ونفضت يدي من الشغل بعدما نطقت بعبارتها المتعجرفة .. اذهب لغسل يديك قبل أن تبدأ العمل.. تركت لها الباب الذي نزعته من إطاره وغادرت .. بعد أن قلت لها أني نجار ولست طباخ تخاف على طعامها من قذارة يديه.
يتثاءبون جميعا زوجة هرمة وسبعة أبناء رجال ونساء وست وعشرون حفيدا لا يجمعهم في حجرة واحدة إلا يوم عيد أو إفطار بأحد أيام رمضان.. ليتمتم الحفيد الذي لم يتجاوز الخامسة بعد: حكيت لنا هذه الحكاية مائة مرة يا جدي..
تغيم نظراته للحظات .. حقا ؟!!.. إذن فلتعلم أني لم أقل لها أني نجار ولست طباخ.. كان كل ما فعلت أني نفضت يدي من العمل .. لملمت عدتي .. وانصرفت صامتا .
*** **** ***
ذهبت كثير من متع الحياة بعد أن قبض على حافة الثمانين بأصابعه النحيلة المهزوزة، فان سألته أيها بقي لشردت عينيه قليلا في تفاصيل وجهك إلا عينيك وتمتم: عندما أجتمع بهم جميعا على طعام..
لن تسأله من هم، ستشعر من طريقة نطقه للكلمات بأنه يتحدث عما لا يليق بك أن تجهله وستفضل ألا تخيب ظنه في فطنتك، قد يستمر جهلك المتواري حتى النهاية.. إلا إذا دعتك صدفة إلى مائدة طعامه يوم عيد أو موسم، حينها وعند جلوسك وسط هذا العدد الضخم من الأبناء والأحفاد ، سينتابك شعور مختلف .. غامض ..ضبابي.. مخبوء في ذاكرتك الموروثة من زمن أسلاف مندثرين.. حين كانت القوة في العدد، والدفيء لا يطلب إلا من أجساد البشر.
يختلس النظرات إلى بناته الخمس ، غريب أن تلحظ الخجل في ابن الثمانين، تسلل البياض إلى رؤوس ثلاثة منهن.. بعد طول اعتياد يستطيع أن يتجاهل الزمن قليلا لينتقي اللحظة التي يفضل أن يراها مرة أخرى ، يراهن وقد عقصت ضفائرهن للخلف واسترسلت على ظهورهن ، ذاهبات معه إلى الري ليلا ، يساعدهن على النزول من على العربة الخشبية ، وينزع عن جسده الجلباب المشرب بطين الأرض ومائها ليعطي الماكينة بعض جرعات الماء قبل أن يديرها .. بتحط ف المكنة ميه ليه يابا؟! .. ينظر إلى صغراهن ويبتسم لدهشة المشاهدة الأولى ويتمتم بصوت يعلم أنها لن تسمعه وسط ضجيج الماكينة : عشان متشرقش .. هاشوف الميه واصلة آخر الأرض ولا لأ ..
يتركهن لوجلهن الخجل من الظهور ويذهب ، دقائق وتشير إحداهن إلى الجانب الآخر من الترعة ، حيث تظهر كتلة من اللهب تبتعد حتى آخر مدى أبصارهن لتقترب ثانية الى حافة الترعة ، تهمس كبراهن للأخريات: أبوشعليلة .
يثبتن للحظات قبل أن تنطلق صرخاتهن الفزعة في نفس اللحظة : يابا .. يستمر ذعرهن طوال ساعات دقائق قضاها هو بعيدا عنهن حتى تصيح أصغرهن: يابا .. يابا يابن الكلب ... مصحوبة بانهمار دموعها.
- بتضحك على ايه ؟! ..
ينزع نظراته عنهن الى طبق الطعام ليكمل ابتسامته قائلا : مفيش.. . أنا قايم أريح ف المندرة شوية ..
يلتفتون إليه باستغراب من رأى أحدهم يبعث دفينا من قبره : المندرة راحت وراحت أيامها مع الدار القديمة يابه ..
يثبت في مكانه للحظات ثم يشيح بيده في ضجر ، متمتما بعدد متلاحق من العبارات لم يلتقطوا أولها فلم يبذلوا جهدا في تتبع آخرها ، ليسود الصمت بعد انصرافه للحظات قبل أن يصلهم صوته عاليا من الغرفة المجاورة مخاطبا زوجته أمهم : لو أبوكي خليل عدا ابقي صحيني .
عندما يخلط أحدهم بين عالمي الأموات والأحياء يوقنون زوال الفاصل.. يقولون أن الميت يظل ضيفا على الأحياء أربعين ليلة حينها.. يكون فيها جثة تمشي على الأرض تودع الأحباب والأماكن ، وتعيد ما انقطع من الود بينها وبين من سبقوها إلى القبر ، هكذا لقنوهم صغارا وتشربت بها نفوسهم كبارا مع كل عزيز يفقد ، لذلك عندما أتى ذكر الشيخ خليل جده ، وتحدث عنه كما لو كان قائما بينهم جزعوا عليه وتذكروا من فقدوا من الأحبة .. لانت العيون بغرغرة الدمع، وسكن التوجس النفوس كلما عوى كلب أو تعالى نهيق حمار أو حتى أذن الديك فجرا.
ومرت الليلة حد تمام الأربعين فهدأ الجزع حتى أدركوا أن الليلة الأربعين قد ذهبت ولكن ما أثار هواجسهم لم يذهب معها ، يستيقظ فجرا كما يفعل منذ أربعين دورة للفصول ليتردد صوته في أرجاء المنزل الساكن أثناء اتجاهه للوضوء : الله .. الله.. الله...
أصبحوا يفزعون من صيحته تلك ليلا .. أصبحت عالية .. مجلجلة.. يتردد صداها في أرجاء المنزل الواسع .. توقظهم فزعين من نومهم .. ليعودوا إليه ضجرين ، بخطواته الهادئة يدخل ليجد الجميع قد اتخذوا أماكنهم على مائدة الإفطار: أخوك متخربش ليه يا إسماعيل ؟! .. مش هاتبطل قساوة ...
يلتفت إسماعيل إلى أخيه في وجوم متمتما بصوت خافت: أبوك عقله خف يا عابد.
****** **** ******
تتذاوب لحظاته ويذهب ملله وضجره حتى ليأنس بهمس الريح تحمل السكينة لتتخلل بها مسامه – يلاحظون جلسته المستكينة الثابتة لساعات دون أن يطرف له جفن – يهيم بعينيه في دروب حواف متصلة من اللحظات فيدرك من غاب عنه بالموت ويرى أبناؤه كل منهم جنينا ورضيعا وطفلا وغلاما وفتى وشابا ورجلا في ذات اللحظة ॥ يرقص قلبه لبسمة فدوى جنينه تتقافز من حولها سعاد وخديجة وشهد وكوثر .. تطفر عينيه بالدموع بعدها بلحظات لبكاء إسماعيل طفلا ممزق الملابس وشكواه من تكالب أطفال الحارة عليه.. تمتلئ نفسه بالرضا عندما ينظر إلى عابد مراقبا نفسه في ذات اللحظة بالركن الأقصى من الغرفة يشكو إلى الله شفقته على إسماعيل من أن يتحمل وحده هم البنات الخمس – لم يجدوا آخر الأمر تجنبا لخلطه ونسيانه أمام الأغراب إلا أن يجنبوه لقياهم ما استطاعوا – يدرك الأذان يتردد آتيا من كل الجهات فلا يدري له مصدرا ، وكلما التقطته خلايا جسده استجاب له – يرقبونه يصلي الظهر حينا ثلاث مرات وحينا خمس وحينا يصلي المغرب مرتين ، وقد يأتي يوم يليه لا يصلي فيه إلا فرضا واحدا – وحين ناجته الظلمة وأخبرته أنها نور خجل مستتر ، وألف التراب ورأى فيه ما رأى ، وتلاشت الألوان وتداخلت لتشكل أثير واحد ، واختلطت دموعه بابتسامته ، علم أن عليه أن يحث الخطو .. ففعل