الاثنين، ديسمبر 28، 2009

شارع مراد.. ومُرادنا ومرادهم!

أحب شارع "مُراد" في محافظة الجيزة بالقاهرة، فهو شارع متسع وهادئ على خلاف معظم شوارع بلدنا.. مما جعله يشهد انسيابا نسبياً فيما عدا ساعات النهار الأولى من اليوم، وقد حالفه الحظ بأن تحاذيه من ناحية حديقة حيوان الجيزة، ومن الناحية الأخرى سفارات وعمارات تطل على النيل، ويقطنها بشر غير الذين نقابلهم، بالإضافة لـ "فيرست مول" المعروف..

يتميز الشارع بالهدوء نظراً لاتساعه النسبي كما قلت.. وإن كان يشهد انسداداً في اتجاه القادمين م
ن الجيزة متدفقين إلى وسط البلد، حيث يقابلون "ميدان النهضة".. الذي يحظى بدوره بوجود العمارة المعروفة باحتضان سفارة إسرائيل في طابقها العلوي..

الانسداد أشبه ما يكون بذلك الذي تقابله قوافل المعونات المتجهة عبر دول وبحار وسماوات العالم إلى غزة، فالإشارة المعروفة في ميدان النهضة قبالة البوابة الرئيسية لحديقة الحيوان ليست لها أي قواعد منظمة.. فهي أحيانا تغلق لعشرات الدقائق، ثم تفتح لثوانٍ معدودة لتغلق مرة أخرى في وجه القادمين من الجيزة المكتظة بزحامها.. وعشوائياتها.

أما حين يكون السفير الإسرائيلي على موعد للخروج أو الدخول من صومعته، فإن الشارع يصاب بالشلل تماماً..


يذكرك ذلك - بدون قصد في إساءة النية - بمعبر رفح، الذي لا يعرف أحد متى يفتح أو متى يغلق، ولماذا ومن يتحكم فيه.. تستطيع إذن أن تصم آذان "العسكري" بأبواق سيارتك.. وأن تشد شعر رأسك داخل عربتك، أو تنزل لتبتاع الجرائد من ذلك البائع المعروف الذي يفترش الرصيف أمام حديقة الحيوان لتزجي وقتك بقراءة أخبار تشابه أمسها مع غدها.
.

أما إذا كنت من سائقي "الميكروباص" المهرة، أو من معتادي الطريق، فإن لديك حلول أخرى بالتأكيد.. فببعض الـ "غرز" والحركات، يمكن أن تعبر أي شارع جانبي يميناً لكي تصل إلى الكورنيش، حيث الشارع الأشد هدوءًا لخلوه من الطبقات الدنيا من البشر مسببي الزحام والتلوث، ويمنحك الشارع حرية اختبار موتور سيارتك بالضغط على دواسة البنزين بقوة.. تمشي فيه مباشرة موازياً لشارع "مراد"، لكي تعبر أخر شارع يساراً لتجد نفسك في نهاية شارع "مراد" أخيراً..

حركات تذكرك - كذلك بدون قصد إساءة النية - بما تطالب به مصر قافلة "شريان الحياة" المتجهة لغزة عبر ميناء نويبع.. فمصر لا تريد أن تفتح "الإشارة" وعليك أيها الذكي أن تبحث عن طرق أخرى للوصول لمرادك.

يحب القدر أن يُحكم دعاباته.. فحين ترفع نظرك لأعلى تص
دم ببعض كاميرات المراقبة المعلقة في الميدان كنوع من التأمين لسفارة إسرائيل، وهي تشبه تلك التي تصمم السلطة الفلسطينية على تركيبها وتشغيلها بواسطة خبراء أوروبيين في معبر رفح، لمراقبة الداخل والخارج بعيون "محايدة"!


وعلى سبيل المزيد من إحكام الدعابة.. فميدان "النهضة" الذي تتوقف عنده جحافل الفارين من زحام "الجيزة".. تتوقف عنده أيضاً مبررات السادة المسؤولين في مصر، "الاستقرار أساس النهضة، وتوتر العلاقات مع إسرائيل أو أمريكا قد يعيق النهضة في بلادنا، وآن لنا الآوان أن نلتفت إلى نهضة بلادنا الداخلية وتقدمها الاقتصادي".. إلى آخر ذلك من كلام.



في نهاية الشارع توجد القنصلية السعودية، والمبنى الجديد للسفارة السعودية بالقاهرة.. حيث تلتقي "السياستان" المصرية والسعودية، لتكوين "محور الاعتدال".. المسمى "شارل ديجول".. لم يعترف "محور الاعتدال" بقرارات مجلس الدولة، الذي يستلقي بكيانه الوديع في شارع "شارل ديجول" بجوار السفارة السعودية.. فالحكم القضائي الصادر منه بوقف تصدير الغاز المصري لإسرائيل تبولت الحكومة المصرية عليه، ولم يعنيها في شيء..

ربطت كل هذه "الجيو بوليتيكس" ببعضها بهذه الطريقة لأول مرة، اليوم فقط.. حينما كنت عائداً من عملي عن طريق شارع "مُراد" كالمعتاد، لأفاجئ أن هدوئه النسبي تحول إلى شعلة من الجحيم.. طابور من عربات الأمن المركزي المصفحة هو الأطول الذي أراه في حياتي "حوالي 30 سيارة"، بالإضافة لمئات من جنود وضباط الأمن المركزي يحيطون بسفارة فرنسا.. في كردون هو الأضخم بدوره.

وبالكاد استطعت أن أرى سبب كل ذلك.. علم فلسطيني استطاع أن يظهر خلف كل تلك المتاريس.. لأفهم أنها مظاهرة للتضامن مع غزة في ذكرى حرب الصهاينة.. فقد حجبت "جدران العساكر" أي ظهور للمتظاهرين.. استطعت التقاط بعض الصور بسرعة عن طريق الاختراع العبقري المسمى الموبايل.. وانطلقت بالسيارة!


حين استطلعت الأخبار وجدت أن المتظاهرين كانوا قد اتفقوا مع شركة باصات لنقلهم لمدينة العريش للانضمام لقافلة شريان الحياة، وحين ألغى الأمن المصري رحلتهم، تجمهروا أمام السفارة الفرنسية بشارع "مراد".. في وقت متأخر من مساء الأحد، وقطعوا الطريق في الشارع برهة من الزمن، حتى جاء السفير الفرنسي وجحافل الأمن المصري لـ "إيجاد صرفة لهؤلاء المخابيل!" .. فكلهم من النشطاء الأجانب ولا يستطيع الأمن المصري أن يعاملهم معاملة البهائم التي يعاملها للمتظاهرين المصريين "وإن كان يلجأ لذلك أحيانا إذا فشلت الوسائل الأخرى الأكثر تهذيباً".


كاستكمال للدعابة القدرية.. يوجد في مجموعة المباني الموجودة بين العمارة التي تستضيف سفارة إسرائيل، وبين السفارة السعودية، مبنى صحيفة الدستور المشاغبة.. وليكتب من شاء ما شاء له، لكن لن تفتح الإشارة!

-------------------------------------
** لرؤية أوضح للخريطة الجيوبوليتيكية للشارع اضغط هنا..
الأسود شارع مراد ، والأزرق شارل ديجول ، والأحمر ميدان النهضة ، والأصفر السفارة الإسرائيلية، والأخضر السعودية، والوردي صحيفة الدستور!

جدار هنا.. وجدار هناك!


الجدار الفولاذي العازل بين رفح المصرية والفلسطينية

جدار آخر في القاهرة من جنود الأمن المركزي يحيطون ببضع عشرات من الناشطين الأجانب أمام السفارة الفرنسية بالجيزة

ملاحظة:
** الصورة الأولى من تقرير للشبكة العربية لحقوق الإنسان ببريطانيا.

** الصورة الثانية التقطتها بالموبايل بسرعة أثناء قيادتي للسيارة، حين فوجئت بأطول طابول من عربات الأمن المركزي (حوالي 30 عربة مصفحة) وأطول كردون أمني أراه في حياتي ، وكان ذلك حول السفارة الفرنسية في شارع مراد بالجيزة. حيث استطاع النشطاء مساء الأحد أن يتظاهروا أمام السفارة وقطعوا المرور في شارع مراد في ساعة متأخرة من الليل في سابقة للنشطاء الأجانب في القاهرة.



الخميس، ديسمبر 24، 2009

The 3rd report on Internet freedom in the Arab world

The Arab network for human right information (Anhri) - a well known cairo based human rights organization - has finally released its 3rd report on Internet freedom in the Arab world.

I was so lucky to be part of the research team of this report and to cooperate with the Arab network.

The new report gives deep details on the status of the communication and internet sectors in 20 countries in the period from 2007 to 2009, with an increase of 2 countries (Somalia and Mauritania) from the 2nd one, and is supported by numbers and statistics derived from different sources offical and non-official.
It, of course, shows categorization of each country whether it uses selective, heavy or no filteration of the websites. It also reviews cases of violations of internet activists in each country.

(One social network with a rebellious message) was the title chosen for the report and although it's biased but it truely and deeply reflects what's happening online in the Arab countries.
The report also, and for the first time, dedicates a special chapter for the new internet tools known as (web 2.0) namely: Facebook, youtube, Twitter and Flickr showing how Arab internet activists managed successfully to use these tools defending their just causes.

You can get a copy in English or Arabic if you just knock the door of Anhri in 26th July street.
You can also read almost the whole report online on:
Arabic: شبكة اجتماعية واحدة ذات رسالة متمردة
English: One social network with a rebellious message

Here's also the release press statement
and you can read what others wrote about it here:

الجزيرة نت: الإنترنت آداة للمعارضة السياسية
القدس العربي: تقرير حقوقي: الحكومات العربية غير قادرة على مواجهة ثورة نشطاء الانترنت
اليوم السابع: اهتمام إسرائيلى بتقرير القاهرة عن عجز الحكومات العربية فى حجب الـ Face Book
(تقرير إذاعة صوت إسرائيل)
راديو هولاندا: تقرير: الإنترنت كرة ثلج ديمقراطية بالعالم العربي
روزاليوسف بطريقة (أنا جدع أنا كويس) : مصر أكثر الدول العربية استخدامًا للإنترنت
الجريدة الكويتية: العربية لحقوق الإنسان : العالم العربي هو الأسوأ عالمياً في الرقابة على الإنترنت حجب غير عقلاني للمواقع الإلكترونية في الكويت
الوسط البحرينية: «شبكة حقوق الإنسان»: الدمقرطة في البحرين تتحرك بالاتجاه المعاكس
شبكة محيط: تقرير حقوقي: حجب غير عقلاني للمواقع الإلكترونية بالكويت
إذاعة حريتنا: إصدار تقرير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان حول الانترنت
إخوان أون لاين: "مصر" الأكثر قمعًا لنشطاء الإنترنت في 2009م
وكالة الأنباء الألمانية: الحكومات العربية غير قادرة على مواجهة ثورة نشطاء الإنترنت


-----------------------------------
الصورة المرفقة للمؤتمر الصحفي بنقابة الصحفيين للإعلان عن التقرير - من موقع روزاليوسف

الخميس، ديسمبر 10، 2009

"سيزيف".. ما بعد الحداثة!


الحياة حب.. والحب حياة..

الحياة في كل حب، والحب أصل كل حياة...
الحب أول مخلوق، يُسمع ويُرى ويُحس ويلمس ويُستنشق..

الحب أول مخلوق يمشي بلا أقدام.. ويطير بلا أجنحة.. ويتحدث بلا أصوات.. تتحدثون عن تطور الكائنات؟ إليكم هذا إذن..

ذات يوم وُجِدَ الحب على سطح الكوكب.. وأحس بنفسه أشياء لا يدري م
ا تدعى.. أحس في ذاته تمازج المادي والمعنوي.. والمرئي واللامرئي.. والفيزيقا مع الميتافيزيقا.. لم يدرك كنه كل تلك الأشياء.. لكنه في ذاك العالم غير المنظور قرر لنفسه أن المادي لا ينفصل عن الحسي، والفيزياء لا تهجر الماوراء..

في ذاك اليوم الذي وُجِدَ الحب فيه وحيداً على الكوكب.. كان يعرف ماذا يفعل، دون أن يخبره أحد، كان يمتلأ بالطاقة التي تحركه دون أن يأكل.. والأفكار التي تبهره دون أن يدرك من أين تباغته.. لكنه كان يعرف مهمته وكفى.. لقد امتلأ بها.. وعرفها.. وحفظها.. وعشقها.. في تلك اللحظة التي كانت فيها المكونات البدائية للحياة تتفاعل في أصوات مخيفة.. تحرك الحب بين جزئيات الهيدروجين والأوكسجين.. وتعانقا في زواج سرمدي.. ليولد الماء وتنطفأ النيران التي تحرق الكوكب.. فتنهطل الأمطار .. وتتكون الأنهار.. ويتغازلا معاً ليفيضا بالحب طمياً على الأرض..

وتتعلم باقي الجزئيات من جدّيها.. لقد لقنها الحب الدرس جيداً.. التمازج سيفقد كل منهما بعض خصائصها خاصة تلك المتعلقة بحريتهما.. لكن من أجلك أيها الحب نقيد أنفسنا بمن نحب.. ونتعانق، وينطلق من حبنا طاقة.. لتولد الحياة..
تحتضن الأرض البذور.. وتقبّل الشمس الكلوروفيل.. وتعانق الأشجار بعضها ذكراً وأنثى.. وتولد الحياة..


الحياة في كل حب، والحب أصل كل حياة...

تتحدثون عن خلق آدم؟ وظهور البشر؟ إليكم هذا إذن..

يُخلق آدم بالحب، ويعصى الله لحبه حواء.. فيهبطا إلى الكوكب.. يتوه آدم ويبكي كثيراً بكاء الأطفال.. كان الحب هناك مستمراً في عمله دون كلل.. لقد علم الدرس للجمادات.. أما هذا المخلوق فكان أسرع تعلماً.. لقد وجد الحب لنفسه مسكناً في صدره.. يحرك الحب آدم ويذرع الأرض ذهاباً وإياباً وهي تنتظره هناك حتى يلقاها..

ويتعلم بنو آدم من جديهما.. والتمازج الذي سيفقد كل منهما بعض خصائصهما خاصة تلك المتعلقة بحريتهما.. لا تساوي شيئاً من أجلك أيها الحب الذي جمعتنا.. وتنطلق من حبنا طاقة.. لتولد الحياة.

ويذرع بنو آدم الأرض جيئة وإياباً.. حتى يلتقي (هو) (هي) التي هي من عين نفسه.. فيستكين الحب في قلبيهما.. فيتمازجا ويفقدا بعض الحرية.. لأنها لا تساوي دفء أحضناك.. لا تساوي طعم شفتيك.. لا تساوي قبلة بين عينيك.. لا تساوي دمعة أمسحها عند الصعاب فوق خديك.. لا تساوي بسمة خجل في أول ليلة بين يديك.. لا ت
ساوي لحظة غضب أعتذر لك عنها وأحنو هامتي عند ناظريك..

الحب هو ما يهب الحياة المعنى، فتصير ذات مغزى، الحب هو ريشة الفنان الأعظم التي تضفي الألوان على الحياة، وبغيرها تستحيل رمادية كئيبة..


الحياة في كل حب، والحب أصل كل حياة...

وأحياناً.. أحياناً تفقد حبيبك، ولا تفقد حبك.. فينطفئ النور في عينيك، وتثقل خطواتك، وتنتفي حماستك للأشياء.. جميلها وقبيحها.. وتغدو الأيام متشابهات.. ودقات الساعة مزعجات.. يتمتم الإنسان في غير فهم.. ويتحدث بغير صوت، ويتلون بغير ألوان.. ويضحك بغير ضحكات.. ويصير الفشل للحياة عنواناً، ولو امتلأت بالنجاحات.

تسمع صوت قطرات الماء المنسابة من صنبور مغلق، فتتذكر فشلك.. وتقف أمام الموقد تراقب شعلة كبريت تصارع الفناء.. فتتذكر فشلك.. وتشاهد فيلماً رومانسياً فلا تسمع في موسيقاه سوى حداداً لفشلك.. وترمق خيالات العاشقين الباسمة في سكون الحدائق فتتذكر فشلك.. وترى أوراق الأشجار المتساقطات فتتذكر فشلك
.. وتلحظ فرحة الأم بأطفالها، فلا ترى في بهجتهم سوى ظلالاً لفشلك..

الحياة في كل حب، والحب أصل كل حياة...

ولأنه أقوى وأبقى.. يشفق الحب على هؤلاء وأؤلئك.. فيمنحهم الفرصة الثانية.. وتراها وتراك.. وتبصرك وتبصرها.. وتفهم لمع عينيها وتفمهك.. لكن تزحف خطواتكما ببطئ في وجل.. وتتأكد من موطأ أقدامك.. وتتحسس النصال الناشبة في ظهرك.. وتعبث في شعرك متسائلاً.. وتمط شفتيك.. وتقهقر قليلاً.. ثم..

ثم.. تهرول نحوها وتهرول نحوك.. وتعصرها بين ذراعيك حتى توشك أن تحطم ضلوعها، وتعصرك بين ذراعيها حتى توشك أن تهشم يديها.. وكأنك تغتصب فيها معاني القهر والحرمان.. وكأنها تخنق فيك معاني الفشل والعدم.. وتنسكب مدامعك وتنسال عبَراتها.. بلا كلمة ولا حرف.. لكن كلَ شيء يُفهم.. كل شيء يُفهم..

وتجفف عبراتها وترشف دموعك، فتشرق شمس نفسك.. وتضيء أقمارك.. وتقصر لياليك.. وتتستفيق معانيك.. وتدرك الموجودات وكأنها لم تكن موجودة.. وتخترع الألوان من جديد.. وتصمم الرقصات.. وتؤلف المعزوفات.. وتملك الكون في راحتيك.. وتلون (هي) بالبهجة أيامك.. وتداوي بالقبلات آلامك.. وتأمرك فتطيع.. وتأمرها فتمارس الدلال عليك.. فتأدبها بين أحضانك.. ويثور الحب بين شاطئين.. لتولد الحياة يابن آدم.. ولا يهرم الحب.

الحياة في كل حب، والحب أصل كل حياة...

وأحياناً.. أحياناً ينكس الحزن رأسه، وتعلوه علامات الحيرة والدهشة.. حين تقدم عقلك على قلبك، وتصارع الحب الذي يدق أبوابك، وتواجه إقبالَه بأسئلتِك، وإجاباته بشكوكِك.. ويقينَه بظنونِك.. وتوسلاتَه بتجاهلِك.. ونسائِمَه بإحكامِ نوافذِك..
وتزداد حيرته حين تقسو على نفسك، وتزدري مشاعرك.. وتقتل أحاسسيك.. وتمارس دور "سيزيف" بلا لعنة ولا إجبار.. سوى من عقللك.. وحينها لا يملك الحب لك شيئاً.. ولا يهرم الحب..

الجمعة، ديسمبر 04، 2009

الموت بوصفه حجراً .. أو أحجاراً


لا يعيش هؤلاء الذين تتحكم فيهم عقولهم بسرائر مطمئنة على الدوام، ففي رحلتهم للإجابة على علامات الاستفهام التي تطرح أنفسها عليهم لا يقابلون المسرات بالضرورة..

بإزاء الشك تتعدد السبل، ولدى البعض التجربة هي مناط الإجابة الأساسي.. وفي حين يقول بعض أهل الكلام في الإسلام أو الفلسفة عند آخرين إن الشك يجب أن يكون هو الأصل لينطلق الإنسان منه إلى اليقين.. فإن الرحلة لا تطول بالجميع على نفس الخط، وبعضهم يصل لإجابته – أو يُرسِي في روعه – أنه قد لقي ما أقنع نفسه بكونها الإجابة عند أول محطة.. بينما آخرون يستمرون في رحلتهم طويلاً حتى تكل الراحلة أو تنفق..

تتقافز علامات الاستفهام وتتكاثر أحياناً .. أو تقنع بالانكماش إلى نقطة.. "فول ستوب" .. وأحياناً تستطيل لتستحيل علامة تعجب حول فرضية لم توقن بصحتها بعد.. وفي كل الأحوال .. لا تنقطع الأسئلة..

عند رأس جدي المتوفي وقفت أرمق ابتسامته البسيطة، وقد انقطعت عنها علامات الألم .. فتحولت أيقونة للراحة الأبدية.. وتساءلت ترى ماذا تفعل روحه في السماء الآن؟

في المسجد حيث صلينا عليه، استشعرت الكثير من الطمأنينة في كل هؤلاء الذين جاءوا من أنحاء متفرقة كي يشهدوا جنازته.. وحين خرجنا نحمله على الأعناق تخيلت روحه ترمقنا في إشفاق وتقول أنا أسعد منكم.. لكن يا جدي هلا كففت عن الصمت وأخبرتنا ماهو الموت؟
حين أدلفناك إلى تلك الحفرة القميئة، ليلفك الظلام، وتحيطك رائحة الرطوبة العفنة.. هلا كرهتنا؟ هل شعرت بالرعب أو الوحشة؟ أم أن تلك كلها أحاسيس تنتمي لعالم البشر الفاني.. ولديكم أيها الموتى مشاعر أخرى؟

جدي.. عهدتك لطيف المعشر محباً للحديث والكلام، فلمَ أراك صموتاً الآن؟ هل ابتسامتك تلك هي كل شيء؟ هل أرى في عينيك الغافيتين الجواب؟ هل أصدق ما أراه؟ لماذا لا تنطق وتريحني.. لماذا حتى لا تتسع ابتسامتك قليلاً لأتأكد أنك تسمعني؟ لماذا كل هذا الهدوء؟

ولماذا يا جدي اخترت يوم مولدي كي تموت فيه؟ أتراكُ تعرف أني أحب الأسئلة فأردت أن تزيدها سؤالاً؟؟ صدقني لم أحب الأسئلة يوماً ولا أدري سر تعلقها بي حتى أوهمتك بذلك أنت أيضاً..
حياتك يا جدي كانت ميلاداً للمصائر، وموتك لم يكن موتاً لها.. بل ميلاداً لمصائر أخرى.. هل هذه هي رسالتك في عيد ميلادي؟ هل هذه هي هديتك؟ ولماذا لم تجد سوى الموت للتعبير عنها؟ ألهذا الحد تخفي مغزاً عميقاً؟

قلْ لي بالحب الذين بيننا حين كنت تداعبنا صغاراً دوناً عن كل أحفادك.. هل يسألك الرب عن صلاتك.. أم أنه حنون ولطيف ويسألك عما قدمت من خير وشر بين الناس؟ هل جربت أن تسأله لماذا أتى بنا إلى هذه الدنيا ولماذا هو بحاجة إلى خلق يعبدونه، أم أن هذه الأسئلة الفاحشة ليست مما يشغل رأسك؟
هل تلك الأسئلة صعبة يا جدي؟ هلا سألت الرب أن يرسل لي إجابات عنها؟ أم أنها أسئلة وجودية؟ أو أقول لك .. دعك منها.. حدثني عن وجود الوجود .. حدثني عن الحب.. فلعل موتك هناك قد أراك من عالم القلوب ما انقطع عن الناظرين من الأحياء..

حدثني عن الحب يا جدي.. هل تذكر أبي حين كان يجيء منكسر النظرة خجولها.. ليطلب يد أمي؟ هل تذكر كيف كان الحب في قلبه وقلبها؟ هل كنت تراقب خطاباتها؟ لقد وجدت في حاجياتك الكثير من تلك الخطابات.. هل كنت تقرأ سطورها؟ أعرف أنك كأب كنت تخاف على مستقبل ابنتك.. لكن ها أنت الآن فخور بزوجها وأبنائها.. أليس كذلك ياجدي؟ هل تلوم نفسك على أي لحظة وضعت أمام قلبيهما العراقيل؟ إذا كانت إجابتك نعم، فأخبرني يا جدي.. أخبرني..

لماذا يصرعون الحبَ يا جدي بنِصالِ الأسئلة؟ لماذا لا نلقى منْ نحب ونعانق من نحب.. ونتزوج من نحب.. لماذا لا أدفن رأسي في صدر حبيبتي دون خجل.. وأبكي بكاء الأطفال دون وجل..؟
هل وجدت الحبَ صريعاً في عالم الأرواح عندك يا جدي؟ أليس يبكي غدر الدنيا والأيام..؟ هل لك أن تميل عليه وتطيب خاطره ياجدي؟ وتقول له أن في هذه الدنيا بشر مازالوا يعيشون به وله؟

لماذا يا جدي يصّعب بنوك الحياة علينا.. أنت ترمقنا الآن من موقع الذات المحايد وليست لديك تحيزات البشر الدنيوية.. أليس الحب يا جدي هو القيمة الخالدة؟
أليس الحب يا جدي هو من جمع هؤلاء الآلاف حولك في مرضك ومماتك؟ أليس الحب يا جدي هو ما يعاملك به الرب الآن؟ أليس الحب يا جدي هو ما جعلك تؤمن بالرب؟ أليس أحفادك الذي داعبتَ وجناتِهم بقبُلاتِك وأدخلوا السرور على حياتك هم أحفاد الحب يا جدي؟

هل يحبنا الربُ يا جدي؟ أخبرني .. أجبني.. زرني.. قل لي.. اصرخ.. اصرخ بصوت أعلى.. لا تصمت هكذا.. هل يحبنا الرب؟؟ ولماذا إذن يرضى بموت الحب الذي خلق من أجله قلوبنا ياجدي؟ كيف يرتضي حياة النبات بغير ماء؟ كيف يرتضي حياة الأرض بغير شمس.. كيف يرتضي للإنسان بغير حب؟

الله الذي كرم بني آدم وأحبه.. ويقول أنه حمله في البر والبحر.. يعرف أكثر من أنفسنا أن الحب هي السيارة التي تحملنا في البر والبحر والسماء.. وتداوي همومنا.. وتنير دروبنا.. يعرف أن الحب بساطنا السحري، ووقودنا الأزلي.. يعرف أن الحب بابنا على الحياة.. فلمَ يضع عليه قفل ثم لا يعطينا مفتاحه؟

لماذا يميتون الحب بنصال الأسئلة..؟؟
أو أقول لك.. إذا مات الحب .. فلا تُمِت السؤال يا جدي..

حكاية المبادرة .. خواطر متورط!


امتصتني في الفترة الأخيرة إلى حد النخاع مبادرة "قرار مشترك.. لن نفترق" إلى درجة لم أتوقعها ولم أرغبها مطلقاً، لكنها في ذات الوقت أصدرت لي إشارات كثيرة ذات مغزى.

كانت تجربتي في العمل الطلابي أثناء سنواتي الأولى في الجامعة فارقة في حياتي، وذات أثر كبير في صناعة جزء مهم من شخصيتي.. وهي تجربة ثرية بكل ما حملت من متناقضات أو سلبيات أو اندفاع.. لكن ما أريد أن أشير إليه هنا، هو أنه بعد ثلاث سنوات تقريبا من الاستغراق في العمل الطلابي كانت الدلالة الأهم التي خرجت بها هي أن اهتمامي بالفضاء العام يقع في دائرة الانشغال الفكري بأكثر مما يتقاطع مع داوائر الحركة.. أو بمعنى آخر مثلما قال صديقي "طلال فيصل" أن رجل الفكر يتحفظ قليلا على الانغماس في "الجاري" من الأمور، ويميل أكثر إلى كل ماهو "إنساني بوصفه أبدياً"..

يحتاج رجل الفكر إلى الإبقاء على مسافة بينه وبين الحدث كفاعل.. في حين يشحذ حواسه للانغماس بكل كيانه كمراقب..
ولعل ما سبق كان هو السبب في وجود حاجز دائماً بيني وبين النشاط كفاعل ( باستثناء سنوات الجامعة الأولى ) فيما انخرط فيه بعض أصدقائي وآلاف الشباب المصري مؤخراً في حركات إصلاحية حزبية أو مستقلة.

وبرغم صحة كل ماسبق، فإن التجربة الأخيرة مع مبادرة المصالحة بين شعبي مصر والجزائر، أعطتني الكثير من الفوائد.. لقد رأيت كيف يصنع العمل
الأمل، وليس العكس.. وآمنت أكثر بمقولة أن اليأس هو مصدر كل الشرور.

يذكرني ذلك بالفيلم الرائع The Dark knight، في كونه أحد الأفلام القليلة التي نجحت في أن تمزج فلسفة الصراع بين الخير والشر في أحداث قتالية Action بحيث تكون الصورة في النهاية ذات مغزى عميق، ووصلت لأعمق دلالاتها في نهاية الفيلم حين يقول "بات مان" إن "أسعد يوم لدى الجوكر هو حين يفقد الناس الأمل". ويمكن أن تضع مكان "الجوكر" هنا أي لفظ آخر.. الشيطان، الطاغية، الديكتاتور، السفيه.. الخ.

لن يكون الجوكر سعيداً بتخريب هنا أو هناك قدر سعادته بأن يفقد الناس الأمل.. لأن فقدان الأمل يسجن الإنسان داخل زنزانة من الإحباط يتخيل نفسه حبيسها، برغم أن بابها مفتوح، ويمكنه الخروج في أي وقت، لكن القناعة التي انطلت على عقله الباطن أن تلك الخطوات نحو الممكن، لم تعد ممكنة!
ما يضمن للطواغي بقائهم وتوريث الحكم إلى سلالتهم هو ذاك الإحباط والخوف الذي سجن الناس داخل نفوسهم.. وليس أي شيء آخر.

تبلورت بعض تلك الأفكار بالذات، حينما كنت أمس في ضيافة حضرة السفير إبراهيم يسري – سفير مصر السابق في الجزائر – حيث انتابتني الكثير من الأفكار مع كلامه الصادق المتدفق، كان أولها شعوري بمدى قذارة هؤلاء المتحكمين في مصائر وطننا حين يُعزل رجل وطني مخلص مثقف بارع في عمله عن التواصل مع الناس ومع الأجيال، في حين يُلمّع آخرون لا تتجاوز قيمتهم ثمن المقاعد الوثيرة التي يسندون إليها مؤخراتهم المكتنزة.

صحيح أن الوضع العام لبلادنا العربية كئيب وسوداوي، ومن يراه بخلاف ذلك واهم أو ساذج، لكن ثمة مساحات كبيرة للفعل، وهذه المساحات لن تعطى مجاناً ولكنها تكتسب بزحف الأجيال المتواصل نحو اكتساب حقوقهم الطبيعية.. ما يبعث على الأمل هو أن هذا الجيل الذي رباه "الكبار" الخانعون على تحريم السياسة، وتشجيع قيم التفاهة والأنانية والتمركز حول رغبات الذات، هو نفس الجيل الذي خرج منه شباب وفتيات يقفون في وجه عساكر الأمن المركزي.. ولأول مرة منذ عقود – يقول السفير إبراهيم يسري – يرى الأمن المركزي يتقهقر خوفاً من الناس، كان ذلك في المحلة، وبفضل مجموعة من الشباب والعمال.


في حديثي مع السفير إبراهيم يسري والسفير الدكتور عبد الله الأشعل، بصفة كل منهما مسؤول سابق بوزارة الخارجية المصرية، تفتحت عيني على كم المساحة الهائلة من الفعل المتاحة أمام المسؤولين السياسيين إذا كانوا بحق مستقلي الإرادة، وليس بالضرورة أن تؤدي أفعالهم ذات الاستقلالية إلى أذى أو غضب عليهم، لكن ما نراه الآن هو ملكيين أكثر من الملك، ومساحي الجوخ الذين لا هم لهم سوى نيل المزيد من الرضا ومن ثم العطايا والاستمرار في النعيم الإلهي.
هذا على مستوى المسؤولين السياسيين، أما على مستوى المثقفين فالنخبة مليئة بالمخلصين حقاً وصدقاً وقد لمست ذلك بنفسي في الكثير من أستاذة ومثقفي هذا البلد الذين هاتفتهم أو راسلتهم على الإيميل، وكان تفاعلهم معنا يصل لدرجة التوقيع على البيان بدون حتى قراءته أو إضافة أية روتوش أو تعديلات.

من الفضائل أيضاً التي منت بها عليّ تلك المبادرة، أنني اكتشفت انحساراً لحالة الأدلجة لدى المثقفيين الحقيقيين ورغبة حقيقية في الفعل والتعاون المشترك، بعيداً عن الأجندات الخاصة.. وهذا ينطبق على الشباب بأكثر مما ينطبق على الكبار.

صحيح أن النخبة (أتحدث هنا عن النخب السياسية الحزبية في الأساس) مريضة بداء الغرور والرغبة في "ركوب الأحداث" أحياناً، ومسكونة بأجنداتها الخاصة، وبعضهم ديكتاتوري أكثر من الحكام العرب، وهذا المرض تم توريثه للبعض من أجيال الكفاح السلمي الجديدة مما أدى إلى انقسامات في تلك الحركات الوليدة.. إلا أنه أمر طبيعي ولا يجب أن يفزعنا في ظل حالة التكلس السياسي والجمود المميت الذي خلقه نظام عبد الناصر - سامح الله - منذ ستين عاماً.
وبرغم كل شيء، فقد وجدت الكثير من أسباب الأمل، في كل هذا العدد من الشباب الذين شاركوا معنا في المبادرة، وحتى هؤلاء المختلفين معنا، الذين بادروا بالاتصال بي والتعبير عن رأيهم بكل احترام.. في ظاهرة أسعدتني كثيراً سواء اقتنعنا بكلام بعضنا البعض ووصلنا لنقطة مشتركة أم لا..

أما أساتذتي الذين ساعدونا كثيراً فقدت وجدت لديهم نفس مشاكلنا التي نعاني منها من افتقاد القدرة على الحشد والتنظيم.. ولهذا أقول للشباب إنكم صنعتم ما عجز الكبار عن فعله.. وهم بصدق يعولون عليكم.. أن تقودوا القاطرة.. وكما يقول المصريون: الحركة بركة.
------------------------------------
** أود أن أخص بالشكر بعض المثقفين وهذا ليس إخلالاً بحق الآخرين أبداً.. لكن هؤلاء كان لدعهم أثرمعنوي كبير لديّ:
السفير إبراهيم يسري - السفير الدكتور عبد الله الأشعل - الأستاذ فهمي هويدي - الدكتور جلال أمين - الدكتورة هبة رؤوف - الدكتور أحمد خالد توفيق - الدكتور عمرو الشوبكي - الدكتور أحمد عبد الله.
** ومن الأصدقاء أخص بالشكر: مصطفى النجار مؤسس المبادرة والذي ورطني فيها - رمال عون - ياسمين عبد الله - ليلى بورصاص

السبت، نوفمبر 21، 2009

حين يقود العميان القاطرة .. تقع المصائب


إن المشهد الهزلي كان أقرب ما يكون إلى أطفال "الحضانة" الذين يخرج الواحد منهم صارخاً: يا أستاذ فلان ضربني.. ليقول الآخر: والله يا أستاذ هوا اللي شتمني الأول، فيرد الأول: بس هوا اللي كان بيتريق على الكراسة بتاعتي.. فيحاول الثاني الرد، وهنا يفيض بالأستاذ مللاً وينهرهما ويطلب منهما الجلوس، أو يعاقبهما كيفما اتفق. لكنهما في "الفسحة" يعودان إلى لكم وضرب بعضهما البعض ويظهر لكل منهما أنصار .. ثم تنتهي باقتسام الخدوش والسحجات وعودة كل منهما إلى "أمه" لتربيه.

كان الواقع برغم قبحه وعوره يذكرني بذلك المشهد حتى صافرة انتهاء "أم المعارك" بالسودان، حين تحول الهزل إلى كابوس حقيقي.. لم تكن "الأم" في الطرفين على درجة كافية من المسؤولية والعقل، وتفرجت الحارة بأسرها عليهما وكل طفل يسحب أمه من يدها لكي تكمل وصلة الردح، والتلاسن مع توعد بسواد الليل وظلامه وتقاطع كل منهما جارتها.

سوف يرى الكثيرون الحماقة في السباحة ضد التيار فيما هو واقع الآن من مصائب بين مصر والجزائر، أعرف شخصياً مثقفين كبار متأففين مما حدث، لكنهم يفضلون التروي بعض الوقت على الكتابة أو التصريح بأي تعليقات قد تجعلهم كمن دخل حجر الثعابين بقدميه. وسوف يكون أصحاب أي محاولات للفهم والتفسير عرضة للاتهام والتجريح، أما هؤلاء الذين سيحاولون الصلح والتقريب، فأشفق على مصيرهم.. وكان الله في عونهم!

أشعر بكثير من التقزز والقرف والإشمئزاز من "وصلات الردح" التليفزيوني والصحفي المتبادل بين المصريين والجزائريين بمباركة رسمية. وأحيانا تنتابني موجات من الضحك الأسود تنتهي بشعور إحباط واكتئاب عارم مما كنت أظن فيهم بعض العقل وإذ بهم حفارو قبور.

لقد نجحت تلك الحملات – وربما لأول مرة في التاريخ العربي – في شحن الرأي العام (وليس جماهير الكرة فقط) بأطنان من الكراهية والحقد الأسود ربما تكون حية وشياجة في النفوس بأكثر مما يعتمل ضد أعدائنا الحقيقين ومستعمرينا الجدد والقدامى. وللأسف النار لن تطال فقط من أشعلوها.. وهاهي الحرائق تتسع.

إن ردود الأفعال المسكونة بالحقد والكراهية ليست سوى أعراضاً لأمراض استوطنت الشارع والنخبة على حد سواء فحدث ماحدث.. وفي خضم الطيش الإعلامي المتبادل ضاعت أصوات العقلاء ومحاولات التهدئة ووضع الأمر في مقامه.. لذلك أرى من الواجب التذكير بكبائر الأمور، والبعد عن الخوض في التفاصيل، بعض تلك الكبائر معروفة للجميع وإن نسيها البعض، وثمة كبائر أخرى تحتاج بعض التدقيق.

أولا: إن السبب الرئيسي في كل هذا الشحن وراء مباراة كرة، هو اتساع رقعة الحرام السياسي، وخلو البلدين من أي مساحة للفعل السياسي الحقيقي والقنوات السلمية للتعبير عن الانتماء السياسي، أضف إلى ذلك خلو البلاد من أي مشروعات قومية عملاقة تلتف حولها الجماهير، بالإضافة إلى حالة من الوطنية الشكلية أو حتى الحقيقية تشجعها وسائل الإعلام والنظام الرسمي يجعل من الاستاد ملعباً للسياسة، ومن المرمى صندوقاً للاقتراع، ومن جماهير الكرة ناخبين سياسيين. هذه الحالة المغلوطة إذ تنبأ أن جذوة الإحساس الوطني مازال كامناً في نفوس الناس، برغم القهر والكبت والاستبداد، إلا أن التعبير عنها يظهر في المكان الغلط، وبالطريقة الغلط بتشجيع ومباركة رسمية.
بمعنى آخر إن الأمر يشبه جزئيات الماء المغلي التي لن تفكر كثيراً في أي قناة ستعبر طالما أنك سمحت لها بالمرور.

ثانيا: إن جنون الكرة أو Football mania موجود في العالم بأسره، والدول المتقدمة أسبق في ظهور ذلك الجنون بحكم أن اللعبة ظهرت فيها وتطورت عند شعوبها أولا، لكن الفرق بين الدول المتقدمة والمتخلفة، أن الأولى تعرف أن التنافس مكانه الملعب، ولا تتأثر العلاقات التاريخية والاقتصادية والسياسية بين البلدين بنتيجة تلك التسعين دقيقة.. وحتى في حال خروج بعض الأحداث عن إطار الملعب وامتدادها لتنال من الأخلاق والقانون، فإن ذلك ينطبق على فئة محدودة من متعصبي الجمهورين ولا يتأثر به عامة الناس ولا يتحول الموضوع إلى مباراة أخرى في الشحن والكراهية والحقد بين شعبي البلدين.

وهاهو – لسخرية القدر – مثال حي على ذلك، وقع في نفس اليوم تقريباً في مباراة مماثلة بين فرنسا وأيرلندا، حيث لمس المهاجم الفرنسي تيري هنري الكرة بيده عمداً ومررها للاعب آخر أحرز منها هدف فرنسا الذي أهلها لكأس العالم.. صحيح كانت هناك بعض أجواء التشاحن ومطالبات بإعادة المباراة، لكن المدهش أن تيري هنري قال بنفسه إن إعادة المباراة حل عادل، بينما اعترف مدرب منتخب أيرلندا أن إعادة المباراة مستحيلة بسبب فهمه لقوانين الفيفا التي لم تنص على إعادة مباراة بسبب خطأ تحكيمي. أين ذلك مما يحدث بين مصر والجزائر؟

وقد تحدث الكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة عن مثل ذلك في مقال له قبل المباراة بعنوان "حروب كروية" بجريدة الشروق المصرية.
أما الدكتور عمرو الشوبكي فيذكرنا بـ "ما جرى للمشجعين الإيطاليين على يد بعض المشجعين البريطانيين المتعصبين منذ أكثر من ١٠ سنوات، حين سقط ما يقرب من ١٥ قتيلا (على ما أتذكر) من الجانب الإيطالى فى قلب الاستاد، وشعرت بريطانيا بالعار والخجل من هؤلاء، ولم يقم الإيطاليون بالانتقام من البريطانيين فى شوارع روما."

ثالثا: لا أميل إلى نظريات المؤامرة وأفضل عنها نظريات التوظيف، وأرى إن النظام الرسمي الحاكم في البلدين قد وظف بخبث شديد مايحدث لصالحه ولصالح جني التأييد لنفسه على حساب كل القيم والروابط.. وقد اتضح ذلك في مساندة رسمية من رأسي البلدين وزيارات للاعبين، في حين لم نر كل هذا التأييد والتواصل الرسمي في الكوارث والملمات الكبرى على نفس ذلك المستوى من الاقتراب من الناس والحدث.

كما اتضح أيضاً في "ركوب الموجة" وإبداء النية في توفير كل سبل النقل والإقامة للمشجعين للذهاب إلى السودان، الأمر الذي ساهم في "تسييس" المباراة، وتحميلها أعباءًا سياسية لم تكن بالحسبان.

وإن كان الكاتب نبيل شبيب يرى أنه من حق البعض أن يتكهن حول دوافع "انزلاق أقلام معروفة، ووسائل إعلام رسمية وشبه رسمية، وألسنة مسئولين "كبار" إلى تأجيج فتنة جديدة، فمن الطبيعي أن تنتشر التكهنات انطلاقا من السؤال: ما هو الدافع الحقيقي؟ هل هو انتصار للكرة وأهلها والشبيبة وحماستها، أم هو إسهام مقصود في نشر الفوضى الهدامة لتمرير مخططات دولية خطيرة؟".

وفي مقاله الدرامي تطرق الدكتور علاء الأسواني في مقاله "حكاية نورا والمنتخب الوطني" إلى تلك المفارقة، من خلال قصة مواطنة مصرية "تشحطط" بها زوجها على أبواب المستشفيات الحكومية التي أهملت رعايتها حتى فارقت الحياة.. في حين يُصّر البعض على أن الاهتمام بالكرة يعود إلى كونها هي ما يفرح الناس، وكأن توفير الغذاء والكساء والدواء للناس لن يفرحهم .. ولكنها حجة البليد كما يقولون!

وفي المقابل فإن الجماهير الجزائرية التي ضللها الإعلام حول سقوط قتلى جزائريين في مصر لم يحركوا ساكناً إزاء أخبار مؤكدة بسقوط 18 قتيل وعشرات الجرحى في حوادث سير بسبب الاحتفالات بالتأهل للمونديال.

رابعا: إن مصر الرسمية وحواشيها من النخبة المحسوبة على الثقافة، مازالت كل يوم تفقد من رصيدها ومكانتها كأم وشقيقة كبرى للعرب، بدأ ذلك منذ معاهدة كامب ديفيد في السبعينات وتصاعد مع اشتراك مصر في حرب الخليج الأولى، ومؤخراً في موقفها السلبي – على أقل تقدير – إزاء العدوان على غزة، ثم أخيراً اتساع نعرات "كفاية كدا".. ليس كفاية للاستبداد ولا كفاية للقهر ولا كفاية للتخلف والأمية والجهل.. وإنما كفاية لدور قائد تنويري لعبته مصر طويلا وظلت تحصد ثماره المعنوية والمادية على مدى عقود.

إن استخدام أساليب المنّ وتعديد المحاسن ليس من شيم الكبار، والكبير كبير بأفعاله وتصرفاته ومواقفه، وليس بتاريخه فقط، وقد هالني أسلوب المنّ والقدح الذي ساد الإعلام المصري حتى من قبل مباراة القاهرة، ولسخرية القدر فإن أغلب الذي شاركوا في حملات المزايدة والمنّ هم أولئك الذين لعنوا سلسفيل عبد الناصر، واختاروا "السلام" خياراً استراتيجياً يأكلونه غداءً وعشاءً..

وكم سجلت الأيام كباراً استحالوا صغاراً والعكس في حركة الأمم. صحيح أن مصر مازلت بها مقومات النهضة والقيادة وأسباب النجاح، لكن القيادة السياسية عطلت تلك الأسباب وأصبح شعار الانكفاء على الذات بحجة أو بأخرى هو السائد. وليت ذلك تم في مقابل تنمية حقيقية اقتصادية أو سياسية، كما كانت الأقلام تبرر أحياناً، وإنما ما نلمسه يومياً هو لا تنمية ولا اقتصاد ولا سياسة.

الكبير كبير بأفعاله، ولو كانت مصر تريد أن تظل رائدة في مواقفها حقاً لاختارت التهدئة والتعالي على الصغائر واحتضان شقيقتها الجزائر مهما بدر من صحف مارقة أو أطراف متعصبة.. وكان من شأن فعل من هذا القبيل أن يوأد الفتنة في مهدها، ويقوي اللحمة بين الشقيقين.. إما أن تنفض يدك وتعترف بذلك بشجاعة، وتفعل ما يحلو لك منتظراً حكم التاريخ عليك، وإما أن تلتزم بما يقتضيه وصف "الشقيقة الكبرى" من مواقف.

هل لي أن أتساءل بدون براءة مقصد: لماذا لم نسمع صوت السيد علاء مبارك بنفس الحرقة والقوة والانفعال على الفضائيات حينما وقع بأهلنا في غزة ما وقع من مجازر وثقها تقرير غربي محايد؟!

ألم يلاحظ المصريون أن الإساءة لبلادهم لم تأت عن طريق بعض الجزائريين فقط ولكن استغل الحدث مواطنين من جنسيات عربية أخرى؟ لماذا تفقد مصر وشائجها مع العرب بهذه السرعة، ألا يستدعي ذلك وقفة مع النفس؟ كثيرون طرحوا تساؤلات مشابهة ومنهم الزميل أحمد مهنا في مقاله المهم "كثير من الرؤى قليل من الوضوح"

لقد واتت الشجاعة قليل من الكتاب منهم الباحث والمفكر المصري د. عمرو الشوبكي لكي يعترف بأن: "الإعلام الرياضى المصرى قد تفوق فى الجولة الأولى السابقة على مباراة القاهرة على نظيره الجزائرى حين قدم «فرسان الجهل» ومندوبو بيزنس الكراهية من مقدمى البرامج الرياضية من لاعبى الكرة حملة كراهية وعداء غير مسبوقة، أهانوا فيها منافسهم بطريقة لزجة وتعاملوا معه باستعلاء وتحدثوا عن ريادة مصرية غائبة تستفز عقلاء المصريين فما بالك بمجتمع صعب المراس مثل الجزائريين".

أما آخرون فقد تراجعوا عن حملاتهم التي قادوها للتهدئة إزاء خوفهم على "البيزنس" تارة، أو اتساقاً مع المزاج العام والرسمي تارة أخرى. ولم يلتفت الإعلام للأسف لمبادرة مثقفين جزائريين للتبرأ من دنائة ما كتب في الإعلام الجزائري.. فالمهم هو "ركوب الموجة".. وقرع طبول الحرب!

سيقول البعض، ولماذا لم تبادر سلطات الجزائر للتهدئة؟ وهؤلاء معهم حق، لكن الكبير مسؤوليته أكبر. لكن الصغير والكبير سقطا في الامتحان.

خامساً: لم تتجافَ الأصوات النكرة فقط مع الأخوة والعروبة والإنسانية، ولكنها تتنافى حتى مع ذكاء الدبلوماسية ولغة المصالح المشتركة، لقد كان من نتاج المزاج الرسمي الحاد أن فاقم المخاطر التي حاقت برعايا كلتا الدولتين على أرض الأخرى.. وانظروا ماحل بشركات المصريين التي كانت مصدر رزق للكثيرين بالجزائر، وما حل بالطلبة الجزائريين بالقاهرة من رعب بعد " أم المعارك"! وهناك حديث عن إن الاستثمار المصري في الجزائر بالمليارات، ويفوق استثمارات دول أجنبية كبرى، فهل يمكن الحديث هنا عن مصالح لجهات أجنبية في تخريب العلاقات الاقتصادية بين البلدين؟؟ من سيسد الفراغ الذي سيخلفه رحيل الاستثمارات والعمالة المصرية؟

سادساً: إنني أرى ضرورة تشكيل لجان محايدة للتحقيق في التجاوزات التي وقعت في كل من السودان ومصر، ولكني لا أتفق مع الرأي القائل بتقديم لجنة التحقيق على المصالحة والاعتذار.. وقد ناصر أستاذنا فهمي هويدي هذا الرأي في مقاله بالشروق يوم السبت (إن لم أخطأ فهمه) ولكني أرى أن هذا الرأي أشبه ما يكون بوضع العربة أمام الحصان.. لأن الأنظمة الرسمية هي المنوط بها تشكيل لجان للتحقيق، والأنظمة الرسمية كما شاهدنا جميعا سعيدة وربما مشجعة لما يحدث، ومنكفئة على ذاتها ومشغولة بهواجسها الخاصة في حسابات بقائها في السلطة.. ولا يمكن أن يعطل الشعبان المصري والجزائري مصالحهما وتاريخهما المشترك من أجل تلك اللجان..
نعم إن ما وقع من أحداث يستلزم لجان تحقيق محايدة، يقدم بموجبها كل مخطئ كما قال الأستاذ فهمي هويدي في مقاله إلى المحاكمة، أو الحساب.. لكن لايجب أن ينتظر العقلاء في الشعبين طويلاً إزاء تلك الخطوة، ولا يجب أن يعولوا كثيراً على الأنظمة الرسمية التي خذلتهم طويلاً.

وأرى أن الأنسب في إعادة الحقوق هو أن يتقدم أي من وقع عليه ضرر مادي إلى القضاء، مثلما أدان القضاء المصري منذ عقدين اللاعب الجزائري البلومي حين رفع مواطن مصري قضية بسبب فقأ اللاعب لعينه بعد المباراة، وقد ظل البلومي شبه حبيساً في وطنه 19 عاماً بسبب وضعه على قائمة الإنتربول الدولي حتى تنازل المواطن المصري عن القضية.

يعضد من الرأي السابق، كون أن الانتهاكات والتجاوزات وقعت من جمهوري وإعلاميي البلدين على مدار "المعركة الكروية"، وإذ كان العقلاء لن يسيروا في ركاب الإعلام في "ملأكة الذات وشيطنة الآخر"، فإننا إذن بصدد اعتراف متبادل بوقوع تجاوزات مسيئة للرياضة والكرة قبل الأخوة والعروبة.. وبالتالي فإن الدخول في خصام بشأن "حجم" تلك الانتهاكات لا يعد مفهوماً بعد أن سلمنا بوقوعها، والأجدر أن يعتذر عنها الطرفان دون انتظار لجان التحقيق وغيرها من الإجراءات الرسمية التي نحلم بها ولن تتم.

بعبارة أخرى فإن وظيفة تلك اللجان لن تكون إثبات وقوع انتهاكات من الطرفين بقدر ما هي مطلوبة للوقوف على حجم وحقيقة تلك الانتهاكات ونوعيتها ومرتكبيها.. وهي التفاصيل المهمة بخصوص عودة الحقوق الفردية لمن وقع عليهم الأذى، لكنها أقل أهمية في سياق الحديث عن مصالحة بين الشعبين وإصلاح ما أفسدته السياسة والإعلام وسفهاء الجماهير في الجانبين.

سابعاً: إن ضياع صوتي عالمين لهما جمهورهما العريض في البلدين، وهما الشيخ القرضاوي والشيخ عباس مدني، في محاولة للتهدئة قبل المباراة، إنما تكشف عن أمرين متشابكين كوجهي العملة،وهما: صعود التدين بنوعيه "الطقوسي" و"السياسي" على حساب التدين الحقيقي.. وثانيهما: طبيعة جمهور المشايخ الذين لم ينجحوا في مخاطبة العامة اللهم إلا في مسائل جزئية تتعلق بالفقه والفتاوى الشخصية، في حين أن صوتهم خارج هذا الإطار لم يكن مسموعاً أو مطاعاً.

صحيح أن أجواء الصخب الإعلامي والمزاج الرسمي كانت تحجب أصوات العقل، لكن هذا وحده ليس كافيا في تفسير عجز الوازع الديني الذي يتشدق به الجميع بمناسبة وبدون.
وهي تعكس أيضاً غياب غير بريء للمؤسسة الدينية الرسمية في البلدين التي لم تقم بما هو واجب منها في مثل تلك الفتنة السوداء.. وهو غياب يُفسر ويفسِر التوظيف السياسي للحدث.

أخيراً، إن جاز لي أن أبدي رأياً فنياً فإني أقول إنه بدلاً من تطاول المصريين على الجزائريين والعكس بالعكس، كان ممن الممكن أن تقود البلدان حملة دبلوماسية وكروية في الأروقة المعنية والفيفا لزيادة حصة قارة أفريقيا من المنتخبات في كأس العالم.. ففي حين تحظى الملاعب الأوروبية الآن بجماهيرية عارمة بسبب اللاعبين الأفارقة، كما تزخر المنتخبات الأوروبية والأمريكية باللاعبين ذوي المهارات العالية من أصول أفريقية (لاحظ كم لاعب أسود في أي منتخب أوروبي) لا تملك أفريقيا سوى خمسة مقاعد فقط في المونديال العالمي.
وكانت لحد عقدين تقريبا لا تملك سوى مقعدين، لكن ارتفاع مستوى الكرة الأفريقية وظهور لاعبيين على مستوى عالمي أدى إلى زيادة حصة أفريقيا..

إن منتخبات كبيرة عريقة مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا تعاني أحيانا من صعوبة التأهل لكأس العالم برغم أن أوروبا مثلاً تمتلك 13 مقعداً في كأس العالم وهي أصغر قارة في العالم.. فلماذا لا يقود العرب الأفارقة حملة دبلوماسية لزيادة مقاعدهم إحقاقاً للعدالة. لكنه الفشل حتى في إدارة أهدافنا الكروية!

إن خلاصة القول فيما يحدث هو أنه حين يُترك للعميان مهمة قيادة القاطرة.. فإننا لا نتوقع غير انقلاب العربات وخروجها عن المسار.. فماذا يحدث إذن حين يهلل الناس ويصفق لهؤلاء العميان ويركبون في قاطرتهم؟ تريد الإجابة؟ إليك ما يحدث الآن في مصر والجزائر.