هل من اعتراض على الخرق الأميركي للسيادة اللبنانية؟

اسعد ابو خليل
جريدة السفير (لبنان)
السبت، 21 شباط «فبراير» 2004
أسعد أبو خليل

     هكذا، مر مرور الكرام خبر إجراء تحقيق من قبل محققين أميركيين مع موقوف لبناني خاضع للقانون اللبناني على الأرض اللبنانية. يأتي هذا الخبر في سلسلة أخبار لبنانية على مدى السنوات الماضية وفي جملة من الخروقات الاميركية للسيادة اللبنانية. 

وهل يجرؤ اهل الدولة العلية على ارسال وفد لبناني امني لاجراء تحقيقات مع موقوفين لبنانين في السجون الاميركية؟ أقل من ذلك، هل تجرأت الدولة اللبنانية على تكليف محام للدفاع عن اللبنانييْن المحتجزيْن في معتقل “غوانتانامو”، أو حتى للقاء المسجونيْن؟ وهل ستدعو “القرنة” (وهي الحريصة على “السيادة” في لبنان أو هكذا تدعي) أو مجلس المطارنة الموقر الى اجتماع خاص للبحث في مضاعفات الخروقات الاميركية للسيادة اللبنانية؟ 

الجواب يقتضي البحث في طبيعة مسألة السيادة في لبنان. والحق يقال إن السيادة، كمفهوم في القانون الدولي والعلاقات الدولية، ليست مطلقة. فهي نسبية تختلف باختلاف الدولة والمنطقة. وقد تكون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم اليوم التي تتمتع بشبه سيادة مطلقة، وحربها في العراق مؤشر على قدرتها على تجاهل القانون الدولي والاجماع العالمي من أجل السعي الى تحقيق أغراضها بصرف النظر عن مصالح وأهداف معظم دول العالم، وفي هذا أبلغ دليل على مطلق سيادة الدولة الامبراطورية. والسيادة، في القرن العشرين، ترتبط بالقدرات العسكرية ما يفسر قدرة اسرائيل على ضرب مواقع في لبنان وسوريا والعراق وتونس ومصر والاردن وفلسطين طبعاً على امتداد العقود الماضية من دون ان تُردع. وسيادة الدولة تزداد بنسبة معاكسة لسيادة الدولة (أو الدول) المجاورة. أي أن سيادة اسرائيل استفادت، وتستفيد، من ضعف القدرات العسكرية للدول المجاورة، وبالتالي من ضعف سيادتها. كما أن سيادة الدولة، اي دولة، تستفيد من الالحاق ب (أو التحالف مع) سيادة دولة عظمى، كما الحال مع علاقة إسرائيل بأميركا. 

لهذا، فمن حق العرب، لا بل من واجبهم، ان يصروا على حق تملك اسلحة الدمار الشامل لانها تقوي من سيادة دولهم خصوصا أنها معرضة للتهديد الاسرائيلي. طبعا، من الحمق ايلاء مسألة الدفاع عن الوطن أو الحدود، حتى لا نذكر الدفاع عن المواطن (والمواطنة) المقهور (والمقهورة)، لان إحدى علائم فقدان الشرعية السياسية للانظمة العربية (كلها من دون استثناء سواء تلك التي تدعي زوراً الصمود وتلك التي تسلم مفاتيح مخازنها العسكرية الى ممثلي الامبراطورية الاميركية) يكمن في العجز عن الدفاع البديهي عن الوطن وعن الشعارات نفسها التي سوغت عملية الاستيلاء على السلطة من قبل الانظمة هذه. 

في لبنان، يجب تحليل مسألة السيادة بعيدا عن خيال أو مخيلة سعيد عقل الفنتازية الا اذا أردنا ترسيخ الاساطير الرحبانية والتي وجدت طريقها الى الكتب المدرسية وزادت في ضعف الوطن والمواطَنة، وسربت سموم العقيدة الكتائبية الى دروس “التربية الوطنية”. فخلافا لمزاعم دعاة السيادة (الانتقائية)، لبنان كان منذ انشائه اما فاقدا للسيادة أو مالكا للقليل القليل منها. ويمكن عزو بداية تخلخل السيادة في لبنان الى صيغة “الميثاق الوطني” والذي بدلا من أن يبني هوية لبنان على ما هي عليه تاريخيا من معالم وسمات حضارية وسياسية، اختار ان يميع هذه الهوية ويجعلها عرضة لمد عربي وجزر غربي كان (الاخير) في تاريخه المعاصر معاد لتلاقح لبنان مع محيطه الطبيعي. وحتى في “معركة” الاستقلال نفسها، ارتضت الزمرة السياسية الحاكمة أن تفرط في سيادة لبنان حتى في معركة تشكيل الوطن وتكوين الدولة اذ أنها ارتضت طريق اللعب على الخلافات بين بريطانيا وفرنسا لتوفر على نفسها عناء خوض معركة وطنية استقلالية حقيقية على غرار ما جرى في سوريا وفي مصر. 

وفي تاريخ لبنان المعاصر، في مرحلة ما قبل الحرب الاهلية وهي حرب أهلية بامتياز بصرف النظر عن دعاية سياسية مضادة فلبنان كان دوما فاقدا السيادة اذ أن قيادته السياسية ارتضت منذ البداية على لعب دور أساسي (كان أحيانا خفياً وإن بتنا نعلم عنه أكثر بعد نشر وثائق ديبلوماسية في دول قرار غربية وفي اسرائيل) في خدمة مصالح الاستعمار البريطاني ومن ثم في اطار المخطط الاميركي أثناء الحرب الباردة. وكان سلف حماة السيادة الحاليين (من كتائب وأحرار وخلافهم) من أشد من فرط في السيادة عبر ربط لبنان بمشاريع وأحلاف كان معظم اللبنانيين (واللبنانيات) معارضا لها. أخطر من ذلك، فإن حزب الكتائب وغيره دخلوا في أحلاف وارتباطات مع الصهيونية (على حساب مصلحة الوطن والعرب على حد سواء) حتى قبل اعلان الدولة اليهودية على أرض فلسطين. هذه الارتباطات المبكرة كانت أكبر خطر ليس على السيادة فقط بل على عملية بناء الوطن المتعثرة. طبعا، هذا لا ينفي حقيقة فتح أبواب لبنان أمام تدخلات عربية سياسية ومخابراتية خارجية لكن معادلة “الميثاق الوطني” حتمت الاستعانة بالعامل العربي للتخفيف من وطأة السيطرة الاميركية (ومن المصالح الصهيونية)، فكان الناخبان في انتخاب فؤاد شهاب أميركا ومصر، لا الشعب اللبناني. 

واليوم، تتعالى أصوات دعاة الحرص على السيادة لكن لا يتمتع موقفهم هذا بأي مصداقية اذ انهم، أو معظمهم على طريقة سلفهم الطالح يودون التخفيف من النفوذ السوري في لبنان وذلك بهدف تدعيم التدخل الاميركي (وحتى الاسرائيلي عند بعضهم). وهذا الحكم غير مبنٍ على قراءة الغيب لكن هذا جلي اليوم في العملية الواضحة لاستدراج دور اميركي (ما يسمى جورا ب “حروب التحرير”) في لبنان، وفي عدم استنكار الخروق الاميركية الفاضحة للسيادة اللبنانية. وإلا، ماذا يمثل ظهور السفير الاميركي في لبنان على شاشة محطة لبنانية والمطالبة بتخصيص شركة كهرباء لبنان؟ وماذا تمثل زيارة فريق “أمني” اميركي الى منطقة الحدود الجنوبية والاحتجاج الذي تلى الزيارة من قبل عتاة دعاة السيادة، لا على الزيارة الاميركية المسلحة، بل على ظهور مسلح للفريق الذي هو نفسه ساهم بصورة أساسية في عملية تحرير الجنوب، (من دون الانتقاص أو الاستهانة على طريقة الدولة الموقرة بالدور الريادي المقاوم لاحزاب اليسار اللبناني في عمليات المقاومة)؟ وكيف لا تعترض الدولة اللبنانية نفسها على وصم السفير الاميركي لحزب لبناني ممثل في مجلس النواب ب”الارهاب” (لا بل أكد لي السفير اللبناني في واشنطن أن الحكومة اللبنانية لم تقدم اعتراضا رسميا واحدا على تصرفات وتصريحات السفير الأميركي)؟ 

هذا لا ينفي أن لسوريا في لبنان نفوذا واسعا وقويا ويفيد أحيانا جماعات لا قاعدة شعبية لها ما يشوه من حقيقة التمثيل النيابي والسياسي، وإن كان هناك خلاف حقيقي بين اللبنانيين حول الدور السوري في لبنان. ولا يمكن انكار دور سوريا في ترسيخ صيغة طائفية وفي فرض أحزاب وشخصيات معينة في الحكم. طبعا، هناك من يستفيد من الوجود السوري للاستقواء وهناك من يستفيد لللاستيزار، وهناك من يرى في هذا الوجود خدمة للسيادة في لبنان لأن الوجود العسكري السوري يضعف من التدخل والتغلغل الاسرائيلي في شؤون لبنان، وما تشكل المطالبة الاسرائيلية بالانسحاب السوري من لبنان الا دليلا. هذا لا يعني طبعا ان على لبنان تلزيم أمر حمايته الى جيش الجوار، أو أن على لبنان اليأس من امكانية حماية حدوده من بطش اسرائيل. على العكس، فإن الاستعانة بالجيش السوري دليل على افلاس عملية بناء اجماع وطني حول ضرورة بناء جيش يتولى أول ما يتولى، مواجهة اسرائيل والدفاع عن الحدود. والمقاومة المسلحة في جنوب لبنان كان يجب أن تجري على يد عناصر الجيش اللبناني وبصراحة (لا بالخفاء) وذلك ضروري لبناء وطن يختلف عن ذلك الوطن الذي حاول التنصل من مسؤوليات المواجهة مع اسرائيل في مرحلة ما قبل الحرب. والحل الأمثل هو بناء خطة مواجهة مشتركة بين سوريا ولبنان على ألا تكون للخطة أي أي تضاعيف متعلقة بالوضع اللبناني الداخلي خصوصا أن النظام في سوريا ليس مثالا يحتذى، لا في لبنان ولا في سوريا. 

وأخيرا، فإن عنوان السيادة كشعار للمعارضة لا يحجب غايات وأغراضا لا علاقة لها بالسيادة ما دامت المطالبة باستعادة السيادة مطالبة انتقائية، كما كان بشير الجميل يركز في نظرته الى السيادة على الوجود الفلسطيني في لبنان في الوقت الذي كان لا يجد في حلفه الذليل مع اسرائيل تهديدا للسيادة الغالية. وأمر حركة عون المتحالفة مع صهاينة اميركا (على أقل تقدير) مشابه. والحل يكون ببلورة اجماع وطني حول سبل مواجهة اسرائيل، اذ انها تبقى تشكل التهديد الأخطر لسيادة لبنان، مع ضرورة اعادة ترتيب العلاقات مع سوريا على سكة استراتيجية، لا محلية أو استخباراتية. 
 

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا - ستانسلاس واستاذ زائر في جامعة كاليفورنيا - بيركلي

أرسل المقال

أرسل المقال إلى صديق: 

§ وصـلات:

Main Page
 
 

    
Home - English Contact Us Bint Jbeil Guide Opinions Bint Jbeil E-mail Bint Jbeil News Home -  Arabic