خالد الصاوى والنبوة... فى "نبي بلا أتباع"

النبى والنبوة
كيف أجن؟
كى ألمس نبض الكون المختل
هكذا تسأل الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور, وهكذا أعلن الكون مكاناً مختلاً لا يفهمه إلا المختلين... وهكذا أيضاً تنطلق نبوة خالد الصاوى فى ديوانه "نبى بلا أتباع."
فى هذا الديوان يتحول الصاوى إلى نبى... رسالته الحب والجمال والحرية, واَيته الشعر, ومنهجه الجنون, ووحيه وحدته, وزاده الاَمه. والقارىء لأعمال خالد الصاوى السابقة يعرف أن مطالب كالحرية والحب والجمال ليست بجديدة عليه ولا بغريبة على إنتاجه الأدبى, فالطالما كان باحثاً عن الحرية بجميع أشكالها, منقباً عن الحب باختلاف ألوانه, مفتشاً عن الجمال فى كل الأشياء... ما كبر ومنها وما صغر. ومن هذا الديوان تبدأ الرسالة ويبايع الصاوى نفسه نبياً. وتظهر- كالعادة- روح التمرد المجنون طاغية على الديوان, فالشاعر أدرك- كصلاح عبد الصبور- عشوائية واختلال الكون ويظهر ذلك واضحاً فى "قصائد فى فنجان" التى تتمحور حول خداع الحياة وتهاويها... نحن نخدع بعضنا البعض, نخدع مبادئنا, مشاعرنا تخدعنا ونخدعها, حتى أعضائنا تخدعنا. لذلك أتخذ الشاعر من الجنون منهجاً وأسلوباً لمجابهة تلك الحياة المجنونة, فيشذ عن ناموسها ليستقيم أمرها وينبذ مألوفها ليألف غريبها ويضحى بحياته ليحيا ضحاياها.
والمعروف أن لأى نبى أتباع يؤيدونه وينصرونه على من يرفضه, ولكن الشاعر اختار أن يكون وحيداً, وكأن تلك الوحدة هى مصدر قوته. فالصراع هنا ليس صراع بشرى قائم على اختلاف فى القيم أو المبادىء أو العقائد, وأنما هو صراع مع الحياة ككل! لذلك نجد أن الشاعر أحياناً يتجاوز وجوده المادى ليصبح النبى داخل كل إنسان... الضمير الحى وروح الإله داخل كل منا:
أرقد فيكم.. أنهض فيكم..
أعطيكم تجربة الإِحياءِ.. أريكم روح الأشياءِ.. الخلق.. الخالق..
كيف تكون الزهرة فى أيديكم وتراها عين العقلِ..
تُشَمُّ بأنف القلبِ.. تُلَوَّن ثانية فيكم
تتشكل فى واديكم طفلاً.. طيراً.. وجه امرأةٍ..
أعطيكم لون أمانيكم..
ومما يؤكد ذلك هو تحرر النبؤة من حدود الزمان والمكان وقيود الماديات وتنقلها فى فضاءات الماضى والحاضر والمستقبل. فتارة يعود الشاعر إلى الماضى ويستحضر مواقف من التاريخ الفرعونى والجاهلى والإسلامى والمسيحى والرومانى. وتارة يجوب بنا فى أحداث الحاضر أو غيابات المستقبل ليتنبأ بمصير مظلم. واللافت للنظر هنا هو طريقة استعراض الصاوى لمثل تلك المشاهد الزمانية. فهذه المواقف حقيقية (الماضى والحاضر منها بالطبع) وحدثت بالفعل ولكنه يراها من وجهة نظره... وفى كل مرة, يكون هو شخصاً من أشخاص الموقف, يرصد الحقائق بعينيه ويربطها بخيط شفاف- لكن قوى- بواقعه. فهو الشاعر الجاهلى والقس المصرى والإمبراطور الرومانى فى الماضى, وهو المناضل الفلسطينى فى الحاضر, وهو الشاعر المنبوذ فى المستقبل. اجتمعت كل هذه الشخصيات لترسم الملامح اللازمكانية للنبؤة.

حروف وألوان ودم... وأشياء أخرى
يستخدم الصاوى الكثير من العناصر الخارجية (كائنات حية وأشياء جامدة ذات دلالات مختلفة) للتعبير عن مشاعره, واستطاع أن يضفى عليها الحياة ويبث فيها الروح فأصبحت شخصيات لها دور درامى فى مسرح خيال الشاعر. وفى أحيان كثيرة تتماثل تلك العناصر مع شخصية الشاعر فتتخلى عن دلالاتها وتصبح هى الشاعر نفسه مثل الفراء فى قصيدة "مذكرات فراء" والأسد فى قصيدة "الحصار."
"حروف متحركة" هى واحدة من أجمل قصائد الديوان والتى لعبت فيها الحروف دور البطولة. وهنا يظهر إبداع الصاوى وقدرته على توظيف أبسط الأشياء فى قصائده وتحويلها إلى عناصر مؤثرة نابضة بالحياة. ففى تلك القصيدة تحولت الحروف من مجرد حروف مبنى إلى حروف معنى ... فأصبح كل حرف يعبر عن كينونة مستقلة بذاتها وحالة شعورية مختلفة بتتمثل فى صوت هذا الحرف وتأثيره على الشاعر, تماماً مثل الألوان فى قصيدة "دائرة الألوان" حيث يعبر كل لون عن حالة نفسية بتداعياتها الشعورية.
وقد يلاحظ القارىء كثرة استخدام الصاوى للدم كعنصر أساسي وبطل رئيسى فى هذا الديوان حيث تتعدد صوره وتختلف دلالاته, فالدم بلونه الأحمر هو الموت والحياة والحرب والانتقام والخلاص والعذرية والحب. كما أنه أفرد له قصيدة اسماها "قانون الدم"... فقانون الدم هو قانون الحياة... الدنيا من الميلاد إلى الموت, وما بينهما من حب وصراع ونصر وهزيمة وأمل ويأس.
ومن الجدير بالذكر أن القصائد المكتوبة فى قسم "حفريات" قد ألفها الشاعر وهو دون العشرين عاماً, مما يدل على موهبة مبكرة وخيال فذ.

النبى يحب
أجمل ما فى نبوة الصاوى أن الحب جزء لا يتجزأ منها. فالشاعر يربط الحب بكل شىْ... بأكثر لحظاته سعادة, وأكثرها حزناً.. بالسلم والحرب.. بالنصر والهزيمة.. بالحياة ككل! وكثيراً ما يختلط وصفه للحياة بوصفه للمرأة... فالمرأة هى تلك الغاوية الجميلة المتقلبة... تماماً كالحياة:
فرجعت لأكتبَ قصتَها البنتِ السيدةِ الحالمةِ النعسانة
الابنةِ والأختِ.. الزهرةِ والقاتلةِ الفتَّانة
النطفةِ والقيثارةِ والثرثارةِ والنشوى النشوانة
القبلةِ والتفاحةِ واللدغةِ والطعنةِ والزنزانة
وتتكرر تلك الصورة فى الديوان, ويصبح الشاعر هو الرجل الفانى الذى يريد أن يغرز نطفته فى الحياة قبل أن يموت.
أما عن الصور الجنسية المستخدمة فهى ذات طابع أسطورى بدائى يحمل القارىء على اكتشاف سحر الغريزة الأولى وغموض بدء الخليقة, وتتشابك خطوط تلك الصور راسمة لوحة أبدية لاَدم وحواء.

التطهر من النبوة!
يأتى الجزء الأخير للديوان- "تطهر"- بشكل مفاجىء وصادم للقارىء بما يحمله من مشاعر يأس طاغية. فبعد أن شارك القارىء الشاعر فى نبوته منذ بدايتها وما مر به من تمرد هادف وغضب نبيل ولحظات من الشك واليقين, يفاجأ بإعصار من اليأس المدمر المحموم, بجانب السخرية والتهكم والخلط المتعمد للمفاهيم, ويعلن الصاوى فى "نشيد الختام":
كنت نبياً.. دون رسالة
دون وصايـا..
كنت نبياً.. ثم فقدتُ كتــاب الدينْ!
وكأن تلك النبوة قد أجهضت وهى فى رحم الفكرة وحكم عليها بالبطلان قبل بدايتها. كما أن اختيار اسم "تطهر" لاَخر مجموعة من قصائد الديوان تجعل النبؤة وكأنها أكذوبة وخداع ووهم يريد الشاعر أن يتطهر منه!.... تلك النهاية تترك القارىء مثقلاً بالهموم واليأس, وتقضى على ما حملته القصائد الأخرى من إقدام وعزم.

دراما وتنوع
من أساليب الصاوى المميزة هو خلطه للخيالى بالواقعى. وهذا الخلط فى "نبى بلا أتباع" أضاف حيوية على النصوص بسبب الجمع بين العناصر الزمانية والمكانية والشخوصية المتابينة فى موضع واحد, فأضاف على القصائد عنصرى المفاجأة والدهشة. وضاعف من هذا الأثر الدرامى استخدام الجمل الحوارية على لسان الشاعر أو الشخصيات مما يعطى المواقف طابعاً مسرحياً جذاباً. وتلعب ذات الشاعر دوراً مهماً فى الديوان, فأوقاتاً يتحدث الشاعر عن نفسه بضمير المتكلم- وأن أخفى هويتها- وأوقاتاً أخرى يتحادث معها بضمير المخاطب- خاصة حين يحثها على التمرد ونفض الذل وعدم الخضوع- ويدخل فى حوار ملتهب معها.
يلاحظ القارىء أيضاً كثرة الجمل الإعتراضية. والجمل الإعتراضية جاءت لتعبر عن التداعى الفكرى للشاعر مما أضفى على القصائد نوعاً من المصارحة والتلقائية والمصداقية, ولكن أحياناً أخرى كان الهدف منها الإمعان فى الوصف الذى طغى على جمال الجملة الشعرية.
اختيار الصاوى للغة كان موفقاً للغاية, حيث إنه استخدم لغة لدنة تتشكل حسب مضمون القصيدة وهويتها. فكما سلف الذكر يحتوى الديوان على قصائد عديدة تجوب فضاءات مواقف من الماضى والمستقبل والحاضر وتعرض ألواناً مختلفة من المشاعر, فمثلاً نجد بعض القصائد تحمل طابع الشعر الجاهلى, وأخرى تحمل الطابع القراَنى وأخرى الطابع الإنجيلى وهكذا. هذا بجانب الإحالة إلى سور من القراّن الكريم وأبيات من الشعر العربى القديم- لأبى فراس الحمدانى وامرىء القيس على سبيل المثال- كما تنوعت أشكال القصائد أيضاً بين عمودى وتفعيلى ونثرى لنفس السبب السابق.

ختام
وسواء نجحت النبوة أم بأت بالفشل, وسواء لاقى النبى حتفه شهيداً أم رجيماً... يظل ديوان "نبى بلا أتباع" خبرة شعورية وشعرية تستحق التقدير والاهتمام, وتضع خالد الصاوى فى مصاف الشعراء المبدعين.

منال شلبي
12\10\2009