حديث الثلاثاء يا رب... من أجل الطفولة وحدها

محمد بن أحمد الرشيد

    تبين لي أن كثيراً من قراء مقالي الأسبوعي هم من الذين يفضلون القراءة الورقية عن القراءة الالكترونية، وسأورد بعد نهاية المقال الدليل على ذلك.

وإلى أخي أبي طارق وأمثاله ممن ظنوا أنني في مقالة الأسبوع الماضي قصدت أن أكون محللاً ناقداً أدبياً لقصيدة بدوي الجبل، ولكن الحقيقة هي انني لم أر سمواً في العاطفة ولا أصالة في الفكر، وتناولاً أدبياً رفيعاً للبنوة والأوطان بمثل ما تناوله شاعرنا، وقراءة ما جاء من قصيدته بإمعان تكشف الجديد في طريقة حديثة عن البنوة والأبوة وحب الوطن وصدق الانتماء إليه.

إني كأي إنسان تمكنت منه العاطفة الإنسانية أشعر بأن مشاعر الأبوة ورد فعلها في البنوة هي الزاد الذي تتجدد به حياة الإنسان، بل إن الحياة لن تكون حياة إلا بالعاطفة، ففرق بين المخلوقات ذات الروح وبين الجمادات. فها هي أمامنا مناظر بين مختلف أنواع المخلوقات وهي تحنو على أبنائها، وتضمهم في أحضانها مما يثير العاطفة الإنسانية النبيلة.

العواطف هي هذا الشعور الدافق في كل سلوكيات الإنسان، وفي أعلى وأول سلم العواطف عاطفة الحب والحنان، حتى أوجد الله فينا حبه وحب نبيه، وليس صحيحاً ما يقال: إن العاطفة تتناقض مع العقل، إذ إن الحقيقة هي أن العاطفة يشعلها العقل الراجح، لكن العاطفة نقيضة الغلظة والفظاظة والخشونة.

مساكين هؤلاء الذين لا يعرفون العواطف الرقيقة، ولا يشعرون بعاطفة الحب والحنان، ولا يحسون بآثارها، ولا يغمرون أولادهم ومن حولهم بها، إنني لأقبِّل وأحنو وأضم إلى صدري كل الناس، صغيرهم وكبيرهم، وأشعر بسعادة غامرة تملأ نفسي حين أكون مملوءاً بهذه الروح الحانية، وتعجبني تلك المقولة التي قالها أحد الأدباء: (ما قابلت طول عمري شخصاً إلا وأحببته) ويواصل هذا القائل (لا أيأس من العمل على تقويم ما أعوج من الإنسان مهما كان اعوجاجه نتيجة حبي له).

الحب هو الفرحة الدائمة - الحنان هو الروح الطيبة.. فعوّدوا أبناءكم جميعاً على أن يكونوا دائماً من أصحاب عواطف الحب والحنان منهم ولهم.. احضنوهم.. قبلوهم.. ضموهم إلى صدوركم.. بذلك تطمئن نفوسهم، وترتاح قلوبهم، وتهدأ مشاعرهم، ويفرحون بحق وأنتم كذلك مثل شعورهم، وبهذا ترون بهجة الحياة ومتعة العيش فيها.

لقد طلب بدوي الجبل من ربه أن يسعد الشعوب، وأن يوقف الحروب - وهو بذلك يعبر عن العواطف المتدفقة نحو الأبناء والأحفاد والأوطان فلله دره.. إذ نحن في هذا الزمن أشد ما نحتاج إلى الاهتمام بالجوانب التي تشدنا لحقيقة جمال الحياة والشعور الصادق بالسعادة فيها بعد أن طغت الماديات على كثير من جمال المعنويات التي هي فطرة الله في النفوس الجميلة.

الحب هو المحرك الرئيس للكدح والعمل.. سواء كان هذا العمل فردياً للنفس، أو جماعياً للأسرة، أو شاملاً للوطن.. فالحب هو الوقود الحي الذي به يتحرك المرء ويشعر بالقوة ومزيد من العمل.

- وحبنا لأولادنا يسعدنا حين نحمل إليهم ما يفرحهم، أو نعبر عن حناننا لهم.

- وحبنا لأوطاننا يبهجنا حينما نراها متطورة ناهضة، ويدفعنا إلى حماية مكتسباتها، والحرص على سلامتها وحريتها وعزتها، فحب الوطن هو الذي يدفع إلى الاستشهاد والتضحية بالروح.

مما لا يماري فيه أحد، ولا يجادل فيه مخالف، ولا يشكك في صدقه إنسان أن حب الوطن واجب لا جدال فيه، وأنه أكبر المشاعر، وأصدق وأعمق العواطف، ولو أن هذا الحب تمكن حقيقة من قلوب كل الناس لرأينا أن الحياة عمل دائب، عطاء مستمر إخلاص صادق، ولما أساء إلى الوطن إنسان ولو بكلمة.

** ** **

وعودة إلى شاعرنا بدوي الجبل الذي تغرب عن وطنه فشعر بوهج حبه واشتعال عواطف الشوق له فقال:

تغرب عن مخضلَّة الدوح بلبلُ

فشرَّق في الدنيا وحيداً وغرَّبا

وغمَّس في العطر الإلهي جانحاً

وزف من النور الإلهي موكباً

تحمَّل جرحاً دامياً في فؤاده

وغنَّى على نأي فأشجى وأطربا

لو لم يقل سوى هذه الثلاثة أبيات تعبيراً عن تجربة الغربة التي يحياها - ونفثاً لمشاعره التي تتوهج روحه بها لوطنه لكفاه ذلك.

هو بلبل غريب عن جمال الحدائق والرياض في وطنه - فهام وحيداً في شرق الأرض وغربها لا يستقر له قرار.. إنه مع كل بُعده ومعاناته مغمور في عطر حدائق بلاده الفواح.. وهو عطر إلهي لا يزول، ولا يضيع شذاه.. ليؤكد بقوله (إلهيّ) بقاء ذلك في روحه.. وهو أيضاً يحيا في النور الإلهي الذي يغمر وطنه دائماً بالشروق الجميل والضياء المستمر لأنه نور إلهي لا ينقطع أبداً.. لهذا.. فإن غربته وحرمانه من أن يُغرد على أغصان هذه الدوحات، وينتقل وسط هذا الجمال، ويطير وسط هذه الأنوار أصاب قلبه بجرح دام موجع - لكنه يتغنى بهذا الوطن فيشجي الأسماع ويُطرب الآذان.. فصدق حبه للوطن لا يغيب.

ألا ترون حقاً أن هذا الشاعر صادق الحب لوطنه، وتلك هي أصالة الإنسان وقيمته العليا، وهو يُكبر وطنه، ويشيد به.. ويُعلي قدره - مهما لاقى من متاعب، أو واجه من مصاعب.. فإن الوطن - عند الأوفياء - أكبر من كل لوم - وأعظم من كل عتب.. لأنه موطن النشأة، ومدرج الحياة.. وملتقى الأهل، ومجتمع الأحباب.. ومهما طال العمر.. أو تغلبت الشيخوخة فإن حب الوطن لا يشيب.. والوفاء له والولاء لأرضه وأهله لا يغيب، وصدق الشعور بحبه لا يفتر.. هذا ما يفجر دفاق المشاعر.. صادق القول في قوله الذي لا يشوبه رياء.. ولا يزيفه ادعاء:

ولي وطن أكبرته عن ملامة

وأغليه أن يُدعى - على الذنب - مذنبا

وأغليه حتى قد فتحتُ جوانحي

أدلل فيهن الرجاء المخيبا

تنكر لي عند المشيب - ولا قلى -

فمن بعض نعماه الكهولة والصبا

ومن حقه أن أحمل الجرح راضياً

ومن حقه ألا ألوم وأعتبا

من مثل هذا الوفي لوطنه.. الذي يأبى مترفعاً بوطنه أن يصفه بسوء.. إذ إنه يحمل له الحب خالصاً.. لا لوم، ولا عتاب على شيء قد يكون أصابه.

أين هذا المخلص الوفي ممن نراهم كثيراً ينسون أوطانهم حين اغترابهم عنها، ويتنكرون لفضلها، بل ويقدحون في أهليهم وقياداتهم.

إنني جذل بهذه القصيدة التي استشهدت ببعض أبياتها - لأنها كلها عواطف نبيلة صادقة قوية للأطفال والأوطان. ومن أعز وأغلى من هذين ؟!

لقد سألني كثيرون من أصدقائي ومعارفي وقرائي عن سبب تبديل موقع مقالي في الأسبوع الماضي، فقلت لهم إن السبب هو الاخراج الفني للصحيفة في ذلك اليوم، ورجوت مثلهم أن يبقى المقال في مكانه؛ لأن القارئ يتوجه فوراً إلى ما يريد كما تعوده في مكانه، وهذا دليل على أن كثيراً من قرائي يفضلون القراءة الورقية.. فتحياتي لهم.

وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.


قيّم هذا الموضوع
 

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الرياض" الإلكتروني ولا تتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك، ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر، وللإبلاغ عن أي تعليق مخالف يرجى الضغط على زر "التنبيه" أسفل كل تعليق

عدد التعليقات : 8
  • 1

    شكراً ياأستاذ محمد على المقال المبدع فعلاً مقال يتحدث حول صور المجتمعات0

    ثنيان (زائر)

    UP 0 DOWN

    07:36 صباحاً 2010/03/23

  • 2

    أستاذنا الوقور محمد الرشيد كل عام وانتم بالف خير وامدكم بالصحة والعافية والعمر المديد
    لقد وقعت كلماتكم علينا مثل ضربات السياط كلما ممرنا على مقالاتكم نشعر بحقارة أنفسنا وتفاهتها وتقصيرنا في واجبنا تجاه الدين وتجاه انفسنا
    صدق من قال نحتاج للنصح والإرشاد والتذكير في مثل حاجتنا للاكل والشرب...

    عزاز عبدالله السيد (زائر)

    UP 0 DOWN

    08:18 صباحاً 2010/03/23

  • 3

    مقال ممتع، وشعر كمن مزج بين أبي ماض وسعيد عقل وجيران.

    زهران (زائر)

    UP 0 DOWN

    09:07 صباحاً 2010/03/23

  • 4

    للأطفال والأوطان. ومن أعز وأغلى من هذين ؟!
    ليس هناك... أغلى وأعز من هذين!!
    إلا إن ضيعنا ما هو أعز؟
    فلا عزة لأوطان.. ولا لأطفال
    وفقك الله

  • 5

    وفقك الله واثابك
    وجعل عملك خالصا لوجه

  • 6

    هلا بالوزير السابق ...
    مقال جيد.. والقصيدة لا بأس بها

  • 7

    ورد الأذى عن كل شعب وإن يكن كفوراً!!!
    ما رأي صاحب المعالي في هذا البيت الذي ذكره بدوي الجبل ,, وهو في المقال السابق...
    هل يحمل خطأ في العقيدة سببه مبالغة الشاعر.
    فقد لاتكون المبالغة هنا محمودة.
    للمعلومة: أعجبت بالمقال السابق أيما إعجاب...
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    محب الطفولة (زائر)

    UP 0 DOWN

    12:00 مساءً 2010/03/23

  • 8

    أنت شايف إن العالم تعرف مكانك الطبيعي وهو *** التاريخ... نظير ماقدمته للتعليم أيام وزارة المعارف...
    كيف تفسر هذه المتابعة الضعيفة لمقالاتك من القراء؟؟
    إنها وعي بالمصلح من المفسد ولله الحمد لازال الشعب بخير وصحة عقلية بحيث أنه يميز بين كاتب مثل علي الموسى وكاتب يشبه الأخ محمد الرشيد..




  • شكرا لك ...
    تم ارسال تعليقك بنجاح إلى إدارة الموقع..

  • كما يسرنا عزيزي الزائر دعوتك للتسجيل في "الرياض" الإلكتروني لتحصل على مميزات العضوية ومنها:
  • التعليق باسمك الخاص والمحدد من قبلك بطريقة تلقائية
  • مساحات أكبر في التعليق ، وإمكانية التعقيب على المواضيع المنشورة (خلال 72 ساعة)
  • الاحتفاظ بنسخة لجميع التعليقات التي قمت بكتابتها في صفحة "تعليقاتي"
  • التحكم بخاصية الإبلاغ فور نشر التعليق عبر بريدك الالكتروني
  • التحكم بعدد التعليقات المعروضة في الصفحة الواحدة، وإمكانية ترتيب عرضها تصاعديا أو تنازليا
  • استلام "نشرة الرياض" الإخبارية عبر بريدك الالكتروني وإمكانية التحكم بآليتها من خلال لوحة التحكم
  • الدخول في السحب على جائزة الموقع الالكتروني "رحلة الأحلام" الشهرية

الاســم :
البريد الالكتروني :
نص التعليق :
ملاحظة: نرحب بكل مساحات الاختلاف في حدود الآداب العامة وأخلاقيات الحوار وضمن إطار الموضوع، ويرجى مراعاة الكتابة باللغة العربية مع حسن الصياغة وتجاوز الأخطاء النحوية والإملائية، التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الرياض" الإلكتروني ولا تتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك، ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر، وللإبلاغ عن أي تعليق مخالف يرجى الضغط على زر "التنبيه" أسفل كل تعليق.

 

 

إعلانات



الخيارات

عرض الأرشيف
RSS محمد الرشيد
البحث في الأرشيف
للتواصل ارسل SMS إلى الرقم 88522 تبدأ بالرمز (292) ثم الرسالة

إعلانات خيرية