أحد المقاهي قبل المباراة على سبيل القفشات: "الأهلي هيفوز وهيشكل الحكومة".. "حسن حمدي رئيس الوزارة القادمة!!".

كيف نلومه عندما يخرج سعيدا مبتهجا بناديه أو (فارسه) بينما تثور بداخله مشاعر الشماتة في احتراق المجلس الذي أقر القوانين سيئة السمعة وحمى الفاسدين وتستر على المستبدين.



وطن الكبار


كيف نستغرب أوضاع التحرش من شباب تجاه مجتمعه، في حين أنه يعاني بطالة وفقرا وعوزا لم ينقذه منه مجتمعه ولم يشبع رغباته بالطرق المشروعة، إننا أمام ثورة الفردانية في التعامل مع المجتمع والدولة، وكلٌّ تصرخ نفسه بداخل: "أنا وليكن الطوفان من بعدي".

أنا لا أبرر لهؤلاء الشباب أفعالهم، ولكنني أجد أنه من الظلم المجحف تحميلهم المسئولية الكاملة وغض الطرف عن أسبابها ودوافعها.. أنا لا أقول إنهم على صواب، ولكن بأي حق أصرخ في وجوههم بأنهم مخطئون؟ ربما هم جناة، ولكن الفساد والاستبداد والقهر والغلاء صنع جريمتهم.

يبدو أننا بحاجة للتعلم من النادي الأهلي إذا ما أردنا استعادة احترامنا وانتماء هؤلاء الشباب وتصحيح الصورة، فعلينا أن نكفل الفرص المتساوية والمتكافئة، وأن نرفع يد الظلم والبطش عنه، وأن يرى حياته التي يستحقها والتي تستحقه.

ربما حينها سيشعر مجددا بحبه الجارف وحنينه لوطنه، ولن يصير حلمه الأول هو الهرب خارجه ولو في مركب صغيرة تتقاذفها الأمواج، حينما يشعر أنه يعيش في وطنه وبلده وليس بلد الكبار فسنجده يهب لإنقاذ ما يحترق من الأموال العامة ويحافظ عليها، وحينما يشعر أن صوته ذو قيمة ويصل.. عندها فقط.. لن يشمت في احتراق مجلس نوابه.

27/10/2008

روح أكتوبر التي اختنقت

لم يهتف الصغار "تحيا مصر"، ولم يهنئ الكبار أنفسهم بانتصارات أكتوبر، ولم تتابع النساء أفلام أكتوبر كعادتها أمام التلفاز.. لم يتجمع أطفال العائلة حول التلفاز لمشاهدة عرض القوات المسلحة ولم يصفقوا وهم يرون الطائرات تمرق في السماء ككل عام.. حتى التبة المواجهة لبيتنا.. لم يتسلقها الصبيان ليرفعوا العلم في مشهد تمثيلي لعبور القناة ورفع العلم على خط بارليف.



ركبت المواصلات طوال شهر أكتوبر دون أسمع حديثا هنا أو هناك عن بطولات حرب أكتوبر كما جرت عادة المصريين، فقد حل مكانها الحديث عن الأزمة المالية العالمية والمنتظر منها على الأسعار.

أين ذهب الفخر بأكتوبر في مجتمعنا؟ وجوم عجيب وصمت مطبق علا وجوه المصريين وملك أفواههم، ماذا جرى لأهلي؟ ألم يحبوا الفرح ويتحينوا المناسبات والفرص لإظهاره واستعراض الكرامة والفخر والسعادة؟ لماذا لم أر بريق العزة والكرامة يلمع في عيون المصريين ككل عام في هذه الذكرى؟


روح أكتوبر احترقت!!


يبدو أن تساؤلاتي وجدت صدى، أو ربما وجدت تساؤلات أخرى مشابهة، حتى الصحف القومية.. اتفق كتابها مع كتاب الصحف المعارضة في أن هناك مشكلة ما، وإن اختلفت التعليلات والتأويلات.

والمتابع يلحظ انخفاضا متواليا في روح الانتماء عبر عدة مواقف أخيرة أظهرت تراجع هذه الروح، ودعنا لا نتشاءم ونقول "تلاشيها".. يظهر ذلك في احتراق مجلس الشورى وما تبعه من حرائق، والروح الانتقامية لدى البعض تجاه المال العام فيتوجهون نحوه بالنهب أو التخريب وغيره من حوادث تحرش جماعي في شوارع القاهرة.

يبدو أن روح أكتوبر قد اختنقت مع كل شعور بالفخر والكرامة يختنق كل يوم في نفوس المواطنين الواقفين في "طوابير العيش" (الخبز) أو المشحونين في "أوتوبيسات النقل العام" دون مراعاة لآدميتهم.

يبدون أن هذه الروح وهذه السعادة -المرتبطة وجودا وعدما بالكرامة والانتماء- قد احترقت تماما كما احترقت ظهور المصريين تحت السياط ظالمة في أقسام الشرطة التي يفترض أنها تحميهم، وتلاشت تحت وطأة البحث عن لقمة العيش، وتبخرت تماما كوعود المسئولين للمصريين.

لا أدري لماذا نتساءل عن روح انتصار أكتوبر والناس تتطلع لعبور جديد ونصر جديد؟ يبدو أنهم الآن يحيون نكسة لقمة العيش والأخلاق والاستبداد والفساد، وينتظرون أن يعبروا قناة الفقر وأن يقهروا عدوهم (الفساد، التدني الأخلاقي) وأن يرفعوا علم العدالة الاجتماعية والتقدم والمساواة والمساءلة القانونية والدولة القانونية لا الأمنية.

إن شعور المذلة والخوف على لقمة العيش وافتقاد الأمان قد قتل روح أكتوبر، وولد شعورا بالفردانية، فالكل يبحث عن نفسه وملذاته.. وليكن من بعده الطوفان، الكل يأسف.. ولا يجد مفتاحا للحل، يئن.. ولكنه لا يرى خلاصا عاجلا أو فرجا قريبا.

إن روح أكتوبر ستعود وسيحتفل بها المصريون بسعادة غامرة إذا ما عالجت الحياة الكريمة قلوبهم، ويحيونها واقعا في مجتمعاتهم التي تنصفهم وتعطيهم حقوقهم وتضمنها لهم، حينما يشعر بآدميته وأنه يستحق وطنه وأن وطنه يستحقه.

حينها فقط سيحزن المصريون إذا تلفت ممتلكات الدولة ومنشآتها، وسيسعدون بذكرياتهم الوطنية، وسيكدحون من أجل مجتمعهم، مجتمعهم هم.. لا مجتمع الكبار. (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)