نشأت وحيداً بلا إخوة، لم تكن علاقتي بأمي مثل ما كنت أرى و أسمع من بقية الأطفال فى الحضانة أو المدرسة، كانوا يفترضون أني طفل مدلل كونى وحيداً.
فى نهاية كل يوم، يهرعون جميعاً من الفصول جرياً إلى أمهاتهم و يقفزون إلى أحضانهن. أما أنا، فعندما كان يسمح وقتها بإلتقاطى، فقط أُعلق يدي فى ذراعها و نتجه للسيارة صامتان، تتشبث هي بعجلة القيادة و تتيقظ للطريق أمامها، و ألصق أنا وجهي بالنافذة اتأمل الشوارع، و نظل هكذا حتى نصل للبيت.
هي ممن يقال عنهن المرأة الحديدية، وجه صارم ذو ملامح حادة، لا وقت لديها للمشاعر أو الأحاديث الطويلة، عملية إلى أقصى درجة وعلى قدر من العصبية أتعجب من قدرة أبي على التعايش معه.
طوال أعوامي، كانت منكبة دائماً على مكتبها، بدايةً من المذاكرة للماجستير ثم للدكتوراة تباعاً، إلى تجهيز محاضراتها و تصحيح أوراق الامتحانات و كتابة مذكرات الجامعة.
بسبب أشغالها الدائمة، لم نكن تلك الأسرة التى تذهب إلى النادي يوم الجمعة أو تجتمع مع أفراد العائلة فى بيوت الأجداد ليلة الخميس أو حتى تلتف حول التلفاز لمشاهدة مسرحية كوميدية تعرض لأول مرة.
كم من المواقف بيننا لا أستطيع نسيانها، أصعبهم هو عندما كنت فى السادسة من عمري، كنت فى غرفتها، أعبث بحاجياتها وأبهرتنى القطع الملونة فى علبة مكياجها التى نادراً ما تُفتح، حتى انقلبت مني العلبة كاملةً على الأرض، و كانت ليلة سوداء.
ما ان رأت الفتافيت مبعثرة فى كل اتجاه حتى صدر منها صرخة مدوية و انهوت علىّ ضرباً و ركلاً بيديها ورجليها فى جميع أنحاء جسمي: "انت عارف دي بكاااااااام! أعمل فيك إيه! أرميك من الشباك و أخلص منك؟!ّ يا رب خده و ريحنى منه!".
عندما عاد أبي من عمله، وجد كل منا فى غرفته فى نوبة بكاء هستيري. كانت عيناي مثل كرات الدم ووجهى أزرق ممقوت و جسمي يرتعش كطائر قد تم ذبحه للتو. حملني على مستشفى قريب، وُضع ذراعي الأيمن فى جبيرة و كان التبرير حينذاك أني وقعت فى البيت أثناء اللعب.
ظللت فترة ليست بقليلة أخاف منها و أتجنبها، و لا أدرك معنى و سبب شتائمها لى و دعائها علىّ...
سألت أبي: انا عارف ان انا غلطان انى لعبت فى حاجة مش بتاعاتي، بس هى ماما كانت متضايقة أوي كدة ليه؟
أجلسني أبي على حجره و حكى لي ان ولادتي لم تكن بعملية سهلة، فقد احتاجا لإجراء العديد من العمليات حتى تم حملها، و من الشهر الخامس إلى ميعاد الولادة، كان قد أكد لها الطبيب أن جنينها سيكون بنت. كانت الصدمة فى غرفة العمليات بعدما أفاقت من التخدير، لأني انا من وجدت و ليست "نسمة" كما أرادت أن تسمي.
و عندما عادت إلى المنزل، جمّعت ملابس نسمة و طلبت من أبي أن يتخلص منها.
و أصبحت و أمسيت تبكي لليالٍ عديدة، و كانت جدتي من أمي هى من ترعاني فى أسابيعي الأولى.
من طفولتي إلى زواجي، لم تتدخل فى شئوني أو تسألني عن أى شئ متعلق بي أبداً، ما أرتديه، من هم أصدقائي، متى أعود مساءاً إلى البيت، مواعيد تدريبات النادي، مواعيد الدروس، حتى أهم و أصعب إختيارين فى الحياة؛ اختياري للكلية بعد الثانوية العامة و اختيارى لزوجتي. كانت كلماتها دوماً:
- "اعمل اللى انت عايزه بس استئذن باباك الأول"
- طب انتي رأيك ايه يا ماما؟
- انا ماليش رأى، قال يعنى اما أقولك رأيي هتسمع الكلام، ما انت فى الآخر هتنفذ اللى فى دماغك.. يبقى ليه وجع الدماغ من اصله بقة، شوف مع باباك.
أعترف الان أنى لم أحاول جاهداً فى التقرب إليها، حتى هدايا عيد الأم، عندما وجدت عدم اهتمام و تقدير منها لما أشتريه لها، أمتنعت عنها، لا أتذكر آخر مرة اشتريت لها هدية، ربما من عشر أو خمسة عشر سنة.
الآن و في هذه الدقيقة، ترقد أمي فى سريرها، مغطاة بالأبيض و نحن فى انتظار عربة نقل الموتى. أجلس انا فى مدخل البيت؛ لا أذرف دمعاً و لا أدري إن كنت حزين، و لكن أشعر بالندم على أنى لم أُعلمها يوماً أنى كنت دوماً اتمنى ان تحتضنني.
Saturday, October 17, 2009
لم اكن أبداً طفلاً مدللاً
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
3 comments:
i like it sooooooooooooooo much ya eman.MSA gamela awy
AdrY
Some women should not have kids...
really it makes me in tears
Post a Comment