شارع مراد.. ومُرادنا ومرادهم!
يتميز الشارع بالهدوء نظراً لاتساعه النسبي كما قلت.. وإن كان يشهد انسداداً في اتجاه القادمين من الجيزة متدفقين إلى وسط البلد، حيث يقابلون "ميدان النهضة".. الذي يحظى بدوره بوجود العمارة المعروفة باحتضان سفارة إسرائيل في طابقها العلوي..
الانسداد أشبه ما يكون بذلك الذي تقابله قوافل المعونات المتجهة عبر دول وبحار وسماوات العالم إلى غزة، فالإشارة المعروفة في ميدان النهضة قبالة البوابة الرئيسية لحديقة الحيوان ليست لها أي قواعد منظمة.. فهي أحيانا تغلق لعشرات الدقائق، ثم تفتح لثوانٍ معدودة لتغلق مرة أخرى في وجه القادمين من الجيزة المكتظة بزحامها.. وعشوائياتها.
أما حين يكون السفير الإسرائيلي على موعد للخروج أو الدخول من صومعته، فإن الشارع يصاب بالشلل تماماً..
يذكرك ذلك - بدون قصد في إساءة النية - بمعبر رفح، الذي لا يعرف أحد متى يفتح أو متى يغلق، ولماذا ومن يتحكم فيه.. تستطيع إذن أن تصم آذان "العسكري" بأبواق سيارتك.. وأن تشد شعر رأسك داخل عربتك، أو تنزل لتبتاع الجرائد من ذلك البائع المعروف الذي يفترش الرصيف أمام حديقة الحيوان لتزجي وقتك بقراءة أخبار تشابه أمسها مع غدها..
أما إذا كنت من سائقي "الميكروباص" المهرة، أو من معتادي الطريق، فإن لديك حلول أخرى بالتأكيد.. فببعض الـ "غرز" والحركات، يمكن أن تعبر أي شارع جانبي يميناً لكي تصل إلى الكورنيش، حيث الشارع الأشد هدوءًا لخلوه من الطبقات الدنيا من البشر مسببي الزحام والتلوث، ويمنحك الشارع حرية اختبار موتور سيارتك بالضغط على دواسة البنزين بقوة.. تمشي فيه مباشرة موازياً لشارع "مراد"، لكي تعبر أخر شارع يساراً لتجد نفسك في نهاية شارع "مراد" أخيراً..
حركات تذكرك - كذلك بدون قصد إساءة النية - بما تطالب به مصر قافلة "شريان الحياة" المتجهة لغزة عبر ميناء نويبع.. فمصر لا تريد أن تفتح "الإشارة" وعليك أيها الذكي أن تبحث عن طرق أخرى للوصول لمرادك.
يحب القدر أن يُحكم دعاباته.. فحين ترفع نظرك لأعلى تصدم ببعض كاميرات المراقبة المعلقة في الميدان كنوع من التأمين لسفارة إسرائيل، وهي تشبه تلك التي تصمم السلطة الفلسطينية على تركيبها وتشغيلها بواسطة خبراء أوروبيين في معبر رفح، لمراقبة الداخل والخارج بعيون "محايدة"!
وعلى سبيل المزيد من إحكام الدعابة.. فميدان "النهضة" الذي تتوقف عنده جحافل الفارين من زحام "الجيزة".. تتوقف عنده أيضاً مبررات السادة المسؤولين في مصر، "الاستقرار أساس النهضة، وتوتر العلاقات مع إسرائيل أو أمريكا قد يعيق النهضة في بلادنا، وآن لنا الآوان أن نلتفت إلى نهضة بلادنا الداخلية وتقدمها الاقتصادي".. إلى آخر ذلك من كلام.
في نهاية الشارع توجد القنصلية السعودية، والمبنى الجديد للسفارة السعودية بالقاهرة.. حيث تلتقي "السياستان" المصرية والسعودية، لتكوين "محور الاعتدال".. المسمى "شارل ديجول".. لم يعترف "محور الاعتدال" بقرارات مجلس الدولة، الذي يستلقي بكيانه الوديع في شارع "شارل ديجول" بجوار السفارة السعودية.. فالحكم القضائي الصادر منه بوقف تصدير الغاز المصري لإسرائيل تبولت الحكومة المصرية عليه، ولم يعنيها في شيء..
ربطت كل هذه "الجيو بوليتيكس" ببعضها بهذه الطريقة لأول مرة، اليوم فقط.. حينما كنت عائداً من عملي عن طريق شارع "مُراد" كالمعتاد، لأفاجئ أن هدوئه النسبي تحول إلى شعلة من الجحيم.. طابور من عربات الأمن المركزي المصفحة هو الأطول الذي أراه في حياتي "حوالي 30 سيارة"، بالإضافة لمئات من جنود وضباط الأمن المركزي يحيطون بسفارة فرنسا.. في كردون هو الأضخم بدوره.
وبالكاد استطعت أن أرى سبب كل ذلك.. علم فلسطيني استطاع أن يظهر خلف كل تلك المتاريس.. لأفهم أنها مظاهرة للتضامن مع غزة في ذكرى حرب الصهاينة.. فقد حجبت "جدران العساكر" أي ظهور للمتظاهرين.. استطعت التقاط بعض الصور بسرعة عن طريق الاختراع العبقري المسمى الموبايل.. وانطلقت بالسيارة!
حين استطلعت الأخبار وجدت أن المتظاهرين كانوا قد اتفقوا مع شركة باصات لنقلهم لمدينة العريش للانضمام لقافلة شريان الحياة، وحين ألغى الأمن المصري رحلتهم، تجمهروا أمام السفارة الفرنسية بشارع "مراد".. في وقت متأخر من مساء الأحد، وقطعوا الطريق في الشارع برهة من الزمن، حتى جاء السفير الفرنسي وجحافل الأمن المصري لـ "إيجاد صرفة لهؤلاء المخابيل!" .. فكلهم من النشطاء الأجانب ولا يستطيع الأمن المصري أن يعاملهم معاملة البهائم التي يعاملها للمتظاهرين المصريين "وإن كان يلجأ لذلك أحيانا إذا فشلت الوسائل الأخرى الأكثر تهذيباً".
كاستكمال للدعابة القدرية.. يوجد في مجموعة المباني الموجودة بين العمارة التي تستضيف سفارة إسرائيل، وبين السفارة السعودية، مبنى صحيفة الدستور المشاغبة.. وليكتب من شاء ما شاء له، لكن لن تفتح الإشارة!
-------------------------------------
** لرؤية أوضح للخريطة الجيوبوليتيكية للشارع اضغط هنا..
الأسود شارع مراد ، والأزرق شارل ديجول ، والأحمر ميدان النهضة ، والأصفر السفارة الإسرائيلية، والأخضر السعودية، والوردي صحيفة الدستور!