نقاش مع دانتي حول الكوميديا الإلهية
للفنّانين الصينيين جانغ آن، داي دودو ولي تييزي
قد تكون القيمة الإبداعية لهذه اللوحة موضع تساؤل وجدل. غير أن من الواضح أنها تتّسم بجدّة موضوعها وطرافة تناولها. وقد انتشرت مؤخّرا على نطاق واسع عبر الانترنت على الرغم من أنها ُرسمت قبل ثلاث سنوات.
صاحب فكرة اللوحة هو الرسّام الصيني داي دودو الذي أشرك معه في رسمها اثنين من زملائه لأن ضخامتها وكثرة الأشخاص والتفاصيل فيها كانت تتطلّب نوعا من الجهد الجماعي. ويبلغ طول اللوحة ستّة أمتار وعرضها ثلاثة. وهي تشبه في ضخامتها واتّساعها، إلى حدّ ما، لوحة رسّام عصر النهضة الايطالي باولو فيرونيز بعنوان عُرس في قانا الجليل .
وكانت الغاية أن تضمّ اللوحة مائة شخصية تاريخية من عصور وأمكنة مختلفة رأى الرسّامون الثلاثة أنها تمثل الشخصيّات الأهمّ في تاريخ العالم في ميادين الفكر والسياسة والحرب والفلسفة والفنّ والرياضة وغيرها.
وقد استغرق رسمها حوالي السنة، واختار الرسّامون سور الصين العظيم ليكون المكان الذي يجتمع حوله هذا العدد الكبير من الشخصيات.
في اللوحة تظهر الشخصيّات المائة في مشهد رتّبت تفاصيله بعناية. وقد كان في ذهن الفنانين الثلاثة أن يجمعوا كلّ هذه الشخصيات معا في هذا المكان كي يديروا نقاشا مع دانتي اليغييري شاعر القرن الرابع عشر الايطالي ومؤلف كتاب الكوميديا الإلهية.
ويظهر دانتي واقفا في أعلى السور في الزاوية اليمنى من اللوحة، بينما يحيط به الرسّامون الثلاثة الذين يشرفون على الحشد المجتمع أسفل منهم.
وفي خلفية اللوحة يظهر، بالإضافة إلى السور العظيم، صرحان آخران من أشهر صروح العالم القديم: أهرامات مصر وحجارة ستون هنج الأثرية البريطانية.
دانتي يقوم هنا بدور المحاضر أو المعلّم. ويبدو انه اختير لهذه المهمّة لكونه مؤلّف الكوميديا الإلهية؛ الكتاب الذي يعتبره بعض النقاد أعظم عمل أدبي ألّف بالايطالية وواحدا من أهمّ التحف الأدبية العالمية. وهو عبارة عن مجموعة من القصص التي يحكي فيها دانتي عن رحلته المتخيّلة إلى عالم ما بعد الموت ويصف فيه على وجه الخصوص أهوال وعذاب الجحيم.
أما شكل اللوحة وأسلوب بنائها وتوزيع الشخصيات فيها فمن المرجّح أن الرسّامين استوحوه من لوحة رافائيل المشهورة مدرسة أثينا التي صوّر فيها مجموعة من أهم علماء وفلاسفة العالم القديم وهم منخرطون في حلقة نقاش.
لكنْ في هذه اللوحة لا يبدو أن ثمّة الكثير مما يربط الشخصيات بعضها ببعض.
وقد يتساءل شخص، مثلا، عن العلاقة التي يمكن أن تربط سقراط بـ بيل غيتس، أو هتلر بـ بيتهوفن، أو ليوناردو دافنشي بـ ستالين اللذين يشاهدان وهما منهمكان في الحديث مع بعضهما.
ومع ذلك لا تخلو اللوحة من بعض العناصر اللافتة والطريفة. فـ كوفي عنان يظهر وهو يعزف على آلة الفلوت، بينما نرى ليو تولستوي وهو مستغرق في العزف على الأكورديون، فيما بوش الابن ينظر عبر منظار مكبّر وخلفه مباشرة يقف أسامة بن لادن. ولم ينسَ الرسّامون أن يسجّلوا حضور النعجة المستنسخة دوللي التي تقف عند قدمي غاندي.
والذي يدقّق في قائمة الشخصيّات المرسومة في اللوحة لا بدّ وأن يستغرب، مثلا، غياب أشخاص مثل المسيح وبوذا مقابل حضور أشخاص أقلّ شأنا مثل لاعب الكرة بيليه والمغنّي ايلفيس بريسلي والمخرج ستيفن سبيلبيرغ واعتبارهم من الشخصيات التاريخية.
ثم هناك صورة خوان انطونيو سامارانش مسئول اللجنة الاولمبية العالمية سابقا والذي يبدو أن الرسّامين حشروه في اللوحة عنوةً، مجاملة له على تزكيته ترشيح الصين لاستضافة الاولمبياد الأخير على أراضيها. بعض النقاد قرءوا حضور دانتي في اللوحة وإعطائه دور المعلم قراءة مختلفة. فالمعروف أن الكوميديا الإلهية مكرّسة في جزء كبير منها للحديث عن صورة الجحيم والأهوال التي تنتظر العُصاة والخاطئين فيه. وكأنّ في هذا إشارة تخويف أو رؤية عن "جحيم ما" ينتظر شخصيات اللوحة أو بعضهم.
ومن الملاحظ أيضا أن اللوحة تضمّ صورا لبعض الحيوانات والطيور التي رافقت الإنسان منذ فجر الخليقة، مثل الجمل والثور والنسر بالإضافة إلى صورة لكلب وخروف يقودهما شخص يُحتمل انه النبيّ نوح أو موسى.
ولا بدّ أن يستوقف الناظر إلى اللوحة منظر الرجل الضخم ذي الملامح الصينية الذي يبدو مترنّحا فوق كرسيّه وكأنه يحاذر السقوط إلى الأرض. هذا الرجل بحسب ما يشير إليه اسمه هو "لي باي" الذي يعتبر أشهر شعراء الصين الكلاسيكيين والذي عاش في القرن الثامن الميلادي. وقد كان لي باي من أتباع الطاويّة وعُرف بأشعاره التي تمجّد الحرّية وبشغفه الكبير بالخمر وكثرة الأسفار. ولعلّ رسمه بهذه الطريقة الغريبة له علاقة بالكيفية التي مات بها. إذ يقال إنه غرق في مياه اليانغتسي بعد أن سقط من قاربه ليلا بينما كان يحاول، وهو سكران، الإمساك بالقمر المنعكسة صورته في مياه النهر.
ومن الأشياء الأخرى التي تلفت الانتباه في اللوحة ذلك الصفّ الطويل من الأشخاص الذين يظهرون في أعلاها وهم يرتدون ثيابا بيضاء أشبه ما تكون بالأكفان بينما يأخذون طريقهم باتجاه الأهرامات التي قد تكون رمزا للموت أو الخلود.
ترى هل هؤلاء هم الضحايا؟ قتلى الحروب والمآسي التي جلبها عظماء التاريخ من ساسة وقادة عسكريين؟
أغلب الظنّ أنهم كذلك. ومما يرجّح هذا الاحتمال صورة المرأة التي تقف في نهاية الصفّ خلف بوش الابن مباشرة وإلى جوار بن لادن، والتي ترفع يديها إلى السماء بالتوسّل والشكوى. ومن الواضح أن الرسّامين استعاروا هذه اللقطة من صورة فوتوغرافية مشهورة للمصوّر الفرنسي هنري بريسون التقطها في أربعينات القرن الماضي لأقارب ضحايا إحدى المذابح الطائفية التي حدثت في مدينة سريناغار الهندية.
وهناك احتمال أن يكون الدافع الأساسي من وراء رسم اللوحة هو محاولة الترويج للثقافة الصينية في العالم. فهناك اثنتان وعشرون شخصيّة صينية في اللوحة, ومعظمهم مجهولون تماما خارج الصين. وربّما لا يُعرف منهم سوى كونفوشيوس ولاو تسو وجنكيز خان وماوتسي تونغ وصن يات-سين ودينغ شياو بينغ.
وما يعزّز هذا الاحتمال طغيان الكثير من جوانب الثقافة الصينية على اللوحة، مثل الطاولات التي غُطيت بخارطة الصين، وقطع الأثاث والنقوش والزخارف الصينية والأواني البرونزية والعتاد الحربي والآلات الموسيقية الصينية.
هناك من يقول إن سرّ شعبية هذه اللوحة واهتمام الناس بها يعود إلى حقيقة أن الناس في هذا العصر الذي تهيمن عليه الميديا واسعة الانتشار مفتونون كثيرا بالشخصيات النجومية وميّالون إلى تمجيد المشاهير بل وحتى إحاطتهم بهالة من التبجيل والقداسة، يستوي في ذلك أكان الشخص المشهور سياسيا أو مغنيّا أو رياضيا أو رسّاما أو ممثّلا.
Dai Dudu, Discussing the Divine Comedy with Dante, 2006
Saturday, April 11, 2009
لوحات عالميـة - 192
Wednesday, April 08, 2009
لوحات عالميـة - 191
حـامـل الأزهــار
للفنـان المكسيـكي دييغـو ريفيـرا
يعتبر دييغو ريفيرا أشهر رسّام مكسيكي بلا منازع، وأحد أعظم رسّامي أمريكا اللاتينية.
وجانب من شهرته يعود إلى اقتران اسمه بمواطنته الرسّامة المشهورة فريدا كالو التي أصبحت زوجته في ما بعد.
والحقيقة انه يصعب الفصل بين هاتين الشخصيّتين، كما لا يمكن الحديث عن ريفيرا بمعزل عن زوجته. فقد عاش الاثنان حياة امتزاج وتفاعل على الصعيد الإنساني والاجتماعي والفنّي والسياسي. فبالإضافة إلى زواجهما واشتغالهما بالفنّ، كان الاثنان يؤمنان بالأفكار الثورية كما كانا عضوين في الحزب الشيوعي المكسيكي خلال الفترة التي شهدت ذروة انتشار الماركسية في بلدان أمريكا اللاتينية.
وقد عُرف ريفيرا (diegorivera.com) في بداياته بلوحاته الضخمة التي كان يمجّد فيها الثورة المكسيكية ويروّج للأفكار الماركسية؛ الأمر الذي لم يرقْ للكثير من النقاد الذين لم يبدوا ارتياحهم لمحاولاته إقحام الايدولوجيا في الفنّ.
في هذه اللوحة، يرسم ريفيرا رجلا يتهيّأ لحمل سلّة ضخمة من الزهور. ولا بدّ وأن يلاحظ الناظر إلى اللوحة المفارقة التي يعبّر عنها منظر الرجل الذي ينوء تحت ثقل السلة التي يفترض أنها لا تحوي غير الزهور.
ومن الواضح أن الرسّام اهتمّ كثيرا برسم نسيج السلة بهذا الشكل كي يكثف الإحساس بضخامتها وثقلها وبجسامة المهمّة التي تنتظر الرجل.
وأخذا في الاعتبار خلفية ريفيرا الماركسية وإيمانه المطلق بالأفكار الاشتراكية، فإن هناك احتمالا بأنه أراد من خلال هذه اللوحة أن يصوّر معاناة العمال والفقراء الذين يتعبون ويشقون من اجل أن يجلبوا المتعة والسعادة للآخرين، وخاصّة الأثرياء.
كان دييغو ريفيرا يستمدّ مواضيع لوحاته من بيئته المكسيكية الصميمة. لذا اكتسبت أعماله شهرة واسعة وشعبية كبيرة. ويمكن القول إن شهرته هي تجسيد واقعي للفكرة القائلة إن على الفنّان أو المبدع أن يبدأ باستيعاب وتمثّل ثقافته المحلية إذا ما أراد الوصول إلى العالمية.
كان ريفيرا إنسانا متمرّدا وذا طبيعة تصادمية. وقد دفعه حماسة المفرط للأفكار الماركسية أن أعلن ذات مرّة أن الإله قد مات، كما شنّ هجوما عنيفا على المسيحية؛ ما أثار عليه حنق الكثيرين في المكسيك والولايات المتحدة.
وكثيرا ما كان يمجّد لينين ويثني على "مآثره" في لوحاته. وفي إحدى المرّات ُدعي لزيارة أمريكا حيث كلّف برسم لوحة ضخمة لتزيّن بهو مركز روكفيللر. وبعد أن أتمّ اللوحة، اكتشف مسئولو المركز أن ريفيرا ضمّنها صورة لرجل يحمل ملامح لينين. فقرّروا إزالة اللوحة وإعفاء الرسّام من المهمّة.
لكن تظل لوحة "حامل الأزهار" أشهر لوحات ريفيرا وأكثرها انتشارا. وكثيرا ما فسّرت هذه اللوحة من منظور الفكر الاشتراكي الذي كان يعتنقه الرسّام. بعض النقاد، مثلا، ذهبوا إلى أن معاناة الرجل الذي يحاول جاهدا حمل السلّة ليست أكثر من صورة استعارية للعبء الذي تتحمّله الطبقة الكادحة جرّاء خضوعها للرأسمالية الجشعة التي لا تعلم العمّال المهارات اللازمة التي تعينهم على تأدية أعمالهم بكفاءة وإتقان.
ومن الأشياء اللافتة في اللوحة أن العامل، أو لعلّه مزارع، ُأعطي مظهرا مادّيا. فهو يبدو اقرب إلى الآلة أو تمثال الجبس أكثر من كونه إنسانا حقيقيا.
ويلاحظ أيضا أن الرجل يحمل الزهور لكنه لا يراها. وبالنسبة له، فإن الزهور قد لا تنطوي بذاتها على أيّ متعة أو قيمة حقيقية إلا بالقدر الذي يمكنه مبادلتها بسلع أخرى يعتبرها ضرورية ومهمّة أكثر.
العلاقة التي ربطت ريفيرا وفريدا كالو كانت وما تزال موضوعا للعديد من الكتب والأعمال السينمائية. فقد كان الاثنان يتّصفان بغرابة الأطوار والتصرّفات المتقلّبة والجامحة. وكان لكلّ منهما علاقاته الغرامية المتعدّدة، حتى في تلك الفترات التي كانا خلالها متزوّجين من بعضهما.
وعندما اغتيل المنشق السوفياتي ليون تروتسكي في مكسيكوسيتي في أغسطس من عام 1940، تمّ استدعاء الرسّام وزوجته وحقّق معهما باعتبارهما مشتبها بهما. غير انه تمّت تبرئتهما بعد ذلك.
كان تروتسكي معروفا بشخصيته الدافئة وجاذبيته للنساء الجميلات. وكانت فريدا قد بدأت تبادل المنشقّ العجوز شيئا من الاهتمام الذي لم يلبث أن تطوّر إلى علاقة غرامية خلال الأيّام التي سبقت مصرعه مباشرة.
ومن المعروف أن ريفيرا كان من أشدّ المتعاطفين مع تروتسكي الذي عُرف بحبّه للثقافة والفنون. وقد استخدم الرسّام نفوذه لإقناع سلطات بلاده بقبول تروتسكي لاجئا في المكسيك. وعندما وصل هو وزوجته من النرويج، استضافه ريفيرا في منزله لمدّة عامين ورسَمَه في أكثر من لوحة.
وقد قُتل تروتسكي على يد ستاليني مكسيكي متعصّب اقتحم عليه مكتبه ثم قام بتهشيم رأسه بفأس، بناءً على أوامر شخصية من ستالين كما اتضح في ما بعد. وقبيل اغتياله كانت علاقة تروتسكي بـ ريفيرا وزوجته قد ساءت كثيرا لأسباب أيديولوجية في الغالب. لذا لم يبدِ الزوجان أيّ أسف أو ندم على المصير الذي انتهى إليه. بل إن كالو في ما بعد لم تتردّد في نعته باللصّ والجبان في محاولة لاسترضاء الحزب الستاليني المكسيكي الجديد.
وقد راجت في ما بعد شائعة تقول إن فريدا كانت قد تعرّفت على قاتل تروتسكي في باريس قبل أن تسهّل له مهمّة القدوم إلى المكسيك. لكن هذه الأنباء لم تتأكّد أبدا.
كان دييغو ريفيرا بالإضافة إلى موهبته الكبيرة في الرسم زير نساء من نوع خاصّ. ويقال إن طبيبه صارحه ذات مرّة أن الزواج من امرأة واحدة لا يناسب رجلا مثله. ويبدو أن ريفيرا استحسن تلك النصيحة وتقبّلها بفرح قبل أن يطبّقها بحذافيرها. فقد تزوّج في باريس من امرأتين روسيّتين في نفس الوقت وأنجب منهما ابنا وبنتا. كما ربطته علاقة غرامية عابرة مع شقيقة فريدا، وهو الحادث الذي أدّى إلى طلاقه الأوّل من الفنّانة. وهناك عشرات القصص المماثلة التي تتحدّث عن علاقات ريفيرا العاطفية ومغامراته النسائية الكثيرة.
هذا الجانب الخفيف من شخصية الرسّام كان وما يزال يستهوي بعض النقاد الذين أثارت اهتمامهم شخصيّة ريفيرا بصراعاتها وتناقضاتها الكثيرة.
ومن هذه الناحية، لم تكن طبيعة فريدا كالو مختلفة كثيرا. حيث يقال إن قائمة عشّاقها المعلنين كانت تضمّ أكثر من أحد عشر رجلا أشهرهم تروتسكي واندريه بريتون الشاعر السوريالي الفرنسي والنحّات الأمريكي من أصل ياباني ايسامو نوغوتشي .
وقد تعرّضت فريدا في أواخر حياتها إلى حادث سيّارة أدى إلى كسر عمودها الفقري، ثم خضعت لسلسلة من العمليات الجراحية. وبعد ذلك جاءت عملية بتر ساقها اليمنى بمثابة الضربة القاضية التي شلّت حياتها وأسلمتها للعزلة والاكتئاب. وقد اختارت أن تنهي حياتها القصيرة بجرعة زائدة من المورفين وبورقة صغيرة ضمّنتها رغبتها في الانتحار.
شخصية فريدا كالو المثيرة وعلاقتها المتأرجحة بـ ريفيرا كانت موضوعا لأكثر من فيلم سينمائي، أشهرها ذلك الذي لعبت دور البطولة فيه الممثلة سلمى حايك القريبة الشبه بـ فريدا.
أما دييغو ريفيرا فقد أعلن في نهايات حياته قطيعته النهائية مع التروتسكية واللينينية وعودته إلى حظيرة ستالين. وظلّ على ذلك الموقف حتى وفاته في مكسيكوسيتي عام 1957 إثر نوبة قلبية قبل أيّام من احتفاله بعيد ميلاده الثاني والسبعين.
Diego Rivera, The Flower Carrier, 1935
Thursday, April 02, 2009
لوحات عالميـة - 190
طـوف الميـدوســا
للفنان الفرنسـي ثيـودور جيـريكـو
تعتبر هذه اللوحة إحدى أكثر لوحات العصر الرومانسي شهرة وتأثيرا. كما أنها تحتلّ مكانة مهمّة في تاريخ الفنّ الحديث.
وقد استمدّ جيريكو موضوعها من حادثة مأساوية أثارت الكثير من الجدل في حينها.
واللوحة تصوّر غرق السفينة الفرنسية "ميدوسا" وصراع ركّابها اليائس من اجل البقاء.
كانت هذه السفينة قد أبحرت في العام 1816 باتجاه ساحل أفريقيا وعلى متنها حوالي 400 راكب. لكنها ما لبثت أن غرقت بسبب ضعف قيادة طاقمها وثقل وزنها. وفور إدراك الربّان لخطورة الوضع، بادر إلى الفرار والتماس النجاة لنفسه. أمّا الأغنياء وذوو الحظوة ممن كانوا على متن السفينة فقد مُكّنوا من الاستئثار بقوارب النجاة في حين تُرك الباقون كي يواجهوا مصيرهم المحتوم.
وقد اضطرّ من تبقّوا في السفينة إلى صناعة طوف ُربطت أطرافه بالحبال. غير أن ما حدث بعد ذلك كان كابوسا رهيبا دام أسبوعين من العواصف العاتية والصراع الدامي والجنون. إذ اضطرّ الركّاب، مدفوعين بغريزة حبّ البقاء، إلى قتل بعضهم البعض بوحشية، كما دفع الجوع بعضهم إلى أكل لحم من مات من رفاقهم.
ولم ينجُ في نهاية الأمر سوى 15 رجلا توفي منهم خمسة بعد وقت قصير من انتشالهم.
وقد اعتبرت الحادثة فضيحة مدوّية في وقتها. ورأى فيها البعض مثالا آخر على التمييز العنصري المتمثل في تخلّي المجتمع عن مسئوليته تجاه بعض الفئات لمجرّد أنها تنتمي إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا والمحرومة.
وعندما فكّر جيريكو في رسم اللوحة كان في ذهنه أن تكون رسالة سياسية واجتماعية قويّة تنتقد الظلم وتدين غياب العدالة وتحمّل المؤسّسة السياسية والنخب الفاسدة المسئولية الأخلاقية عمّا حدث.
واختار الرسّام من دراما السفينة اللحظة التي رأى فيها الناجون سفينة الإنقاذ وهي تقترب منهم. واعتمد في التفاصيل على ما رواه شهود العيان عن الكارثة.
ويقال انه قضى حوالي العام في التحضير لهذا العمل. فدرس لوحات كبار الرسّامين الذين صوّروا في أعمالهم حوادث غرق مماثلة، مثل ديلاكروا وتيرنر.
كما ذهب إلى المستشفيات ليعاين ثلاجات الموتى ومناظر لمرضى يحتضرون وأطراف مبتورة. فعرف رائحة الموت عن قرب وحاول أن يعيش معه لحظة بلحظة، تماما كما عاشه ركّاب السفينة المنكوبة. كما قام بنصب طوف على الشاطئ كي يدرس اتجاهات الريح وتأثيرات المدّ والجزر.
التفاصيل التي تجذب العين في اللوحة كثيرة. وهذا طبيعي نظرا لضخامتها واتّساع مساحتها.
لكن ربّما كان أوّل ما يلفت الانتباه فيها منظر الرجل الأسمر ذو القوام الفارع، والذي يقف بمواجهة الأفق ملوّحا بالعلم في محاولة للفت اهتمام السفينة العابرة من بعيد.
هذا الجزء من اللوحة يمثل ذروة فخامة المشهد وقوّته الدراميّة. ويظهر أن جيريكو حرص على تضمين لوحته صورة لرجل أفريقي، وهو أمر كان غير مألوف آنذاك، كي يجعله رمزا لوحدة آمال كل البشر على اختلاف ألوانهم وخلفياتهم.
ثم هناك الرجل العجوز الذي يظهر إلى اليسار محتضنا جثة ولده الميّت. في اللوحة أيضا صور لموتى ومحتضرين وأفراد آخرين لا يشغلهم سوى أن يستمرّوا في مقاومة الأمواج على أمل أن تكتب لهم الحياة.
من الأشياء اللافتة الأخرى في اللوحة مهارة الرسّام في تصوير مناظر التدافع والعراك على سطح السفينة أو ما تبقّى منها. وقد استفاد من لوحات مايكل انجيلو وروبنز التي تصوّر عنف الصراع الجسدي، لكي يضفي التعابير المناسبة من إحساس بالرعب والألم واليأس والتوتر على ملامح وهيئات الأشخاص.
في اللوحات المماثلة التي تصوّر مظاهر الصراع مع الطبيعة، جرت العادة أن تُضمّن اللوحة رمزا مقدّسا تكون وظيفته حراسة الضحايا وإشعال جذوة الأمل في نفوس من بقوا على قيد الحياة. غير أن الرسّام فضّل على ما يبدو انتهاك التقاليد الفنية المتوارثة، واختار أن تخلو اللوحة من أيّ وجود لله أو حضور للملائكة أو القدّيسين أو ما شابه. ومن الأمور الأخرى التي لا بدّ وأن تلفت انتباه الناظر في اللوحة براعة جيريكو في تمثيل تأثيرات الضوء والظلّ في ثنايا وتفاصيل هذه الملحمة التي وجد فيها هؤلاء الأشخاص اليائسون أنفسهم واقعين تحت رحمة قوى الطبيعة الجامحة والمدمّرة.
مع مرور السنوات، اكتسبت اللوحة قدرا كبيرا من الأصالة والواقعية. ويقال أن "طوف الميدوسا" من اللوحات القليلة والفخمة التي يجدر بكل زائر لباريس أن يشاهدها في الغرفة المخصّصة لها بمتحف اللوفر.
الجدير بالذكر أن ثيودور جيريكو توفي بعد خمس سنوات من إتمامه اللوحة عن عمر لا يتجاوز الثانية والثلاثين.
Théodore Géricault, The Raft of the Medusa, 1819
Wednesday, March 25, 2009
لوحات عالميـة - 189
تمجيــد الحــرب
للفنان الروسي فاسيلـي فيرتشـاغين
من المؤكّد أن هذه اللوحة ليست مما يسرّ النفس أو يبهج الخاطر. ومع ذلك فهي مشهورة ومألوفة كثيرا. وخلافا لما قد يوحي به العنوان، فإن اللوحة تعتبر صرخة مدوّية بوجه الحرب وإدانة قويّة وبليغة للطبيعة المتوحّشة للحروب وما تجلبه على الإنسانية من ويلات وكوارث.
وجانب من أهميّة اللوحة يتمثّل في أن من رسمها كان جنديا شارك في العديد من المعارك والعمليات العسكرية وشاهَدَ عيانا مآسي الحروب وويلاتها أثناء خدمته في جيش بلاده.
اشتهر فيرتشاغين برسوماته الحربية والعسكرية. وقد كان جنديا لكنه كان بنفس الوقت رسّاما قويّ الملاحظة ومثقفا ذا نزعة إنسانية واضحة.
في اللوحة نرى هرَما من جماجم البشر الذين قتلوا في الحرب. وفي الخلفية أطلال بلدة مدمّرة وبقايا أشجار محترقة أو متفحّمة. وفوق الجماجم المكدّسة وفي ما بينها تتجوّل مجموعة من الغربان والجوارح الجائعة التي تبحث في بقايا العظام عما تسدّ به رمقها.
المشهد صادم وقاس ولا شكّ. لكنه يفتن بجماله المخيف إذا تمعنّا في معناه ومدلوله الفلسفي والأخلاقي.
وقد حرص الرسّام على أن يذيّل اللوحة بعبارة تقول: مهداة إلى جميع الغزاة في الحاضر والماضي وإلى أولئك الذين سيأتون في المستقبل".
كان فيرتشاغين يتبنّى على الدوام موقفا معاديا للحرب. كما كان دائم الانتقاد للساسة وللقادة العسكريين الذين يتحمّلون المسئولية الأخلاقية عن موت الأبرياء من البشر بلا قضيّة أو مبرّر.
وكان الفنّان صريحا جدّا وهو يرسم. فالأبطال الذين يظهرون في لوحاته العنيفة هم من الجنود الروس بملامحهم وأزيائهم وأسلحتهم. وهذا أوقعه في مشاكل كثيرة. إذ اعتبرت لوحاته إدانة صريحة وواضحة للحروب التي كانت تشنّها روسيا. وقد اتهم فيرتشاغين في بعض المرّات من قبل العسكر وقادة الجيش انه بلوحاته لا يخدم سوى الأعداء بتعمّده تشويه صورة الجيش داخل البلاد وخارجها.
بل لقد حظرت الدولة القيصرية جميع رسوماته ومنعتها من النشر أو العرض، حتى بعد أن ذاع اسمه واشتهر خارج روسيا.
كانت الحروب وما تزال موضوعا رائجا في الفنّ والأدب. فالأوّل يقدّم توصيفا شفهيا لها، بينما الثاني يعرض صورة الحرب بطريقة صادمة وأحيانا جذّابة.
وفي العصر الحاضر، راجت الكثير من الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية التي تتحدّث عن "جماليات الحرب" بشكل يتلاعب بالمشاعر ويدغدغ الغرائز. وقد وجدت هذه الأعمال وما تزال الكثير من الشعبية والجاذبية في الكثير من الأوساط. ويفسر البعض إقبال قطاعات معيّنة من الناس عليها بأن دافعه المحافظة على الذات أو التعويض عن ميول عدوانية مكبوتة أو انه محاولة لتعزيز قدرة الفرد على البقاء والتحمّل في أوضاع الصراع. غير أن المال يعتبر عاملا مهمّا. فهناك ساسة وعسكر ومنتجون سينمائيون يتكسّبون من وراء الترويج للقتل وسفك الدماء وتقديم الحرب في قالب مثير ولا يخلو من رومانسية.
رسم فيرتشاغين هذه اللوحة أثناء مشاركته في الحرب الروسية على تركستان وحصار سمرقند في العام 1876م. ومن المرجّح انه استوحى فكرتها من سيرة حياة القائد المغولي تيمورلنك الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي.
وقد شاع عن ذلك القائد انه كان في غزواته الكثيرة لا يغادر قرية أو مدينة مرّ عليها جنده دون أن يشيّد فيها هرَما من جماجم البشر الذين كان يقتلهم في حروبه.
غير أن دلالة اللوحة تمتدّ إلى ما هو ابعد من سياقها التاريخي. حيث أصبحت مع الأيام رمزا لكلّ الحروب التي لا تخلف سوى الموت والخراب.
واللوحة تذكّرنا بلوحات أخرى مماثلة لا تقلّ شهرة مثل معركة انغياري لـ ليوناردو دافنشي والثالث من مايو لـ فرانشيسكو دي غويا ووجه الحرب لـ سلفادور دالي وغورنيكا لـ بابلو بيكاسو. كما يثير شكل اللوحة بعض المقاربات المعاصرة لعلّ أشهرها المذابح التي ارتكبها بول بوت والخمير الحمر في كمبوديا.
بالإضافة إلى لوحاته عن الحرب، ُعني فيرتشاغين بتصوير جور النظام الإقطاعي وجنايته على الفقراء والطبقات المعدمة. كما رسم لوحات أخرى تصوّر طبيعة آسيا الصغرى وتتضمّن مناظر لسهول ومروج وجبال عالية تكلّل قممها الثلوج.
وفي بعض الأوقات دفعه حبّ الاستكشاف للذهاب إلى الهمالايا والهند والتيبت وسوريا وفلسطين. كما زار ميونيخ وباريس التي درس فيها لبعض الوقت على يد ليون جيروم.
وهناك من يقول إن سلسلة لوحاته التي رسمها عن حملة نابليون على روسيا هي التي ألهمت الروائي الكبير ليو تولستوي كتابة روايته المشهورة "الحرب والسلام".
في خريف العام 1904 تلقى فيرتشاغين دعوة من احد أصدقائه القدامى الذي كان يعمل ربّانا لإحدى البوارج الروسية خلال الحرب الروسية اليابانية. وأثناء إبحار البارجة في البحر الأصفر اصطدمت بلغم أدّى إلى غرقها وغرق معظم من كانوا على متنها، بمن فيهم فيرتشاغين وصديقه.
Vasili Vereshchagin, The Apotheosis of War, 1871