أغسطس 2008


 اقرأ أولا:

المجتمع الإسلامي المشوه (1/3)

المجتمع الإسلامي المشوه (2/3)

قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه : ” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ” . فإذا كان هذا قول الخليفة في وقت لم تكن فيه الدولة تملك من وسائل التأثير على الناس ولا مثقال ذرة مما أصبحت تملكه الدولة الآن من وسائل إعلام ، ومؤسسات تنفيذية تستطيع انتظام حياة الناس فيما يشبه النظام الآلي ، وبحيث يصبح الخروج من هذه المنظومة – إن أمكن – خروجا على القانون وعلى الشرعية وعلى النظام .. فما بالنا بما يمكن أن تفعل هذه السلطة في حياة الناس ؟

ولم نسأل ؟ وقد عشنا لنرى ما تستطيع الدولة أن تفعله بسطوتها ، حتى ليمكن أن يُدعم الفساد بل الإلحاد من بيت مال المسلمين ، وتستطيع صناعة القوانين التي تجعل الحرام بالاتفاق كالربا منظومة اقتصادية تحمى بقوة السلطان وتتحكم بحياة الناس .. بل رأينا كيف أن “الدول الإسلامية” في هذه الأيام تحاصر المجاهدين وتمنع عنهم الغذاء والدواء ليس إلا خدمة لليهود والصليبيين .. والإطالة في رصد الكوارث التي سببها انحراف الدولة في العصر الحديث ليس مجديا فالكل يرى والكل يعلم .

وإذن .. فكيف يكون طريق الإصلاح ؟

وهل يمكن استلهام نفس الطرق ونفس الأساليب ، ونفس الاجتهادات الفقهية “لعلماء قرون ما قبل الدولة المركزية” – إن صح التعبير – في صياغة أحكام واجتهادات لما بعد وجود هذه الدولة ؟

وإذان .. لدينا مجتمع إسلامي مشوه ، حائر بين انتمائه الإسلامي العميق ، لكن ضغط الواقع بمنظوماته الحديدية يجعل التناقضات والتشوهات ظاهرة للعيان ، ويجعل من التلفيق بين هذا الانتماء وبين الاستجابة لضغوط الواقع أمرا حتميا .. فإذا حاولنا أن نتفهم مصدر كل هذه الحيرة ومن أين تأتي ضغوط الواقع فلن نجد إلا هذا الشئ الذي ظهر منذ ثلاثة قرون فقط “الدولة المركزية” .. ومن أسف أنها ظهرت في وقت وافق تخلفنا ونكبتنا وانتقال القيادة من بين أيدينا إلى الغرب – العدو التاريخي للشرق – فكان ان استغلها الغرب كما يفعل كل عدو فوضعنا تحت حمايته وتهديد بوارجه في عصر الاستعمار ، ثم تحت حكم عملائه وصنائعه من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا ، ولكن قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس .

والأمة التي صنعت حضارتها بنفسها وبجهودها الشعبية وقت أن كانت الدولة قوية أو ضعيفة ، لا تستطيع الآن أن تنهض أبدا ، فحكامها أول من يستعد لضربها وإن لم يفعلوا طواعية فعلوا بأمر الأسياد . بل حتى المشروعات الاقتصادية التي لا تدور في فلك الغرب ويخشى منها على مصالح الدول الكبرى ( أو الوسطاء والمحتكرين في الدول الصغرى ) لا تتردد الجهات صاحبة المصلحة في تصفيتها .

فأي أمل يبقى في طريق النهوض الشعبي ، أو في محاولة إصلاح المجتمع من داخله ؟

هل حان الآن لمراجعة قاعدة الإمام البنا – رحمه الله – حول ” الفرد المسلم ، ثم البيت المسلم ، ثم المجتمع المسلم ، ثم الحكومة المسلمة … ” ؟ هل نستطيع في ظل هذه الدولة المركزية أن يصنع “المجتمع المسلم” حكومة مسلمة ؟
وهذا لو وصلنا بالأساس إلى هذا “المجتمع المسلم” ، المجتمع الذي يستطيع أن يدافع عن الإسلام باعتبارها قضيته هو ومصيره هو .. فهل يمكن الوصول لمرحلة المجتمع المسلم وفوق الجميع دولة مركزية تملك وسائل التأثير وقوة القانون ، فضلا عن وحشية الاستبداد وشراسة القمع ؟ .. وهي بما تملك من وسائل استطاعت أن تصل بنا إلى مرحلة المجتمع المسلم المشوه ، والذي أبسط ما فيه تلفيق الفتاة بين حجابها والموضة ، وأبشع مافيه أن يعجز الملايين عن كسر الحصار عن أشقاء لهم يموتون جوعا ومرضا أمام أعينهم .

( بالمناسبة : لا يوجد دليل واحد على أن الإمام البنا اعتمد على طريقة المجتمع وحده في هذا التغيير ، وإنما تبني هذه القاعدة وحدها من بين كل كلامه ومواقفه أمر اضطرت إليه الحركة الإسلامية لكي تدفع عن نفسها تهمة العنف ، وتؤكد اعتمادها الأسلوب السلمي في التغيير ، ولكن .. من يرضى ؟ )

وهل يدلنا أحد على نجاح هذه النظرية ( البيت المسلم الذي سيؤدي إلى المجتمع المسلم والذي سيؤدي إلى الحكومة المسلمة ) في أي تجربة من تجارب الشعوب في العصر الحديث تحت سلطان الدولة المركزية ؟ .. ربما استقر بنا المطاف إلى العكس تماما ، فإن الحكومة الباطشة تستطيع تسويق فكرها بإعلامها وسلطانها فتصنع مجتمعا على نمطها وله صبغتها ، والمجتمع بدوره يصبغ هذا على البيوت والأسر .

صدق أحد الدعاة إذ قال : كنا نظن – في السبعينات – أن الجيل القادم هو جيل النصر والتمكين ، فإذ بنا نجد أن الخلل تسرب إلى أبناء هذا الجيل نفسه . هذا هو عين ماحدث فعلا ، والحركات الإسلامية باختلاف أطيافها فوجئت هي نفسها بأن أبناءها يتفلتون منها ويدخل إليهم فساد المجتمع المحيط فبدل أن يكونوا جيل النصر والتمكين كانوا مرحلة أخرى في تعثر المسيرة الإسلامية ، ومن وحي الواقع أستطيع أن أقرر أن أكثر العناصر الفاعلة في الحركات الإسلامية ليسوا هم أبناء الإسلاميون القدامى بل هم العناصر التي أتت من خارج بيوت الإسلاميين .

والخلاصة في هذه النقطة أن البيوت المسلمة لم تصنع مجتمعا مسلما ، بقدر ما صنعت المجتمعات المشوهة بيوتا مشوهة .. ولا يمنع هذا أن الصحوة الإسلامية في انتشار ، لكنه أيضا انتشار يشوبه التشوه الفكري أو الأخلاقي كما ذكرنا من قبل .

وأوضح منه أن المجتمعات المسلمة لم تصل إلى الحكومات المسلمة أبدا ، رغم أنه لا ينافس الإسلام شئ ولا فكرة ولا أحد في أرض العرب والمسلمين ، وأي انتخابات (شبه) نزيهة تجعل الإسلاميين في المراكز الأولى ، وقد أصبح هذا من الحقائق التي يعرفها كل أحد .. وكل إنتاج المجتمع المسلم في سياق الحكومة المسلمة تمثل في ثلاث حالات لا رابع لها :

1) وصول للحكم عبر انتخابات نزيهة في بلاد غير مؤثرة أو لايمكن أن تهدد أمن القوى الكبرى ( تركيا مثلا )
2) وصول لجزء من الحكم في دول ملكية إما غير مؤثرة وإما مؤثرة لكن السلطات كلها تتجمع في يد الملك أو الأمير والحكومة كلها كزينة المجلس ( الكويت / المغرب / الأردن … )
3) وصول للحكم في ظرف استثنائي وبخطأ في الحسابات الدولية ( حماس في فلسطين )

وباقي البلاد ، ورغم الصحوة الإسلامية فيها لا تخطئها العين ، إلا أن الإسلاميين في السجون أو في المنافي أو لا توجد انتخابات ولا فرصة ليعبر الناس اختياراتهم .

أما إن وصل الإسلاميون للسلطة بالشكل السلمي ولم يكونوا واحدا من الحالات السابقة فلا مناص من ضربهم وتصفيتهم ( بداية من عدنان مندريس وحتى أربكان في تركيا ، مرورا بباكستان ، وحتى تجربة الجزائر ) .. ولا أوضح من تجربة حماس التي تنحت الآن في الصخر أسطورتها الفريدة . وتكتب في نفس الوقت قصة شعب عظيم يعض على الألم والجراح ويصبر على الجوع والخوف ولا يعطي الدنية في دينه ولا في وطنه .

إن تجربة حماس تنبئنا متى يمكن أن يعتمد الإسلاميون على المجتمع وعلى الشعب ، فإن الشعب الفلسطيني البطل  لم يكن ليمكنه أن يضع حماس في الحكم ، لكنه يستطيع – وسائر شعوبنا العربية والمسلمة – أن يقف بكل قواه خلف حماس حين تصل للحكم ولو مات جوعا وألما .

وكذا تجربة حزب الله ، تستطيع أن تجد المراة العجوز تقف على أطلال بيتها أو على جثة وليدها وتقول : هذا فداء المقاومة والسيد حسن ، لكن لا يستطيع كل جمهور حزب الله على امتداد العالم العربي والإسلامي أن يضعوه في السلطة ، أو أن ينزعوا من السلطة أمثال السنيورة وجعجع وجنبلاط .

وكلا التجربتين – حماس وحزب الله – اضطرتا أن تستخدما سلاح المقاومة في الداخل ، وبه وحده تم تطهير غزة والوصول لحل المشكلة الللبنانية التي تعبت فيها الأقلام والكتب والوفود والبعوث حتى لقد أهلك عمرو موسى أحذيته جميعا دون حل !!

الشاهد : هل يمكن للمجتمع الإسلامي أن يصنع الحكومة المسلمة ؟ وإذا لم يكن صنعها ، غالبا ، وقت أن كانت الدولة بسيطة التأثير والنفوذ ، فهل يستطيع هذا بعد أن صارت الدولة متغولة ومتوحشة إلى هذا الحد ؟

أو دعونا نصوغ السؤال بشكل أكثر “تطرفا” : هل يصنع المجتمع المسلم حكومة مسلمة ؟ أم تصنع الحكومة المسلمة مجتمعا مسلما ؟

ودعونا نختم بهذا الجزء من السيرة لعله يعطينا عبرة .

لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم إقامة المجتمع المسلم في مكة ، وقد ” حاول الرسول – صلى الله عليه وسلم – جاهدا أن يقنع أهل مكة بأن قبولهم للحق لن يحرمهم ذرة من الخير الذي متعوا به ، فأبى الظالمون إلا كفورا ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .

ومن هنا اشتبك سادة مكة  في حرب مع الإسلام ، اعتبروها دفاعا عن كيانهم المادي ووضعهم الاقتصادي إلى جانب ما هنالك من عوامل أخرى ” (1)

ولم يستطع النبي إقامة لا المجتمع المسلم ولا الدولة المسلمة في مكة برغم أنه أقام البيت المسلم .

بينما تفسر السيدة عائشة كيف هيأ الله المدينة لرسوله ، بمعركة بعاث التي أكلت رؤوس القبيلتين الكبريين في المدينة الأوس والخزرج ولم يبق من الكبار أحد إلا عبد الله بن سلول . تقول : ” كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا ، قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام “(2)

فإلى متى تحب الحركات الإسلامية ان تظل أسيرة المرحلة المكية ؟

———————
(1) فقه السيرة للشيخ الغزالي ص 111 . ط دار الشروق
(2) رواه البخاري

 اقرأ أولا: المجتمع الإسلامي المشوه (1/3)

اختلاف في غاية الخطورة حدث ما بين العصور الإسلامية والعصر الحديث ، اختلاف ترتبت عليه نتائج في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة ، وأحسب أن الاجتهاد الإسلامي لم يواكبه بالقدر الكافي .. لقد نشأت الدولة المركزية ، ثم .. جاءت العولمة ودخلنا في عصر هيمنة القطب الواحد .

واستأذن القارئ الكريم وأرجو أن يصبر معي لقراءة هذا الاقتباس من كتاب العلم الكبير د. محمد عمارة في كتابه ( هل الإسلام هو الحل ؟ لماذا وكيف ) فبه سيتضح الفارق الضخم والتأثير الخطير . قال د. عمارة – باختصار وتصرف - :

” في التطور الحضاري لأمتنا الإسلامية هناك معادلة غير مفهومة لدى كثيرين ، تتمثل في التوفيق بين الانحراف المبكر للدولة الإسلامية عن الشورى وانتقال الخلافة إلى الملك العضوض ، وكذا انحراف الدولة في كثير من فتراتها عن العدل الاجتماعي ، وبين بناء وازدهار الحضارة الإسلامية كأعظم حضارات التاريخ الإنساني في ظل هذا الانحراف .. تلك هي المعادلة التي يخطئ في فهمها وحلها الكثيرون فيظلمون تاريخنا الحضاري .

وهذا الموقف الخاطئ نتج من إغفال حقيقتين هامتين من حقائق التاريخ الحضاري لأمتنا الإسلامية :

1- أن نطاق الدولة وآفاق تأثيراتها في ذلك التاريخ القديم لم يكن على النحو القائم الآن في الدولة الحديثة ، فنطاق الدولة الحديثة يكاد ألا يدع في الحياة ميدانا ولا مجالا إلا ومد إليه شمولية تأثيراتها وبصمات مؤسساتها .. الأمر الذي يجعل من انحراف الدولة الحديثة طامة كبرى تحول بين أتها وبين تحقيق أي نهوض .. حتى اعتبرها جمال الدين الأفغاني ” فرعونية جديدة ” لا يرى الناس إلا ما ترى . فقال : لا يصلح في الشرق “كما تكونوا يولى عليكم” ، ولكن : ” كما يولى عليكم تكونون ” .

ولم يكن هكذا تأثير الدولة فيما مضى حتى لقد حدد معاوية بن أبي سفيان نطاق تأثير الدولة عندما قال : ” لن نمنع الناس ألسنتهم ما خلوا بيننا وبين أمرنا ” .. فعندحدود استقرار عرش السلطان تبدأ قبضة الدولة في التراخي وينفتح المجال أمام الحقيقة الثانية .

2- أن الأمة .. ومؤسساتها الأهلية وجهودها الطوعية وأعمالها الخيرية وعلماءها ومجاهديها ومذاهبها وتياراتها الفكرية والتي ظلت خارج نطاق هيمنة الدولة ، فلم تعطل الانحرافات ( في نظام الدولة ) طاقات الخلق والإبداع فيها .. إن الأمة ومؤسساتها هي التي أبدعت حضارة الإسلام .. كانت الدولة تقود الفتوحات لكن الأمة هي التي كانت تنشر العربية وعلوم الإسلام بل كان الفتح والجهاد نفسه صناعة الأمة التي تقوم بها المؤسسات الطوعية .

فالأمة هي التي صنعت الحضارة ورعتها وطورتها ، وهي قد استطاعت ذلك رغم انحراف الدولة لأن نطاق الدولة وتأثرات انحرافاتها كان محدودا “(1)

هذا – باختصار – هو المؤثر الخطير الذي جد في التاريخ الإنساني والإسلامي خصوصا فقلب كثيرا من الموازين .. وجود الدولة المركزية التي أصبحت فرعونية جديدة – كما قال موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني – والتي يمتد تأثيرها من خلال مؤسساتها إلى غرف النوم وداخل تلافيف العقول .. ولهذا فإن انحراف هذه الدولة الشمولية يكون انحرافا كارثيا وخطيرا وذا تأثير مدمر .

لقد استطاعت الأمة في التاريخ الإسلامي أن تتحرك بحرية في مجال البناء وصناعة الحضارة ، وكان نظام الوقف الإسلامي يعد الأسلوب الفريد الذي تميزت به الأمة في تمويل حضارتها بنفسها دون أن تحتاج إلى الدولة كنظام سياسي ، ودون أن يؤثر ضعف الدولة سياسيا على انهيار الأمة ثقافيا وحضاريا ، فحتى في عصر الحروب الصليبية وقد وقعت الأمة تحت تسلط الصليبيين لضعف النظام السياسي كانت الأمة هي الأرفع شأنا حضاريا حتى وهي مهزومة ومنها تعلم الصليبيون بعض الحضارة وارتفعوا عن التوحش الذي قدموا به من أوروبا حيث عصر الظلمات عندهم .

وإدراك هذا سيفسر لنا كثيرا من الاجتهادات الفقهية ، خصوصا أراء العلماء التي ترى عدم الخروج على السلطان الجائر والصبر عليه طالما أنه يقيم الصلاة ويسمح بإقامتها ، ويفسر لنا كذلك كيف أن كثيرا من علماء السنة يرون الصبر على الحاكم مهما جار وظلم إلا أن يكفر فإنهم يجمعون حينها على أنه ينعزل بالكفر إجماعا .

هذا الاجتهاد الذي يبدو متناقضا ، تحمل وصبر ثم مزيد من التحمل والصبر ومزيد من النصح والتحمل والصبر ، فإذا كفر فعلى كل مسلم أن يخرج ويبذل وسعه لخلع وعزل هذا الحاكم .. هذا الاجتهاد لا يفسره إلا أن هذا العصر كانت الأمة وعلماءها يملكون أن ينتقلوا في وقت بسيط إلى مرحلة الثورة بما يملكون من مكانة ومن قدرة يدعمها تمويل ذاتي من مؤسسات الوقف حيث لا يأخذون رواتبهم من الدولة ،  وحيث هم وسيلة الإعلام الأقوى والأكثر فعالية بين الناس .

وسأتوسع بإذن الله في هذه النقطة عند إكمال سلسلة ( علماء السلطة وعملاء الشرطة ) ، لكن ما يهم في هذا المقام هو أن وجود الدولة المركزية ضرب مقومات الأمة ونقاط فعاليتها ومراكز تأثيرها في مقتل ، وخطف كل هذه العناصر لصالح الدولة .. وأبرز مثال هو ما حل بالعلماء والقيادات الشعبية للأمة .. وفي هذا المثال يقارن الدكتور عمارة بين عمر مكرم القائد المصري الشعبي الذي ضمنت له مؤسسة الأوقاف حريته واستقلاله عن الدولة حتى لا يستطيع الوالي جمع ضريبة من الشعب إلا إذا باركها السيد ( أي عمر مكرم ) ، وبين رفاعة الطهطاوي والذي برغم مكانته كان المثقف الموظف الذي إذا أنجز العمل الفكري أو الترجمة أعطاه الوالي مكافأة وأوسمة .

وهنا انتهت ثنائية الدولة والأمة التي كانت عبر العصور لتصبح الدولة هي كل شئ ، وهذا ما جر علينا النكبات لأن الدولة إذا انهزمت انهزمت معها الأمة ، ويحلل جلال كشك رحمه الله في كتابه ( ودخلت الخيل الأزهر ) فيقارن بين الحملة الفرنسية التي لم تستقر يوما في مصر برغم هزيمة المماليك أمام الفرنسيين لأن الأمة كانت حية تولت قيادة الجهاد ، بينما بعد حوالي مائة عام أتى الإنجليز فاحتلوا مصر فاستطاعوا أن يقيموا فيها سبعين سنة ، لأن الأمة والدولة انهزمتا معا بهزيمة جيش الدولة وفشل ثورة عرابي .

وفي إطار هذا التحليل ، الدولة المركزية التي ضربت الأمة ، يحدد جلال كشك أربع ( في كتابه : الناصريون قادمون ) محطات فارقة هي : ضربة محمد علي ، الاحتلال الإنجليزي ، ضربة عبد الناصر لمؤسسات المجتمع المدني ، ضربة مبارك لشركات توظيف الأموال .. هذه هي المحطات التي بدا في كل منها أن الأمة على وشك إيجاد الحل لصناعة المجتمع المدني أو مجتمع البورجوازية الصناعية لتستمر النكبة ويطول أمدها .

وإذا أحببنا أن نركز على الحالة المصرية ، فسنجد أن المصريين منذ قديم شعب تستقر معه نظام الدول لانعدام وجود العصائب والقبليات التي هي أكبر من الدلة حتى يقول ابن خلدون في هذا ” الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها ويكون سلطانها وازعا لقلة الهرج والانتقاض ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيات كأن لم يكن الشام معدنا لهم ( أي للقبليات والعصبيات ) كما قلناه فمُلك مصر في غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب إنما هو سلطان ورعية ودولتها قائمة “(2)

فإذا أضفنا إلى ظهور الدولة المركزية ، ظهور العولمة وهيمنة القطب الواحد ، ثم سيطرة هذا القطب على حكام المنطقة العربية بالذات حتى أصبح الواحد فيهم يتفانى في الخدمة ولو لم يطلب منه ، وهو يفعل ويحكم ويسيطر بحكم سيطرته على مؤسسات الدولة جميعا ( حتى الجمعيات الأهلية والخيرية ) .. فهل يمكن أن نتخيل إلى أي حد يمكن أن يصل انحراف الدولة التي ابتلعت الأمة ، وبالتالي إلى أحد يمكن أن يكون الانحراف كارثيا ومدمرا وفارقا في مسيرة الأمة نحو نهوضها ؟؟؟

————————–
(1) انظر : هل الإسلام هو الحل . د. محمد عمارة . ص 110، 111 . ط2 . دار الشروق . 1418 هـ ، 1998 م
(2) انظر : مقدمة ابن خلدون (1/207) ط. دار الفكر ، بيروت . 1421هـ / 2001 م

اقرأ: المجتمع الإسلامي المشوه (3/3)

لقد صنعت الحركات الإسلامية بناءا عظيما حقا ، فالبناء الدعوي الذي أقيم في المجتمعات الإسلامية بدأ دائما من الداخل من قلب هذه المجتمعات ، وبدأ دائما بجهود فردية لم يدفعها إلا إيمانها بالإسلام ورغبتها في تبدل حال المسلمين من الذل والانكسار إلى العزة والنصر .

لم تكن الحركات الإسلامية إلا نبع محتمعاتها ، فلم تكن امتدادات لمشروعات دولية أو إقليمية ، وإن حاولت بعض القوى احتواء وتوظيف الحركات الإسلامية وفي الأعم لم تنجح في هذا ، ولم تتلق الحركات الإسلامية دعما من الخارج أو ماوراء الخارج .. هي نبت طبيعي كانت قوانين الطبيعة تهيئ لإنباته ، فالبذرة الإيمانية موجودة ، والبيئة الخصبة موجودة ، وحوادث الزمان تدفعها للظهور والنماء.

واستطاعت الحركات الإسلامية بإخلاص قادتها وبصفاء ونقاوة معدن الجماهير المسلمة أن تكسر قاعدة الشاعر الذي قال :

متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم .

فرغم كثيرة الهادمين ، وبرغم أنهم طغاة جبارين متوحشين ، لم يدخروا جهدا ولا وقتا ولا طاقة في حرب الإسلام حربا لم تعرف الأخلاق إليها سبيلا ، إلا أن الصحوة الإسلامية اكتسبت مساحات واسعة في عقول وقلوب الجماهير المسلمة ، وصار الإسلام في هذه البلاد وبين تلك الجماهير الخيار الأول وريما الوحيد ، وأي انتخابات شبه نزيهة تحمل الإسلاميين مباشرة إلى المراكز الأولى .

وأنه إذا كنا نفهم أن البنيان لا يمكن أن يستقيم ويعلو إذا كان ألف يبنونه وراءهم هادم واحد يدمر ما بنوا ، فكيف إذا كان الذي يبني واحد والذي يهدم ألفا ؟ .. بهذا نعرف عبقرية البناء الإسلامي وعمق تجذره وقوته في بيئئته الإسلامية .

ولكن الإنصاف يقتضي أن نقول إن البنيان لم يبلغ تمامه ، وأن مجتمعاتنا المسلمة تقع اليوم في موقف حرج ، بما يجعلها غير مكتملة “الإسلامية” كما أنها ليست بعيدة عنه .. ربما يصح أن نطلق عليها “المجتمع الإسلامي المشوه” .

ويتبدى هذا التشوه في مجالين كبيرين : تشوه أخلاقي وتشوه فكري .

فأما التشوه الأخلاقي فهو الذي لا أحسب أحدا ينكره ، كموضات الحجاب التي تعبر عن رغبة أصيلة وقوية في الالتزام بالحجاب باعتباره انتماءا إسلاميا ، أو حتى باعتباره ضغطا مجتمعيا ، فإذا كان الفتاة تلبسه لمجرد شعورها بأن المجتمع لا يقبل أن الفتاة المسلمة غير محجبة ، فهذا دليل على هوية المجتمع وطبية انتماءاته واختياراته .. لكن الضغط الإباحي القادم من طوفان وسائل الإعلام لا يجعل الأمر خالصا ، وهو ضغط قوي هادر ولا تقارن قوته وسطوته أبدا بما يملكه التيار الإسلامي من وسائل إعلام قليلة العدد ضعيفة الإمكانيات في عمومها .. وهنا كان لابد من التوفيق أو التلفيق ، فظهرت أنواع الحجاب التي تمثل التأثر بالإعلام المنحل وتياره الهادر والتي وإن عبرت عن رغبة إسلامية عميقة فإنها لا تتفق بالمطلق مع الإسلام .

يمكنك كذلك أن نجد موظفا حريصا على الصلاة ، لكن ضغط الأحوال المالية عليه تجعله يقبل الرشوة او حتى يطلبها ، ويختلق لنفسه المعاذير ، أو لا يعتبر إنهاء مصالح الناس مهمة إسلامية كبرى تفوق قيمة صلاة السنة وإنهاء أذكار ما بعد الصلاة .

وكثير من الشباب الذي يعمر المساجد في رمضان ويبكي بكل إخلاص ، هو من المدخنين ، وكثير من المدخنين يتجاوز هذا إلى المخدرات .. وقد تجد ذا معدن طيب لا يبالي هل يأكل من الحلال أو مما فيه شبهة ، ولم يعد سرا أن أغلب قيادات الدولة الكبار خصوصا ضباط الأمن هم أعضاء مخلصون في بعض الطرق الصوفية ، حتى إن مشايخ الطرق الصوفية في مصر الآن هم أفضل من يمكن أن يتوسط لطالب العمل ويضعه في عمل مرموق ، هو نفس الضابط الذي يمارس التعذيب في باقي اليوم .

ومظاهر التناقضات كثيرة ، وكلنا يستشعرها ، ولا ينكرها أحد .. وليس من الحكمة أن نقف أمام هذه التناقضات فلا نفعل إلا أن ننعي الأمة والناس ولا نحسن إلا أن نلطم الخدود ونشق الجيوب ونشتم الزمان والمكان والأحوال .

إنها وإن كانت مظاهر سيئة وتعبر عن أمراض عارضة أو مستوطنة ، إلا أنها في المنظور الإيجابي تعبر عن انتماء إسلامي عميق ، يبحث دائما تحت ضغط الواقع والظروف لكي يتكيف ويتأقلم ويتوافق مع شهوات النفس وأغراضها ومشاكلها .. وحسبنا أن نبني على هذا الانتماء فننميه ونعظمه .

أما التشوه الفكري ، فقد يختلف البعض حوله .

فلاشك أن كثرة الجماعات العاملة للإسلام على الساحة دليل لا يقبل الشك على تجذر الانتماء الإسلامي في النفوس ، غير أنه حينما نجد كثيرا من تلك الجماعات تركت مالقيصر لقيصر وانشغلت هي بما لله فقط ، ثم قصرت ماهو لله على شعائر ظاهرية وبعض الأعمال الخيرية فقط .. فحينئذ يجب أن تكون وقفة .

وحين نرى بعض هذه التيارات تنسحب من معارك الواقع الكبرى لتنشغل بقضايا فرعية أو هامشية ، أو غير مطروحة في هذا الزمان والمكان فتفرغ في هذه القضايا جهد وطاقة رموزها وشبابها .. فيجب أن تكون وقفة .

ثم إذا رأينا أن بعض التيارات تستخدمها السلطات ، وإن كان على غير علم وقصد منها ، في شرعنة ظلمها وجورها واستبدادها وإلباسه ثوب الإسلام وحشره في أحكام الشريعة ، حتى يصبح الحاكم مهما كفر هو “ولي الأمر ” ويصبح قائل الحق عند السلطان الجائر من “الخوارج” بدل أن يكون “سيد الشهداء” .. فهنا يجب أن تكون وقفات ووقفات ووقفات .

وخلاصة ماسبق ، أن لدينا انتماءا إسلاميا محذوفا من القوة الإسلامية على الساحة ، بل ربما وُظّف ضد الصحوة نفسها ، وليس بعيدا أن الأمر وصل لمراحل كارثية حين أفتى أحدهم بأن بشرعية اغتيال إسماعيل هنية لأنه خارج على ولي الأمر الشرعي محمود عباس !!

ويجب أن نبحث لفك هذه العقدة التي تضغط على هذا المجتمع الإسلامي فتجعله مشوها ، فهو مابين انتمائه الإسلامي وما بين ضعط الواقع الرهيب .

اقرأ:

المجتمع الإسلامي المشوه (2/3)

المجتمع الإسلامي المشوه (3/3)

نشرت الدستور 9/7/2008 عنوانا عريضا : ” السلفيون يزحفون ويسيطرون .. وسيحكمون . محمد حسان وحسين يعقوب في مواجهة عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح .. من ينتصر ؟ ” ، والعنوان كما هو واضح يحب إشعال معركة ولو لم تكن مشتعلة .. ولا سبيل لحسن الظن في كاتبه .
فإن اختياره لأسماء مثل محمد حسان وحسين يعقوب لم يكن موفقا أبدا في صناعة المعركة ، وقرينة واضحة بأنه لا يعرف تركيبة أطياف التيار السلفي .

فالشيخ حسان هو أكثر مشايخ السلفيين تقريبا بين التيارات المختلفة ، ولا يخوض أبدا أبدا في الخلافات بين الحركات الإسلامية ثم أحد الجسور المتينة التي يجتمع عليها الشباب الإسلامي من مختلف الأطياف باستثناء المتتطرفين في كل تيار .. بل وله مواد صوتية يصرح فيها بلا لبس بأنه “لا فرق بين الشاب في الدعوة والتبليغ وأخيه في الإخوان وأخيه في الدعوة السلفية وأخيه في الجماعة الإسلامية “.. وحينما أثنى مرة على سيد قطب ( أحد الرموز الإسلامية الكبرى في مواجهة الطغاة ) فانتقده بعض متطرفي التيارات السلفية المتشددة أصدر مادة صوتية بعنوان ” إلى غلاة التجريح ” ، ودافع فيها عن سيد قطب واستدل بفتاوى اللجنة العلمية الدائمة في المملكة العربية السعودية ( وهي المرجع العلمي الأول المعتمد للتيار السلفي ) التي أثنت فيها على سيد قطب ، وبكلام للشيخ المحدث ناصر الدين الألباني .

ثم هو لايدخل نفسه في مساجلات ونقاشات أبدا ضد الجماعات الإسلامية أو رموزها ، فلن تجد الشيخ حسان مرة يهاجم القرضاوي أو الغزالي أو الشعراوي أو يسيئ إلى أحد منهم ، برغم ما هو معروف من الاختلاف الواسع في الاختيارات الفقهية بين هؤلاء العلماء وبين التيار السلفي .. بل على العكس ، أثنى على الشعراوي في مقدمة تفسيره للقرآن وقد يستدل بشعر للقرضاوي في خطبه وأحاديثه .. لذا فإن اختيار هذا الاسم تحديدا كان جهلا ( إن أحسنا الظن ) أو لغرض إن لم نحسن الظن .

والشيخ محمد حسين يعقوب ، إنجازه الأكبر في الأمور الروحانية والرقائق ، ولا يتكلم كثيرا في الفقه ولا في السياسة ولا في توجهات الحركات الإسلامية وتقييمها ، وإلى ما قبل ظهور عمرو خالد كانت شرائط الشيخ يعقوب هي المصدر الروحاني لشباب الإخوان ، إذ لم يتميز في هذا الجانب أحد مثله بين المصريين في هذه الفترة . إلا الدكتور عمر عبد الكافي الذي كانت الدولة تمارس معه حربا فكانت شرائطه غير منتشرة كشرائط الشيخ يعقوب .

والغريب أن كاتب العنوان نسي أن يذكر الشيخ أبا إسحاق الحويني ، وهو من بين الثلاثة من يهتم بالتعليق على فتاوى القرضاوي مهاجما لها ، وعلى توجهات الإخوان ناقدا ومستنكرا ، ولذا فإن بينه وبين شباب الإخوان بعض أمور في الصدور ، غير أن هذا لا يمنع المهتمين بالعلم من شباب الإخوان من الاستماع له ( ورايت هذا بعيني كثيرا ) ، خصوصا وأن الرجل يسد فراغا في تبسيط علم الحديث ولا يوجد شيخ إخواني متخصص في علم الحديث مشتهر وله إصدارات كالشيخ أبي إسحاق .

أخفق العنوان كذلك حين اختار في الجانب الإخواني الدكتور عصام العريان ، فالدكتور عصام وإن كان يصنف إعلاميا على أنه من التيار المنفتح إلا أن ثقافته الشرعية فهو حاصل على كلية أصول الدين لا تجعل أحدا يستطيع أن يمسك عليه شذوذا فقهيا ، وحواراته هي أفضل ما يمكن أن يتعلم منها من يريد أن يجمع بين الذكاء السياسي والانضباط الشرعي ودبلوماسية الحوار .

أستطيع أن أقرر بأن النجاح الوحيد في الاختيار كان لاسم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ، فهو يقول ما يحب العلمانيون سماعه ولا يهتم بالتحديد والتوضيح ، كما يفعل د. العريان ، وتصريحاته تثير عاصفة داخل صفوف الإسلاميين جميعا بما فيهم شباب الإخوان ، وأكبرها أثرا ما فعلته تصريحاته في زيارة نجيب محفوظ أواسط 2006 ، حيث قال كلاما لم يتقبله لا شباب الإخوان ولا شيوخهم ، وكان أكثر من ثار عليه شباب الإخوان أنفسهم في منتدى : ملتقى الإخوان المسلمين . ربما هذا هو الاسم الوحيد الذي يمكن أن يسهم في صناعة المعركة .

غير أن المعركة الحقيقية لها جوانب اخرى خفية قد لا ينتبه لها غير الإسلاميين ، فالتيار السلفي تيار كبير كثير التنوع ومتعدد الأطياف ، ومنه تيارات تبنتها أو صنعتها السلطات في السعودية أولا ، ثم مصر فيما بعد لتستغلها فعلا في ضرب الإخوان أو ضرب أي معارضة ، وإسباغ الصبغة الشرعية على الحاكم “ولي الأمر” وضد جميع المعارضين “الخوارج وأصحاب الفتن والمتحزبين ” .. أبرز هذا التيار هو ذلك المعروف باسم التيار الجامي ، وابرز منظري هذا التيار هو ربيع بن هادي المدخلي الذي ألف كتابا كفر فيه سيد قطب ، وآخر كفر فيه جماعة الإخوان جميعها واعتبرها أشد على المسلمين من اليهود والنصارى . وهذا التيار يرفض وجود أي تجمعات إسلامية ويسميها بالتحزب والتفرق ، وهو الذي تستخدمه السلطات لحرب المعارضة وخصوصا المعارضة الإسلامية .

وتكمن أحد أوجه المشكلة في أن الشباب السلفي في مجملهم شباب مخلص متعطش للعلم وهو ناتج بيئته المليئة بالإحباطات ، وهو لا يدرك كثيرا من الفوارق بين تيارات السلفية نفسها ، فقد تجد – وهذا كثير جدا – شابا سلفيا يخطب ويهاجم الجماعات ويهاجم التحزب و”يدين لله” بأن جماعة الإخوان – مثلا – ضالة مضلة مبتدعة .. وهو يعتبر أن الشيخ حسان ويعقوب والحويني هم شيوخه الكبار وهم علماء العصر الذين يمثلون المرجعية التي يجب أن يؤخذ منها العلم في هذه الأيام .

فعامة شباب السلفيين بهذا الأسلوب ، طلاب علم مبتدئون ، يشغلهم كثيرا أمور مثل اللحية والنقاب والإسبال والموسيقى ، ومع التقدم قليلا يشغلهم الأسماء والصفات ومباحث تنقية العقيدة .. وهذه الأمور جميعها يجمع عليها التيار السلفي بمختلف أطيافه ( إلا تفاصيل دقيقة ) .

ولم يعد سرا أن الدولة تستخدم هذا التيار الجامي ، والذي يستخدم بدوره الشباب السلفي المخلص غير المتمكن في العلم الشرعي ، في التركيز على “الخطايا والأخطاء الشرعية ” للجماعات الإسلامية الأخرى والمقصود بها طبعا – في حالة مصر تحديدا – هم الإخوان .. وقد نشبت بعض احتكاكات بين طلاب السلفيين والإخوان في بعض الجامعات بعد محاولة الأمن استخدامهم ضد الإخوان ، ثم إني رأيت بعيني شيخا يدعى محمد سعيد رسلان في المنوفية والرجل لا هم له إلا الإمساك بأخطاء الإخوان على المنبر وفي الخطب والدروس ، ثم عرفت من صديق إخواني كان يعذب في أمن الدولة بالمنوفية أنه رأى الشيخ رسلان في ضيافة أمن الدولة بعينيه .. وليس هذا غريبا علي لأن المسجد الذي كنت أصلي فيه كان يقوم عليه أحد صبيان الشيخ رسلان ، وهذا الصبي / الشيخ ، كانت خطب الجمعة عنده منشورا من منشورات الحزب الوطني : ضد الإخوان / ضد القضاة / ضد الاعتصام / ضد الإضراب لكنه مزخرف باللباس الشرعي .

ولابد أن نذكر أن هذا التيار الجامي بينه وبين السلفيين أنفسهم ماصنع الحداد ، وهذا ما لا يكتشفه الشباب السلفي غير المتمكن من العلم الشرعي ، فالشيخ بكر أبو زيد رحمه الله عنف ربيع بن هادي المدخلي تعنيفا لاذعا في ما كتبه بشأن سيد قطب ( بل ويلمح إلى أن هذا المكتوب ليس من كتابة ربيع المدخلي نفسه ) ، والشيخ حسان في نظر الجاميين ليس من أهل السنة والجماعة بل ولديه خلل في العقيدة والولاء والبراء كما أنه مبتدع ( وما بالك بكلمة مبتدع عند السلفيين ) ، وكذا الشيخ أبو إسحاق فهو عند بعضهم جهمي … إلخ

ووجه آخر للمعركة بين السلفيين والإخوان هو مع المدرسة السلفية بالأسكندرية ، وأشهر رموزها الشيخ إسماعيل المقدم والشيخ ياسر برهامي ، وهي مدرسة كما يقول الشيخ برهامي ” تنشغل بالسياسة ولا تشتغل بها ” ، وحيث أن هذا هو حال المدرسة مع السياسة فلايد أن نتخيل صورة القاعد الذي ينتقد العاملين ، وهو عاجز عن العمل ، وينتظر أن تمطر عليه السماء الظرف المناسب لكي ينتقل من الانشغال إلى الاشتغال .. ولانشغال هذه المدرسة بالسياسة فهي محظور عليها العمل الإعلامي كالظهور في الفضائيات مثلا مما يجعل شهرة رموزها مقتصرة على الإسلاميين والمتابعين للحالة الإسلامية ، بما لا يجعل المعركة هناك منظورة لغير هؤلاء .

وإذا تركنا تفاصيل اللحظة والمكان وابتعدنا لنأخذ دورة “بانورامية ” إن صح التعبير .. فأزعم أننا نرى الآتي :

1) الإخوان ليسوا في معركة مع السلفيين وهم أصلا لا ينشغلون بهذا ويرفعون شعارهم الرائع ” نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ” .

2) الشباب السلفي قوة كبيرة محذوفة من معركة التغيير ، ودخولها لساحة العمل والسياسة يغير موازين القوة الإسلامية أمام الدولة الباطشة ويعجل بإصلاح الأمور .. وهذا الحذف تتحمله اجتهادات من أفتوا دون علم أو بالهوى ، وهم ليسوا مأجورين دائما .. بل المأجور هم أهل الاجتهاد فقط ، وقد قال النبي عمن أفتى دون علم ” قتلوه قتلهم الله ”

3) الإخوان كانوا خط هجوم للسلفيين ، فلو أن ساحة السياسة خلت من التدافع الإسلامي ، فلم يكن المعادون للحالة الإسلامية ليتركوا السلفيين مرتاحين في مساجدهم ، وقد قال الله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) لا حتى تترك السياسة .. ودليل ذلك أن الدول التي ضعف فيها الإخوان يعاني فيها السلفيون والمسلمون جميعا في إقامة الفروض كتونس التي يمنع فيها الحجاب وتهان فيها المحجبات ، وحيث لا تقام فيها صلاة الجماعة حتى لا يتعطل الإنتاج وحيث يمنع الطلاق وتعدد الزوجات .. إلخ .. وليبيا التي تقيم أبوابا إليكترونية على أبواب المساجد وتعطي للمصلين بطاقات ممغنطة للدخول إلى الصلاة ويراقب فيها المحافظون على الصلاة في المسجد .

4) والسلفيون كانوا خط دفاع للإخوان ، وقوة وسندا في ظهرهم ، يمنعهم من التنازل أو المناورة إن أجبروا على ما لا يستطيعون ، وتعطيهم الحالة الإسلامية التي يثريها السلفيون وباقي الحركات الإسلامية ، الشرعية للحديث بأن هذه الدولة مسلمة وشعبها لا يسمح أن ينتهك الإسلام فيها ، كما أن الإخوان يستفيدون جماهيريا من هذه الحالة الإسلامية في نشاطهم وفعالياتهم حتى غير السياسي منها .. وقد ساند السلفيون في كثير من المناطق الإخوان في الانتخابات عامي 2000 و 2005 بتوجيه من رموز سلفية رأت أن المصلحة الآن تقتضي الوقوف مع من يؤمن بتحكيم الشريعة .

5) السلفيون يقتربون كل يوم ليكونوا مع الإخوان ، أو ليبدأوا حيث انتهى الإخوان .. والنامذج التقريبية مثل الشيخ حسان والشيخ محمود المصري دلائل لهذا ، وخروجهم من المساجد إلى الفضائيات عدل كثيرا من لهجتهم ونظرتهم وطريقتهم ، وقناة كقناة الرحمة خير دليل على هذا التحول والذي بدا ليدخل عالم السياسة من خلال بعض البرامج مثل برنامج مدير التحرير .

6) والإخوان بحاجة إلى مشروع أو إلى قيادة يعيد تجميع وتفعيل التنظيم الكبير “النائم” أو “المتثاقل” .. وإذا كانت الظروف قد تعطي أحيانا المشروع الذي يثير النار في الرماد ( كانتخابات شبه نزيهة ) فليس معقولا أن تنتظر قيادة الإخوان أن تمطر عليهم الظروف كل يوم مشروعا ، لابد أن يأخذوا زمام المبادرة ويعيدوا بعث أنفسهم من جديد .

هذا .. والله أعلم .

11/7/2008

في يوليو أو أغسطس 2006 ( لا أذكر تحديدا ) استضاف الإعلامي الفذ أحمد منصور الخبير الاستراتيجي الليبي د. محمود جبريل ليحلل حرب يوليو 2006 بين إسرائيل وحزب الله ، فكان أول ما بدأ به ، فيما معناه فأنا أكتب من الذاكرة ، أن قال : ” إن خطابنا التحليلي العربي تعود على الهزائم المتكررة فلم يعد قادرا على تحليل النصر ” .. ثم مضى يحلل النصر التاريخي الاستراتيجي الذي حققه حزب الله على إسرائيل .

بمجرد أن بدأت حرب حزب الله وإسرائيل كان “عالم المفكرين والمثقفين” إلا “المتطرفون” منهم يلقون بالائمة على حزب الله ، وكان “أفضلهم” من قال : إن حزب الله أخطا في التوقيت . دون أن يقول واحد منهم فقط فيفيد ويريح ويستريح : كيف يمكن تحرير الأرض المحتلة واسترداد الأسرى ؟ أو ما هو الوقت المناسب الذي يحدده حضرة المفكر الألمعي لكي يقوم فيه حزب الله بشن العملية ( والتي لم يكن متوقعا أنها ستؤدي إلى حرب ) ؟

على أية حال .. انتصر حزب الله ، وفي الوقت الذي تعترف فيه إسرائيل نفسها بالهزيمة بدءا بالصحافة وانتهاء بلجنة فينوغراد ، والإرباك الذي حدث فأطاح بوزير الدفاع ورئيس الأركان وكاد أن يطيح بأولمرت في انتخابات مبكرة .. إلا أن “محللي ومفكري وخبراء” العالم العربي – إلا “المتطرفون” منهم – كانوا يشككون في هذا النصر ويحللونه بألفاظ غير ذات معنى ، لا تسمن ولا تغني من جوع ، وبعبارت في السياسة تشبه أدب ما بعد الحداثة العبثي الفارغ في الأدب .

وحيث أن حزب الله قوة لها محاضن دولية ( إيران وسوريا ) وتملك أرضا حقيقية .. فإن الأيام تثبت نصرها بسرعة ، ولم يمض عامان إلا وكان حزب الله يستعيد الأسرى ويتسلم “معسكر الاعتدال / الاحتلال العربي ” صفعة قوية .

لكن الأمر سيختلف في حالة حركة المقاومة الإسلامية حماس .. تلك الحركة العظيمة المباركة والتي تكتب تاريخا مجيدا لأمة تعيش عصر نكبتها .

إن أبشع ما فعلته “فضيلة النقد الذاتي” أنها سددت لحماس طعنات في الظهر ، فصرنا نقرأ حتى من بعض الإسلاميين كلاما عن حماس التي أخطأت .. والتي وقعت في الفخ الذي نصبته لها أمريكا .. والتي كانت متسرعة حين قامت بالحسم العسكري .. والتي تساهم في الانقسام الفلسطيني الداخلي .. والتي انشغلت بصراعها مع فتح على حساب صراعها مع العدو … إلخ .

وبعض ما كتب يثير الاشمئزاز ويبعث على التقزز ، وأكثر منه اشمئزازا أن يصدر هذا الكلام عن بعض الإسلاميين ممن صاروا لا يجيدون إلا ” فضيلة النقد الذاتي ” .

فحماس ، رغم مسيرة إبداعها العجيبة حقا ، يتصورها البعض ممن ليس له إنجاز إلا التنظير مجرد حركة عمياء لا تفهم في السياسة ولا تعرفها .. ليس منهم أحد توقع أن تبقى حماس في السلطة فوق مساندة شعبية لا مثيل لها في زرائب العالم العربي إلى ما بعد فوزها في الانتخابات بأكثر من ثلاث سنوات .. وأنا لا أجد حرجا من الإعلان أني شامت في كل من نظر لأن حماس لن تبقى كثيرا في السلطة لأن “توازنات القوى” لا تسمح بهذا .. شامت إلى أبعد حد .

وهم جميعا ، كما قال د. محمود جبريل ، غير مؤهلين لتحليل الانتصارات بعد أن تعودوا على الهزائم والنكبات .. فلم يطرح لنا أحد إجابة مقنعة عن سؤال : ماذا كان أمام حماس إلا أن تدخل في الانتخابات التشريعية ؟ ماذا كان بوسعهم أن يفعلوا إلا أن يدخلوها ؟ وقد أصبحت المعلومات الآن على قارعة الطريق ، أو قل قارعة الانترنت ، فلا يكفي إلا ضغطة زر لتستعيد أرشيف الأخبار وتفهم الأجواء المصاحبة لذلك الاختيار .

مات عرفات ، إلى الجحيم مع إخوانه الطغاة إن شاء الله ، وأتى من هو ألين منه وأطوع ، أتى رجل يرى أن حتى إلقاء الحجر هو مقاومة عنيفة لا داعي لها ، وإذا كان من حسنة لعرفات فهو أن كان يعرف كيف يجعجع ويتكلم – نادرا – بقوة فإن هذا الخلف لا يحب أصلا إلا أن يمارس القبلات والأحضان .

كانت الأمور تسير نحو تصفية القضية تماما ، سيزع سلاح المقاومة استجابة للشروط على وعد بأن يبدأ متاهة المفاوضات من جديد ، ولكنها مفاوضات يمكن أن نفرط فيها بالقدس ونبحث عن “حلول خلاقة” لمشكلة اللاجئين ، ونتفاهم حول قضية الحدود من خلال تبادل أراضي .. وهكذا .

وليس هذا من قبيل سوء الظن ، بل هذا ما يفعله محمود عباس الآن فعلا في الضفة الغربية المحتلة وهو لا يستخفي ولا يخجل ولا يداري .. وإذن فقد كانت مسألة دخول الانتخابات لتمثيل معارضة قوية تحاول السيطرة على مسار التهاوي واجبا تاريخيا مفروضا على حركات المقاومة وفي القلب منها حماس .

ولو كانت حماس قد قاطعت الانتخابات فانفردت بها فتح ، لكان محمود عباس الآن رئيسا شرعيا منتخبا ولديه حكومة شوعية منتخبة ، كلهم من عبيد السلام المهين ، وسيكونون بهذا قد أخذوا تفويضا من الشعب الفلسطيني – هكذا سيقولون – على برنامجهم المهين الساعي للسلام والرافض لعسكرة الانتفاضة .

وحينئذ لن ترحم الأجهزة الأمنية الفتحاوية وعلى رأسها الكلب المعروف باسم محمد دحلان أحدا ، فلا حق لأحد في مقاوة إسرائيل ، وسيتم ضرب المقاومة باسم الشعب الذي فازت فتح بثقته ..

إنه من الغريب أن يضطر أحد لكتابة هذا الكلام والذي هو حقيقة كعين الشمس ، فالذين لم يؤيدوا دخول حماس للانتخابات لم يخبرونا مالبديل الأنسب والأفضل ، ولن يخبرونا .. إن منتهاهم أن يثرثروا بالتحليل والنقد الذي لا معنى له ولا فائدة .

والذي يراجع تصريحات حماس يعلم أنها لم تكن تسعى إلا لأن تكون معارضة قوية ، وأنها فوجئت كما فوجئ كل العالم بأنها اكتسحت الانتخابات إلى الحد الذي يمكنها من تشكيل الحكومة منفردة .. خرج لنا في هذه اللحظة من لا يحبذ دخول حماس للسلطة ، ولم يخبرنا أيضا ما هو السيناريو الآخر الأفضل ، أن تفوز حماس بالانتخابات وتترك السلطة لفتح فيكون كل ما بذل من جهد وكفاح ومال في الانتخابات كأن لم يكن ؟

طرحت حماس فكرة حكومة الوحدة الوطنية ، رغم أنه من حقها أن تتولى السلطة منفردة ، فتعجرفت فتح ظنا منها أن حماس لن تلبث إلا أن تسقط ، وسمعنا الكلب المعروف باسم محمد دحلان يتحدث عن أنه سيجعل حماس ” ترقص خمسة بلدي ” .. العالم المتوحش من ناحيته لم يدخر جهدا فمنع المساعدات حتى العربية منها حتى توقفت رواتب الموظفين .. ولكن الصمود الشعبي خلف حماس جعل كيد الكائدين في نحورهم ، وكما تساءل خالد مشعل بحق وهو يؤكد شعبية حماس قائلا : ” خلى أي نظام عربي يقطع الرواتب شهرين بس ونشوف كيف شعبه يسوي ” . لم تخرج ضد حماس مظاهرة واحدة مع انقطاع الرواتب ولم يكن من قلق إلا من قطعان عصابات أجهزة الأمن .

وفي كل يوم يؤكد أحدهم أن حماس ستسقط ، وحماس لا تسقط ، وبرغم كل ما بدا من فتح ومحمود عباس من سفالات ومن فشل اتفاقيات القاهرة ومكة ، ثم الفلتان الأمني ، بما فيها محاولات اغتيال إسماعيل هنية والزهار وغيرهم ، ثم قتل عناصر حماس في الشوارع وفي المساجد وقتل العلماء .. إلا أن حماس لم تسقط .

وفي هذا الوقت ، لم يحاول أحد أن يلقي بالائمة على صاحب الجريمة ، بل كان الكاتبون يكتبون عن الانقسام الفلسطيني والصراع الفلسطيني الداخلي والأزمة بين الإخوة في موقف أخلاقي حقير يسوي بين القاتل والمقتول ، وبين الحكومة المنتخبة وعصابات الفلتان والإجرام المرتبطة بإسرائيل ( وقد صار هذا الآن من الحقائق ووثائقه منشورة وبعضها بالصوت والصورة ) .. أي أن حماس بعد كل ما أبدت من صبر ومرونة ومحاولة للتلاقي مع فتح ولتشكيل جبهة وطنية موحدة لم يرض عنها أحد ولم ير ” ممارسوا النقد الذاتي ” بأنها قد فعلت ما عليها وأكثر .

وكأي حكومة في العالم كله ، مارست صلاحياتها وسحقت التمرد عسكريا .. فوجدنا عالم المثقفين كأنما عميت قلوبهم وأبصارهم معا يحتدون وينتفضون ضد هذه العملية الدموية ( مع أنه لم يقتل فيها إلا مجرم واحد وفي ظرف ميداني خاص وتم العفو عن الجميع ) .. حتى قرأنا هذا لبعض الإسلاميين !!!!

ومنذ ذلك الوقت ( منتصف يونيو 2007 ) حتى اللحظة ولا أكثر ممن دعا إلى الحوار مثل حماس ، ولا أكثر من تكبر ورفضه مثل فتح .. ثم تجد بعض المحللين يسوون بينهم ، وتجد البعض يرجع كل المصائب إلى حماس وحدها .. ( إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )

بعض الظرفاء يرون أن الانتخابات كانت فخا نصبه الأمريكان لحماس ليدخلوه فيفوزوا فيشكلوا السلطة فتمنع عنهم المعونات ثم تستطيع تضفية القضية ، ومن هؤلاء من ينتقد الإيمان المرضي بنظرية المؤامرة .. وصدق من قال : إلا الحمافة أعيت من يداويها .

أظرف وأفحش ماسمعت – كذلك - كان في حوار لي مع صديق مغرم بتجربة أردوغان ، وهو ممن يؤمن بفكرة “القوى العظمى” و”معادلات توازن القوى” .. وفشلت محاولاتي في أن أقول إن خيارات أردوغان لايمكن لحركة إسلامية عربية أن تتبناها ، فسألته عن رأيه في تجربة حماس فقال ببساطة : أفشل نموذج .. لأنها صنعت حزازات حتى داخل الأسرة الفلسطينية وصار هذا حمساوي وهذا فتحاوي .. لقد ذكرني بقول أبو جهل ( أتانا هذا الرجل – يقصد النبي محمد – وأمرنا جميع ففرق بين الولد وأبيه والمرء وزوجه ) .. ومع تهافت المنطق الخالي من أي طرح عقلاني ، إلا أني لا أستوعب أن تفرط حماس بالقضية حفاظا على الحزازات داخل الأسرة الواحدة .

والخلاصة مما سبق : أن هواية ( أو هوس ) النقد الذاتي لن ينتج تحليلا حقيقيا قدر ما سيؤدي إلى تفسير العثرات إلى أنه فشل نتحمل كامل المسؤولية عنه ، كما سيؤدي إلى التطلع إلى تقليد تجارب ناجحة وإن كانت في غير أرضنا وظروفنا ولا يسعنا محاكاتها .. كالقرد الذي يحاول أن يقلد الإنسان ولن يكونه أبدا .

وهذا الهوس لا يعبر إلا عن فشل بليغ في إدراك سبب الهزيمة ، ثم رؤية سيبل العلاج .. شيئ كرقصة الذبيح أو تخريفات الميت ، وقد روي أن رجلا على فراش الموت قيل له ما تشتهي ؟ فقال : رأس كبشين . فقالوا : هذا لا يكون . فقال : إذن ، فرأسي كبش .

“كل تجربة يمكن الاستفادة منها  ، لكن لا يمكن نسخ أية تجربة بحذافيرها ”

هذا قول لا أتذكر الآن قائله ، لكن لا أحسب أن أحدا يختلف فيه .. وإذا كنا وصلنا – في الجزء الأول من المقال – إلى أنه قد يوجد فشل لا يتحمل صاحبه أي جزء من المسؤولية عنه ، فلتكن فرصة لنختبر هذا الكلام على وقائع محددة .

1) ما جاء في القرآن الكريم عن “أصحاب الأخدود” وهم القوم الذين آمنوا بالله فألقاهم الطاغية في النار فأحرقوا جميعا وانتهت قصتهم .. إننا لا نلمح في هذه القصة ولا جانبا واحدا للنجاح ، بل هي بالمعايير المادية وحدها ( أو معايير “فضيلة النقد الذاني ” ) قصة نموذجية “للغباء والانتحار الجماعي بلا هدف” .. لكن المنطق الإسلامي لا يعتبر هذا “فشلا” بل هم في عداد الشهداء ، وممن استحقت مكانتهم أن يكونوا قصة تتلى في كتاب الله الخالد يهتدي بها المؤمنون من بعد .

2) ما جاء في القرآن عن سيدنا نوح – عليه السلام – بأنه بعد أن أمضى في دعوة قومه 950 عاما ، لم يؤمن معه إلا القليل .. وأكثر ما جاءت به الروايات عن هذا العدد أنهم كانوا ثمانين ، وهو ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما (1) .. ولا يُعلم أن الله عاتب نوحا أو أن أحدا من الأنبياء بعده أو نبينا – صلوات الله وسلامه عليهم جميعا – قالوا بأن المشكلة كانت عند سيدنا نوح .. أو أنه كان حريا به أن يقيم تجربته كل فترة من الزمان بعد تعرضها لمراحل فشل ذريعة بدليل قلة من آمنوا .. بل سيدنا نوح من أفضل خمسة من الأنبياء : أولي العزم من الرسل .

3) قول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن إخوانه من الأنبياء : ” عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرهط والنبي وليس معه أحد فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي فقيل هذا موسى في قومه ثم قيل لي انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل : هؤلاء أمتك ” ( متفق عليه )

إننا نلمح كذلك – بالمعايير المادية – فشلا واضحا ، وأيضا لم يعتبر أحد أن المشكلة في النبي .. ولكن كانت المشكلة عند القوم الذين دعاهم .
والهدف من هذه الوقائع أن نقول ونؤكد من جديد أنه ليس كل فشل يستدعي بالضرورة أن يكون صاحبه هو المسؤول عنه أو حتى عن جزء فيه ، بل لابد من دراسة التجربة بدقة وبإنصاف لمعرفة أين كان الخلل ؟ وأين لم يكن في الإمكان أفضل مما كان ؟ .. وإن كان الموقف يقتضي أيضا أن أشير إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمثل هذه الشواهد لتبرير تعثر الحركة الإسلامية حتى الآن في صناعة تجربتها لأننا لسنا من أمة نوح بل نحن أمة سوادها يسد الأفق يوم القيامة ، فلا عبرة بالقياس ، ولو جاز لجماعة معينة في مكان معين أن يكون مصيرها كأصحاب الأخدود فلايجوز هذا لكل الحركة الإسلامية التي وعدها الله بالاستخلاف في الأرض وبالتمكين لها .

لقد استطاع الإسلاميون الوصول إلى الحكم في تركيا ، ويبدون كأنهم يبنون تركيا من جديد ، صحيح أنهم وصلوا بعد عدة تجارب ( يمكن أن نسميها فاشلة ) على يد سليمان ديميريل ونجم الدين أربكان ، وكان على أردوغان وجول أن يبدو “مرونة أكثر” .. أكثر حتى مما يرضى به رمز إسلامي كبير كأربكان حتى بدأ ينبذهم وينابذهم .. وهي تجربة مازالت معرضة للانهيار بدرجة أو بأخرى لسطوة العلمانية التركية رغم أنها عديمة الجذور بين الأتراك . ماليزيا كذلك قدمت تجربة نهضة رائعة وبما يمثل قفزة سريعة ومدهشة .. هاتان هما التجربتان الحقيقيتان لنجاح دولة إسلامية في صناعة تقدم باهر ، قد يضيف إليها البعض إيران ، وقد يضيف آخرون دول الخليج كقطر والإمارات مثلا .

ولا أحسب أحدا يرضى أن تصل مصر والسعودية مثلا – قلب العالم العربي وميزان العالم الإسلامي – إلى أن يكون حجمها السياسي مثل قطر أو الإمارات أو الكويت أو عمان .. فتلك الدول وإن حققت طفرة اقتصادية كبرى إلا أنها أسيرة الإله الأمريكي ومن أصغر صنائعه ومواليه .

وإذن فالنماذج المطروحة أمام الحركة الإسلامية ، والتي يحب أن يدفعها إليه ( لا أحب أن أقول ” يعايرونها ” ) أصحاب “فضيلة النقد الذاتي” هي تركيا وإيران وماليزيا ، من لا يحبون الشيعة أو من ينحازون تماما إلى “الليبرالية” ينسون إيران ويكتفون بتركيا وماليزيا .

وإنني اسأل : وهل يمكننا استنساخ تجربة ماليزيا وتركيا ، بل وإيران كما هي ؟ وإن لم يكن هذا ممكنا .. أفلا يجدر بنا أن نلاحظ الفروق بين التجارب ثم فلنجب بصدق وواقعية عن سؤال : هل يمكننا تجاوز هذه الفوارق ؟

أول وأكبر هذه الفوارق هو وجود هذا الكيان الصهيوني ، لا تركيا ولا ماليزيا – إسلاميين وغيرهم - كان بهما حاجة لأن يوضحا موقفهما من إسرائيل ، أو نواياهم تجاه إسرائيل ، ولا حتى إيران كانت من دول الطوق المباشر أو دول الخط الثاني ولكنها برغم هذا تعرضت لحرب ضروس خاضها النظام البعثي ( حيث البعث ربا لا شريك له والعروبة دين مالها ثان ) متلفعا برداء السنة والسلفية .. بتحريض أمريكي ودعم عربي على رأسه السعودية . ولكن الصمود الإيراني البديع جعل الأمور تنقلب ليرغب الجميع في وقف القتال .. وربما لولا هذه الحرب لكانت التجربة الإيرانية أفضل وأكثر نجاحا من تجربة تركيا وماليزيا .

ولولا أن أردوغان يرث تركة كمال أتاتورك ، بارتباطاتها المشينة لما غفر له أحد من المسلمين تصريحاته المتكاثرة التي يؤكد فيها علمانية حزبه وأنه ضد أن يختل النظام العلماني بالبلاد ، وبأنه يتعاطف مع إسرائيل ويرتبط معها باتفاقيات عسكرية واقتصادية … إلخ القضايا الشائكة التي لا يعذره فيها من يعذره إلا لأنه يتولى تركة ثقيلة .

ولو اتخذت أي حركة إسلامية في العالم العربي عشر معشار هذه المواقف وصدر عن بعض قادتها مثل هذه التصريحات ، لكان انتحارا سياسيا كاملا لها ، بل إن مجرد الإشادة بتجربة تركيا من قبل قيادات إسلامية تجعل شيوعيا كرفعت السعيد يرفع صوته بالنواح والصراخ ليقول : ” إنهم يؤيدون الإسلام الأمريكي ” !! وحينما تنشر صحيفة الحياة بالخطأ تصريحا منسوبا للدكتور عصام العريان حول أن الإخوان إن صعدوا للحكم فسيخضعوا جميع الاتفاقيات الموقعة لنقاش شعبي من خلال البرلمان .. فتنشر الصحيفة أنه قال بأن الإخوان إن وصلوا للحكم فسيعترفون بإسرائيل ، تقوم قيامة الجميع بما فيهم أشد الناصريين إيمان بعبد الناصر الذي مازلنا نعاني من تركته مع إسرائيل .

ثم إن إيران وتركيا كلاهما ساعدا الغزو الأمريكي للعراق .. صحيح أنهما لم يكونا يريدان هذا ، ولكنهما اضطرا للاستفادة من الموقف بعد أن أخذ الأمريكان كل التسهيلات من الحكام العرب ( وفيهم من يلبس رداء السنة بل ورداء السلفية ) ، فلتكن المذاهب الضالة ، من الفرس والترك ، إذن ( الشيعة / إيران – العلمانية / تركيا ) أكثر حرصا على مصالحها وأقل حرصا على مصير دولة عربية من إخوانها العرب .

وإيران ساعدت ، كذلك ، في دخول الأمريكان إلى أفغانستان .. لكننا لا ننسى في نفس اللحظة أن باكستان ( السنية أو السلفية ) قدمت للأمريكان أكثر مما قدم الإيرانيون .
فأي حركة إسلامية عربية يمكنها أن تتخذ مثل هذه المواقف ؟ هذه المواقف التي هي بعينها كانت مجالا خصبا للمناورة استفادت منها إيران وتركيا .

وربما ضربنا مثلا بأهون من ذلك ، بالحزب الإسلامي العراقي الذي رأى أن المصلحة تقتضي أن يشارك في مجلس الحكم الانتقالي في العراق الذي صنعه بريمر ، عن نفسي أرى أنه قرارا صائبا ، كان لزاما على المرشد العام في القاهرة أن يصرح أنه لا يبارك هذا العمل .. وإن كنت أحسب ، ولا دليل عندي ، أنه تصريح للاستهلاك الإعلامي ليس أكثر ليظل موقف الجماعة الرسمي منحازا لخطاب المبادئ ومبتعدا عن مناورات السياسة .

وماليزيا .. لم تكن مضطرة في أي لحظة أن تختار بين مصلحتها وبين “إسلاميتها” ، ولم تكن مضطرة لأن تخوض فيما يخص موقفها من إسرائيل أو نواياها تجاهها .. فلم توضع قيود عالمية على نهضتها الاقتصادية .

ويمكن أن نطرح ما هو أبسط من هذا : كيف قامت دولة إيران ؟ وكيف وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا ؟

في الأولى ثورة ، ولم تكن بيضاء ، وفي الثانية يوجد سقف قانوني ملزم وإن كان يمكن سحق التفاصيل على يد الجيش أو ببعض الثغرات القانونية على يد العلمانيين .. والإسلاميون في العالم العربي إما أنهم أضعف من أن يقوموا بثورة كإيران أو أنهم لا يريدون أساسا ( وربما الاثنين معا ) ، ولا يجدون سقفا قانونيا يمكنهم من الدخول إلى مجلس محلي في قرية صغيرة في أنظمة جمهورية ، فإن امتلكوا حتى الأغلبية في مجلس نيابي فلن يكون هذا إلا في دولة ملكية قد انتزع فيها الملك كل السلطات فيتساوى مجلس النيابة في المملكة مع مجلس البلدية في الجمهورية ، وأقصى ما يطمحون له في أكثر البلاد العربية هو الاعتراف بهم وفقط .

ثم  وهذا هو الأهم والمؤثر ، أن الإسلاميون لا يملكون أصلا ما يمكنهم أن يفاوضوا أو يناوروا به أية قوة دولية .. فإذا كانت أمريكا تجد فريقا ممتازا من الحكام العرب ، هم أفضل ما يمكنها الحصول عليه من نوعيات العبيد والخدم ، فمالذي يدعو للبحث عن الإسلاميين وأقصى ما في أيديهم جماهيرية لا تستطيع تغيير موازين القوى ؟

إن مقارنة الحركة الإسلامية المضطهدة في العالم العربي ، بتجربة تركيا وماليزيا وإيران ، وهي تجارب بدأت ثمارها حين حكموا وحيث ناوروا على مبادئ وأساسيات لا يمكن أن يغفرها أحد ، أمر يحتاج إلى إعادة نظر .. وإعادة تفكير .

يحتاج إلى ممارسة النقد الذاتي دون أن ندخل في هوس النقد الذاتي .

————-
(1) انظر : تفسير ابن كثير (7/438) ط1 مؤسسة قرطبة ومكتبة اولاد الشيخ . تحقيق : مصطفى السيد محمد وآخرين 1412 هـ / 2000 م ، وانظر : تفسير الطبري بتحقيق الشيخين شاكر ( 325 : 327 ) ط2 مكتبة ابن تيمية . القاهرة

التقيت منذ أيام  بواحد من ” الإسلاميين المنفتحين جدا ” . لفت نظري كثيرا في كلامه تركيزه على أهمية أن نخاطب الغرب لا بالمنطق الخطابي الثوري العاطفي ، وإنما بالمنطق العقلاني الهادئ ، وأنه يجب علينا أن نتحلى بـ”فضيلة النقد الذاتي” ، وألا نعيش في عالم “نظرية المؤامرة” فلاشك أن الأوضاع المأساوية التي نحياها نحن الذين نتحمل مسؤوليتها كاملة .

ولست أختلف مع هذا الرأي في عمومه ومنطلقه ، كما ليس هذا هو ما تصادمنا فيه فصدمته وصدمني ، وإنما كان الخلاف بيننا متسعا في وجود المؤامرة من عدمه وفي مسؤوليتنا الكاملة أو شبه الكاملة .. ثم كان أن ذكر لي بعض الشباب المدونين باعتبارهم النموذج الأثير عنده ، وكان موقفي ممن ذكرهم موقفا سلبيا للغاية لكنني عرفت في هذه اللحظة كم أن حجم الاخنلاف بيننا كبير .

أكتب هذه السطور الآن ، وفي ذهني هدف واحد ووحيد هو مناقشة “فضيلة النقد الذاتي” .

فإذا كان معروفا أن الحق يضيع بين الإفراط والتفريط ، فيجب أن نخضع تلك “الفضيلة ” أيضا لهذا المعيار .. فلنتفق على ألا نقبل بفكر تآمري مالم يأتي قائله بدلائل قوية تصلح أن تكون أساسا للنقاش ، لكن فلنتفق في نفس اللحظة على عبثية وسخافة من يقف من تلك الدلائل موقف المتعالي المستخف الناظر في غضب ( أو سخرية ) ثم مطلقا بكل بساطة اتهاما مفاده ” هذا إيمان مرضي بالمؤامرة ” .

إن أحد الذين ذكرهم لي من المدونين واحد لا أعلم له إنجازا على مستوى فكري فضلا عن أن يكون إنجازا في مجال البناء وطرح الحلول ، بل على العكس ، لا أعرف أنه يمارس إلا تلك الفضيلة .. فضيلة النقد الذاتي . ولم أكن لأحمل نحوه شعورا سلبيا لأنه يمارس الفضائل التي يحب بل لأنه يمارسها وكأنه يقول الحق الذي لا باطل فيه ، ويسخر من الآخر كأنما هو الباطل الذي لا حق فيه .

مطلوب أن نمارس النقد الذاتي .. لا أعتقد أن أحدا ينكر هذا في عصرنا الآن ، ولكن .. ما الحد الذي يجب ألا نتجاوزه في تلك الفضيلة فنتعداها نحو الهوس بالنقد الذاتي فندخل في مرحلة جلد الذات .. وهي مرحلة مدمرة لاشك على مستوى الأفراد أو المجتمعات ؟؟

ثم .. هل كل فشل في الحياة يتحمل صاحبه وحده المسؤولية الكاملة عنه ؟.. بل ربما حبي للتطرف والتحديد والتوضيح يدفعني لأن اسأل سؤالا متطرفا آخر : وهو هل كل فشل يجب أن يكون لصاحبه جزء من المسؤولية فيه ؟

وأنا لا أقول هذا لكي انطلق منه نحو أن أبرئ الحركات الإسلامية أو مجتمعاتنا المسلمة من مسؤوليتها الأكيدة نحو أوضاعنا السيئة حقا .. بل هو خروج من الإطار الذي يحب أن يحشرنا فيه ” ممارسوا فضيلة النقد الذاتي ” ولو على مستوى الرؤية والنظرية فقط .
وإنني ، وإن كنت لا أحب الجدال ، على عكس ما يعتقد البعض .. إلا أنه من الواجب أن نناقش الرؤية نفسها وإن لم نستطع أن نسقطها على الواقع بدقة ، لأن إيماننا بأن المشكلة الكبرى في حياتنا أننا لا نمارس النقد الذاتي بالقدر المطلوب ، وأن الحل هو في مزيد من النقد الذاتي للتجربة .. إن هذا الإيمان سيؤدي بنا إلى الكفر ليس بقدراتنا بل بتاريخنا ورموزنا وبمكانتهم ، وأن تجربتنا ، بكل ما فيها من إضاءات ، ليست إلا “التجربة النموذجية للفشل” .

فهل كل فشل يجب أن يكون لصاحبه جزء من المسؤولية فيه ؟

لو أجبنا على هذا السؤال بـ : لا ، وافترضنا أن هناك فشلا قد لا يتحمل صاحبه ولا جزءا بسيطا من المسؤولية فيه ، وأن المسؤولية كلها ستقع على آخرين أو على الظروف أو على البيئة أو على أي مؤثر آخر غيره هو ، فإن هذه الإجابة ستكون مدخلا سهلا لأن نرى ونعتقد بأنه يمكن أن يكون هناك فشل يحمل صاحبه جزءا من المسؤولية بينما تكون أسباب الفشل الأخرى كائنة في الظروف أو البيئة أو الآخرين .. فطالما وصلنا نظريا إلى أن الفاشل قد يكون بريئا تماما من مسؤولية فشله ، فإن الأسهل فيما بعد أن نرى ونعتقد أن الفاشل ليس بالضرورة يتحمل كل مسؤولية فشله ، وأنه هو وهو وحده من لم يستطع أن يخطط جيدا أو يكون مرنا بالقدر الكافي أو ذكيا بمستوى المشكلة .

ولو أجبنا بـ : نعم ، وافترضنا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوجد فشل ليس لصاحبه مسؤولية عنه ، وأن كل فشل يؤكد بالضرورة أن صاحبه يتحمل جزءا من تلك المسؤولية .. فبم نفسر هذه الحوادث :

1) فشل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في إقناع أحد من كبار سادة قريش بالإيمان مع حرصه الشديد على هذا إلى الحد الذي استاء فيه من ظهور عبد الله بن ام مكتوم وقت حديثه مع السادة حتى عبس ، ثم عوتب .. ما مدى مسؤوليته عن هذا الفشل ؟

2) كذلك فشله في إقامة الدولة الإسلامية بمكة ، التي حاول أن يقيم فيها الإسلام ثلاثة عشر عاما ، ولكن مكة لم تقبل بهذه الدعوة .. ما مدى مسؤوليته ، صلى الله عليه وسلم ، عن هذا ؟

3) وكذلك .. لم يستطع أن يرجع من الطائف بشئ ، بل رجع مهانا – بأبي هو وأمي – ومرجوما من سفهاء القوم ، ما مدى مسؤوليته عن عدم النجاح في الطائف ؟

4) وعدم استطاعته ، صلى الله عليه وسلم ، إقناع قبيلة من قبائل العرب الذين حاورهم في موسم الحج بأن يتبنوا دعوته .. هل كان ذلك لضعف حجته ، أو لسوء عرضه ، أو لأنه لم يكن ذكيا بالقدر الكافي أو مرنا بما يتطلبه الموقف أو .. أو .. إلخ ؟ .. وهل يصح إذا سمعنا قوله المفعم حزنا حين يقول : ” هل من رجل يحملني إلى قومه ؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام الله عز وجل “(1)، هل يصح حينها أن نطالبه بممارسة فضيلة النقد الذاتي ؟!!

5) وباعتبار أن النبي هو قائد الدولة الإسلامية في المدينة .. ما نصيبه من المسؤولية عن هزيمة أحد ؟

ويمكنني أن أمضي كثيرا في ذكر وقائع تاريخية من الخلافة الراشدة والعصور بعدها ، ولكنني بدأت بتلك الحوادث تحديدا لما فيها من وضوح ، على اعتبار أن المسلمين جميعا يؤمنون بأن النبي لم يقصر يوما في دعوته ولا في تبليغ رسالة ربه .. ولكن دعونا نمضي قليلا مع وقائع أخرى فنسأل ونبحث عن التفسير :

1) حين استشف عمر ، رضي الله عنه ، بفراسته أن أبا لؤلؤة المجوسي يتهدده بالقتل ، فلم يقتله ولم ينفه لأنه لم يرتكب ما يوجب هذا .. ثم نجح أبو لؤلؤة في قتل العلم الكبير والخليفة العظيم ، هل يمكننا ، بممارسة النقد الذاتي ، أن نقول بأن عمر أخطأ حين لم يقتل أو ينف أبا لؤلؤة ، وإن قلنا هذا فمالنا نلوم الطغاة الذين يفجرون كل يوم تحت شعار “مكافحة الإرهاب وتهديد الأمن القومي” .. باختصار : ما مدى مسؤولية عمر عن مقتله ؟ خصوصا لو علمنا أنه قتل وهو يصلي فقد كان ذلك أفضل الأوقات والأحوال لقتل عمر .. هل كان يجب أن نقترح عليه ألا يصلي ، على الأقل في المسجد ، أو على الأقل صلاة الفجر ؟

2) وماهي مسؤولية عثمان ، رضي الله عنه ، عن ثورات السبئيين والتي انتهت بقتله ؟ ( أعرف أن البعض قد يعيد على أسماعنا الحجج المحفوظة والروايات الضعيفة عن ضعف عثمان واستئثار بني أمية بالدولة و مظالمهم في البلاد .. وهي الروايات التي يثبت ضعفها وتهافتها بالبحث التاريخي ، ولكن : دعونا نطرح هذا السؤال الآن لمن يجل عثمان ويقدره فقط .. فترى بم يجيب ؟ )

3) ولمن يلوم عثمان ويعتبره سببا في ما آل إليه الحال من فساد ، وكذلك غيرهم نسأل : تحت أي سياق يمكننا تحميل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه المسؤولية عن موقعتي الجمل وصفين ، ثم عن معركة النهروان .. وكيف نفسر فشله في الحفاظ على الدولة العظيمة الواحدة المترامية الأطراف التي خلفها له عثمان ؟

إن هذا الموقف تحديدا يذكرنا بالرجل الذي سأل عليا ، رضي الله عنه ، فقال : لماذا كثرت الفتن في عهدك ولم تكن في عهد أبي بكر وعمر ؟ فقال علي إجابة لا تتفق أبدا مع ممارسة النقد الذاتي : لأن أبا بكر وعمر كانا أميرين على مثلي وأنا أمير على مثلك .

إن كثيرا من الحوادث يلح عليّ كالحسين رضي الله عنه في الخروج على يزيد واستشهاده ، وكثورات سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن الأشعث ضد الحجاج ، وكهزيمة عبد الله بن الزبير ضد جيوش عبد الملك بن مروان … وغيرها كثير .  ولكن دعونا نكتفي بما مضى لأن كل ما هو آت من فعل البشر – مهما كانت جلالتهم – فيصح أن يجادل البعض بأنهم بشر معرضون للخطأ والصواب.

إن دراسة ماسبق يوصلنا – برأيي – إلى نتيجة واضحة ، وهو أن بعض الفشل قد لا يتحمل صاحبه عنه ولو جزءا من المسؤولية فقد تكون الظروف أكبر من الرجال .. وهذه القاعدة تحديدا ستساعدنا كثيرا في تحليل التجربة الإسلامية ، بل التجارب الإسلامية ، لنعرف بدقة أين أصبنا وأين أخطأنا ، ومتى كان ينبغي أن نفعل غير ما فعلنا ، ومتى كانت الظروف أكبر منا ولم يكن بالإمكان أحسن مما كان .

ولا يعني دفاعي عن ” وجود فشل لا يتحمل صاحبه ولو جزءا بسيطا من المسؤولية عنه ” لا يعني تماما أني أرى تاريخ التجارب الإسلامية أو واقعها مجردا عن الأخطاء ، وأن كل ما كان لم يكن ليمكن أن يكون فيه أفضل مما كان .. بل أرى أن تجربة الإخوان المسلمين تحديدا – باعتبارها أكبر وأثرى وأفعل التجارب الإسلامية في العالم العربي – حفلت بأخطاء شنيعة قد كان يمكن أن يتغير التاريخ كله لو لم تقع ، لكنني يجب أن أكون منصفا كذلك لأقول إن رؤيتي هي الأخرى ليست إلا رأيا يحتمل الصواب والخطأ ، وبأن ما أراه أنا “خطأ بشعا” قد لا يكون إلا الصواب المطلق في وقته وظرفه وحينه ، وليس من “الفضيلة” بأي مفهوم أن أتحدث عن الأخطاء وكأني أملك الحق الذي لا باطل فيه في مواجهة الذي يدافع عن الباطل الذي لا حق فيه ، وهذا تنبيه كذلك أذكره في موطن الإنصاف والموضوعية .. والقصد أن أقول أني أرى أن التجربة العربية الإسلامية بها قصور ولا تنتمي لهذا ” الفشل الذي لا يتحمل صاحبه مسؤولية عنه ” .

بهذه النتيجة أستطيع أن أدخل لمناقشة بعض التفاصيل والوقائع المعاصرة .

————
(1) انظر : السيرة النبوية الصحيحة . د. أكرم العمري . ص193 . ط6 . مكتبة العلوم والحكم . المدينة المنورة . 1415 هـ / 1994 م

 

14/8/2008

وروي أن رجلا أعمى خرج ليلا ومعه جرة ليملأها بالماء من النهر ، ومعه سراج ، فقيل له : يا أعمى ، ما بالك تحمل السراج ولا تنتفع بنوره فالليل والنهار عندك سواء ؟ فقال الأعمى : حملته لأعمى البصيرة كي يبصرني فلا يقع علي ويكسر جرتي .

تذكرت تلك الطرفة بعد قيامة الدولة المصرية وصحافتها على الفيلم الإيراني “إعدام الفرعون” .. فتستدعي الدولة القائم بالأعمال الإيراني ، وتصدر تصريحات نارية ( أخيرا ) من الخارجية المصرية ، ويلبس رداء السنة من لا ملة له فيتحدث عن الشيعة ، بل عن الفرس والمجوس !!

وخرجت إيران تحمل المصباح لتؤكد أنه لا يعبر عن رأيها الرسمي وأنه من إنتاج مؤسسة أهلية في إيران ليس إلا .. لكن ماذا يغني المصباح لمن عميت بصائرهم ؟!!
ما يثير الدهشة أن نفس الطائفة التي تدافع عن “حرية الانحلال / حرية الإبداع ” رافعة قميص “اقرأوا قبل أن تحكموا ” لم يشاهد منهم الفيلم أحد .. ويقيني أنه إن حدثت أزمة قريبة بشأن حرية الانحلال فسيرتفع نفس القميص ، لأنهم قد خلعوا قميص الحياء بل وأحرقوه .

وصدق جدنا الأعرابي إذ قال ” أعمى البصيرة ” .

فإن سنتين فقط هي الفاصل بين إذاعة التليفزيون الرسمي الإسرائيلي فيلما كاملا عن قتل الأسرى المصريين في صحراء سيناء ، ولولا أن الموضوع أثير في مجلس الشعب فاستوجب أن يتوضح موقف الدولة لما كان أحد سمع شيئا ، فإن فيلم الحبيب زي أكل الزبيب ، ( الحبيب هنا يهودي صهيوني .. وهذه ملاحظة لمن ارتدى ثوب السنة وتحدث عن الشيعة والمجوس والفرس ) .. فلما استوجب أن يتوضح موقف الدولة سمعنا كلاما من وزير الخارجية ينتمي حقا إلى “أدب ما بعد الحداثة ” .. ألفاظا مرصوصة لا تؤدي معنى على الإطلاق ، ولا تفهم منها موقفا بل ولا شعورا نفسيا .. فلماذا عميت الأبصار والبصائر ؟

ثم إنني بخبرتي الضعيفة جدا في مجال الأفلام الأجنبية أستطيع أن أتذكر فيلم المومياء وكيف ظهر المصريون فيه ؟ ويخبرني صديق الآن بفيلم لا يتذكر اسمه لكن يتذكر أنه يتحدث عن الدور المصري في حرب أفغانستان ، وكيف أن هذا الدور المصري استطاع الجانب الأمريكي أن يستخلصه برقصة من فاتنة لوزير الدفاع المصري ثم ليلة ساخنة ؟ ولو صح كلام الصديق الخبير فعلا بالأفلام الأمريكية – وهو عندي صحيح ولكن أتشكك في دقته – فربما كان يحق لنا أن نتساءل عن الموقف المصري من هذا التجاوز الهوليودي .

هذا مع ملاحظة أن الإهانة في هذا الفيلم الأمريكي لا تقارن أبدا بفرحة بعض الإيرانيين بمقتل السادات واقفا شامخا على يد بعض الإسلاميين ( أو حتى الإرهابيين ) في قلب عرض عسكري بمناسبة نصر عظيم .. لكن : وماذا يفيد المصباح لمن عميت بصيرته ؟

وفي القريب كذلك : نشرت بعض الصحف الدنماركية رسوما مسيئة للنبي – صلى الله عليه وسلم – ومع تطورات الفعل ورد الفعل دخلت النرويج على الخط .. ولم نسمع عن “انتفاضة دبلوماسية” من الخارجية المصرية ضد سفارات هذه الدول .. اللهم إلا “استنكار” السفيرة المصرية في اجتماع سفراء الدول الإسلامية مع رئيس وزراء الدنمارك .. وإلا بعض الخزعبلات في جريدة الجمهورية : ثارت فجأة ، وخمدت فجأة بعد أن لعبت المصادفة دورا كبيرا فكشفت لرئيس تحرير الجمهورية أن حملته قد آتت ثمارها جدا جدا .. ويكفي هذا الآن !!

وأقرب مما سبق أننا وفي مصر خرج فيلم ( ليلة سقوط بغداد ) ، والفيلم رائع - برأيي - كموضوع .. وفيه تخيل البطل ( أحمد عيد ) أنه يمارس الجنس مع كونداليزا رايس .. ولم يحدث أن هبت أمريكا دفاعا عن “سمعتها” و “هيبتها” .. فتلك هي حجة من لا هيبة لهم ولا سمعة .

والسؤال الآن : ماذا استفادت مصر من توتير العلاقات مع إيران بهذا الشكل الأحمق الذي يذكر بالمثل القائل : دي مش حكاية لمونة ، دي قلوب مشحونة .. فالفيلم أتفه من أن يحدث كل هذا من أجله خصوصا مع التصريحات الإيرانية التي لا تتبنى الفيلم ولا توافق على ما فيه .

وإذا كان من مصلحة أمريكا أن تكون إيران معزولة عن كل العالم ، وتأمر بذبك خدمها ، ونظامنا خادم مخلص بل هو في المرتبة الثانية ممن يتلقون المعونات بعد إسرائيل مباشرة .. أفلم يكن من سبيل لتنفيذ الأوامر بشكل أفضل من هذا .. أم هو كما قال ذلك المرتزق الظريف :

عذلوني على الحماقة جهلا  *** وهي من عقلهم ألذ وأحلى
حمقي اليوم قائم بعيالي  *** ويموتون إن تعاقلت ذلا .

31/7/2008

وقد قال المبدع أحمد مطر فصدق وبكى فأبكى :
قطيع نحن والجزار .. راعينا .
ومنفيون نمشي في  .. أراضينا .
ونحمل نعشنا قسرا .. بأيدينا .
ونعرب عن تعازينا لنا .. فينا .

لعل ما حدث في قضية العبارة والتي انتهت – تقريبا – بالحكم لبراءة صاحب العبارة وواجهة الطغاة ، يكون دليلا آخر ينبه من تركوا عالم السياسة خوفا من أمن الدولة ورغبة في “أكل العيش وتربية الأولاد” إلى أن هذا الانسحاب هو ما سيجعلهم لا يجدون “العيش” ولو أهلكوا أعمارهم في غربة جمعه ، ولا يجدون الأولاد فهم بين قتيل وغريق وحريق .

ليس هذا فقط .. بل الأنكى والأوجع للنفس أن سارق “العيش” وقاتل “الأولاد” سينعم بالبراءة .. كأن لم يكن له ذنب .
وخرج الضحايا بحسرتهم ..

ومشهد غرق العبارة يستدعي إلى القلب تصوير النبي للمجتمع بأنه كالسفينة ، إن لم يأمر أهلها بالمعروف وينهوا عن المنكر هلكوا .. وهلكوا جميعا ، جميعا .. حتى الذي انشغل بـ” أكل العيش وتربية الأولاد ” ..

ترى من كان من هؤلاء الغرقى وأهلهم من ظن قبل الآن أنه هو قد يدفع الثمن من ماله وحياته وحياة أولاده طالما استمر المفسدون في الحكم ؟ من ظن منهم أن الفساد الذي يزداد انتشارا سيدفعون هم ثمنه ، وللقاتل البراءة ؟؟

متى سيقتنع البعض بأنه يجب أن يدافع عن نفسه وعن أبنائه وعن حياته .. وعن “أكل عيشه” بالأسلوب الصحيح ، لا بالهروب خوفا وطمعا .. متى سندافع عن أنفسنا وقد سألت السيدة عائشة منزعجة : ” أنهلك وفينا الصالحون ؟! ” فأخبرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن ” نعم ، إذا كثر الخبث ” .

وقد كثر الخبث .

Next Page »