Wednesday, March 24, 2010

أشهر عشرة بهلوانات في مصر





كان ياما كان في سالف العصر والأوان.. بهلوان، يضع على وجهه كل الأصباغ والألوان


وبعد حياة مليئة بالعروض والمسرحيات، قرر هذا البهلوان أن يقدم عرضا خاصا له لوحده أمام مرآة. صبغ وجهه بخطوط زرقاء وبيضاء، ووضع على أنفه كرة حمراء.. وضع على رأسه قبعة طويلة مزركشة الألوان. لبس ملابسه الفضفاضة وانتعل حذاءه الطويل العريض، وأمسك في يده عصا صغيرة وتحرك بطريقة حلزونية مثل دون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء. رقص فوق السلك ولعب بالنار، وشرع في تقديم أحسن عروضه. ضحكت المرآة، ولم يضحك البهلوان

عن البهلوانات نتحدث

إنها سلالة الهوان التي أصبحت هذه الأيام تتصدر عناوين الصحف وأعمدتها، وحفلات المجتمع الراقي، وكواليس صناعة القرار السياسي، وملاعب كرة القدم، وحفلات توقيع الكتب، والاتحادات والنقابات.. وغيرها من الخيبات

والبهلوان في مصر خرج من حدود السيرك وانتشر وتكاثر وأصبح نجم الموسم في كل مكان. سار البهلوان فوق كل الحبال، وانتقل من حبل إلى حبل، مثل لاعبي السيرك تماماً، ولكن ليس لأداء حركات أكروباتية أو أراجوزية تسعد الجماهير، وإنما لطعن هذا والنيل من ذاك، وسط ضحكة أو ابتسامة تشبه خنجراً عُمانياً حاداً. بعضهم استغل منابر الإعلام وبعضهم الآخر اتخذ من الدعاوى القضائية سبيلاً، وفريق ثالث لجأ إلى التشهير والإساءة إلى الآخرين، والهدف في النهاية واحد: المكاسب الشخصية
ويبدو أنها لم تعد بلد شهادات كما كان يردد "دسوقي أفندي" وكيل المحامي أو عادل إمام، وإنما "بلد بهلوانات صحيح"
هؤلاء وحدهم يستطيعون التسلق والتملق والتزلف

لقد رأينا من بهلوانات العصر من يصفق لقدمي القيصر حتى عندما تكونان ملطختين بدماء الضحايا أهلنا.. ومن يبتهل إليه أن يُعينه على بني قومه الذين لم يفقهوا قط أن الحاكم هو القضاء والقدر، وكل ما عداه عدم بعدم

ربما لأن البهلوانات ملأوا الساحة، وتفوقوا على أشباههم الذين تحدث عنهم يوسف إدريس في مسرحيته "البهلوان"، فقد قررنا أن نختار منهم عينة.. والعينة بينة. عشرة نماذج قد تكفي للاستدلال على الظاهرة المؤسفة في عصرنا ومصرنا. لن نشير إلى أسماء، ولسنا مسؤولين عن تشابه هذه النماذج مع أكثر من شخص، فالقلم مسؤوليتنا.. والتشابه إلى حد التطابق مسؤوليتهم هم
(1)


أحد هؤلاء البهلوانات، رئيس تحرير

رجل وظيفته الشتم والردح لكل من تسول له نفسه ويفكر مجرد تفكير في معارضة السياسات القائمة أو ينادي بالإصلاح والتغيير. وبأسلوب لا يخلو من السوقية، تجده يتصدى للمهمة، وقد يتبرع بذلك حرصاً على إثبات الولاء لدى أهل الحكم. غير أنه ينسى أن أهم أدوات الصحفي هو موهبة الكتابة، وأمضى أسلحته دقة المعلومة وموضوعية الأسلوب. أما صاحبنا فهو لا يجد حرجاً في فرش الملاءة وانتقاء ما لذ وطاب من قاموس يمكن أن نسميه "المُغني في الكلام المُتدني"
يكفي أن نشير إلى أن من عاداته المزاح الثقيل بالأيدي مع الصحفيين والعاملين في مؤسسته. وذات مرة استخدم يده الثقيلة في ضرب أحد العاملين على سبيل المزاح السخيف، الأمر الذي أدى إلى سقوط الرجل - الذي كان يعاني متاعب في القلب- ونقله إلى المستشفى للعلاج. غير أن هذا لم يردع صاحبنا عن مواصلة تهريجه بالأيدي مع أبناء مؤسسته الصحفية. ويحكي أبناء المؤسسة الصحفية كيف كان هذا الرجل حريصاً على ضرب الساعي الذي يعمل لديه، وكان يعمد في مراتٍ كثيرة إلى أن يطلب منه الاستلقاء على الأرض ليضع الكرسي الخشبي القديم فوقه، ثم يجلس على هذا الكرسي بجسده الثقيل، فيما الساعي يجأر بالألم ويطلب منه الصفح ووقف "اللعبة" اليومية السخيفة التي يمارسها رئيس التحرير، حتى يستلقي على ظهره من الضحك

سخافة تلتقي مع السادية في منتصف الطريق
أيام زمان، كان يطالب زملاءه العاملين في صالة التحرير في مؤسسته الصحفية بأن يتركوا أقلامهم ويدعوا أوراقهم ويستغنوا عن عقولهم قليلاً - أو كثيراً- كي يتحفهم بآخر مقتنياته من الأغاني الشعبية التي يهواها سائقو الميكروباصات ومن لف لفهم. وفي أوقات فراغه، كان يتربص بأعداء سيده ولي نعمته رئيس التحرير السابق، حتى إنه اعتدى بالضرب على أحدهم كي ينال الرضا من جانب رئيسه. لم يتورع يومها عن الإساءة إلى زميله، لفظاً وفعلاً، لعل الرجل الكبير يجد في ذلك دليلاً على الطاعة العمياء

وبالفعل، أثمرت تلك الخطة، فإذا برئيس تحريره يرشحه لدى السلطات لخلافته، مطمئناً إلى أنه سيضع رجله في مكانه. إلا أن البهلوان طبق نظرية "ازرع رجلاً.. يقتلعك"

"ندالة"
هكذا وصفه رئيس تحريره الذي يقول في حسرة إنه "اكتشف" متأخراً حقيقة رجله السابق
واليوم، يطل علينا هذا البهلوان بكتابات ركيكة وأسلوب فج يعكس ضحالته، في مساحة احتلها بحكم وضع اليد، وقادها كالسيارة الملاكي، ينجرف ويتحرك بها تارة ويناور بها تارة أخرى. المهم أن يستمر عطف أولي الأمر ويواصل أداء وظيفته كبهلوان يرتدي الزي الرسمي

(2)
في كتابه "محاوراتي مع السادات" يقول أحمد بهاء الدين: "وفي صحفنا، لا تخلو صحيفة على الإطلاق من "محررين نشطين" يعكفون على كتابة التقارير إلى أصحاب السلطة مع اختلاف في المستويات: بدايةً ممن يرتفع مستواه على الكتابة إلى المباحث. وهي كتابات أثرَّت كثيراً في حياة الصحافة والصحفيين وعلاقات المهنة بالسلطة"

رحم الله أحمد بهاء الدين، فكأنه يتحدث عن بهلوان آخر، تم تعيينه مندوباً لصحيفته في وزارة الداخلية، فاختلط عليه الأمر وأصبح مندوباً للداخلية لدى صحيفته القومية

أوراق "الدشت" التي اعتاد الصحفيون كتابة موضوعاتهم عليها زمناً طويلاً، كان لها غرض آخر بالنسبة له. فقد دأب على كتابة التقارير عن زملائه والإبلاغ عن أي حوارات أو مواقف تظهر معارضة لرئيس التحرير الذي طال بقاؤه في منصبه بالمخالفة لكل القوانين، أو تفوح منها رائحة التحفظ على سياسات الحكم والحكومة. وبحبر أسود تماماً مثل قلبه، كان يكتب ويكتب عن سلوكيات زملائه، ويستغل مواسم انتخابات نقابة الصحفيين كي يلعب دور قلب الدفاع لحماية رئيس التحرير من شغب المشاغبين ومعارضتهم له. كان يستميت على الصناديق ويراقب بعينين ضيقتين زملاءه الناخبين، ويقود حملة لتلميع قائده، حتى إنه هتف ذات يوم في قلب نقابة الصحفيين: "خيانة.. خيانة" بعد اكتشاف تصويت عدد لا بأس به من صحفيي مؤسسته لصالح مرشح آخر غير مرشحه الأوحد

ودارت الأيام، وانتقل صاحبنا من الصحافة المكتوبة إلى الصحافة المرئية، مع أنه يفتقد القبول من حيث الشكل والموهبة من حيث المضمون، لكن يا لحظ "من كان الأمن خاله"
ولا يحتاج أحدهم لجهد كبير يذكر كي يلاحظ ضعف قدرات صاحبنا على الشاشة، فلا هو مذيع لبق ولا هو مقدم برامج ناجح، وإنما هو مجرد "رقيب أول"، وبالتالي فهو يتعثر ويتلعثم كلما فتح فمه، ويرتكب الكوارث إذا انطلق في حديثه مثل شاحنة ترتج على الطريق الصحراوي، فيقع في المحظور ويثير دعوات أصابها العفن بالتحريض والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.. وأبناء الأمة الواحدة إن لزم الأمر

"اخرجوا إلى الشارع واقتلوا أي واحد منهم"
هكذا صرخ ذات يوم على شاشة التليفزيون، محرضاً على القتل والعدوان، لمجرد أنه سمع شائعة فآمن بها، ورأى أن الحل هو الفتك ب"الأعداء".. الذين كانوا في هذه المناسبة أشقاءنا
يا ليته يصمت ويتخلص من عباءة الأمن التي تلاحقه ليل نهار
(3)


بهلوان وألعبان آخر، قادر ببراعة منقطعة النظير على تقديم آيتين على الأقل من آيات المنافق "إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف"
فقد تعهد باعتزال مهنة الادعاء والتفرغ لعمل آخر.. إدارة محل للورود مثلاً
استبشرنا خيراً، فالرجل له سقطاته المهنية الكبيرة، ويهوى إطلاق الأحكام مع وصلة مزعجة من الزعيق والصراخ غير المبرر، لكنه على ما يبدو ابتلع وعوده وشرب فوقها كوباً من المياه المعدنية
ويبدو أن الفتى الذي يجيد التمثيل، يعرف جيداً أنه بحاجة إلى هذا المنبر الإعلامي كي يواصل حصد المكاسب الشخصية والعائلية.. وعن تلك المكاسب والغنائم حدث ولا حرج
وحين يجد الجد، ينسب المذكور إلى الرئيس مبارك قوله لمعاونيه "محدش يقرب من....". ولم لا، والعائلة كلها تهوى "تلميع" الصورة في الانتخابات والأمراض والأحزان.. لا فرق
وحكايات هذا البهلوان كثيرة، ومن ذلك حكاية تبنيه لاتهامات أوردتها صحيفتان محليتان دون أي سند أو دليل، عن سلوكيات لاعبي المنتخب واصطيادهم فتيات ليل في ليالي بطولة كأس القارات في جنوب إفريقيا عام 2009. وبعد أن شخط ونطر، وسخر قائلاً: "هو ده منتخب الساجدين"، وتكلم عن رائحة النجاسة، اكتشف في نهاية الأمر أن مصدر الرائحة أقرب إليه مما يتصور، فعاد نادماً ومعتذراً وبراءة الأطفال في عينيه، خاصة بعد أن قدم رئيس اللجنة المنظمة لبطولة كأس القارات ومونديال عام 2010 دانة جوردان اعتذاراً رسميا لبعثة منتخب مصر عن هذه الشائعات، فيما تلقى رئيس بعثة منتخب مصر خطاباً من شرطة جنوب إفريقيا تنفي فيه علاقتها بما نشر في صحيفتين محليتين

والأكيد أن أخلاقيات المهنة باتت ليلتها تبكي دماً، لأن المذكور تبنى معلومات وتقارير تفتقر إلى الدقة والمصداقية، وتجاهل من يخالفونه الرأي، ولجأ إلى سلاح الاستهجان، وخلط الرأي بالخبر، فكأن ما كان
وفي مناسبة أخرى، ارتدى ثوب الجنرال، وأخذ يوجه سهام انتقاداته إلى الجزائر أثناء السباق لانتزاع بطاقة التأهل إلى مونديال جنوب إفريقيا. أطلق صاحبنا الشرارة الأولى مبكراً ومنذ مباراة الجزائر ضد رواندا حينما صدح بدعائه الشهير "يا رب نكِّد على الجزائريين"، لتتوالى بعدها التصريحات النارية والتعليقات غير الرياضية التي تورطت فيها فضائيات مصرية وصحف جزائرية. وفي نهاية الأمر، أصبح المُحرِّض التليفزيوني المنتصر الوحيد في معركة تراشقٍ إعلامي وسياسي خسرناها جميعاً

لقد ابتدع هذا المحرِّض "إعلامه الخاص"، ذلك الذي تحل فيه الشتائم والكلمات النابية محل الوصف والتعليق، وتتم الاستعاضة عن نقل الأخبار ومتابعتها باختلاقها والتهويل من شأنها

ولا يخفى على أحد حقيقة أن نجومية هذا البهلوان تنبع من سياسة الأرض المحروقة التي تشهدها مصر، فلا يصعد إلا من يجيد التسلق أو يجد له ظهراً يحميه أو جهازاً أمنياً يدعمه أو مالاً يرفعه.. وفي ظل هذه المعادلة المبتورة، يصبح للصغار من النجومية نصيب، ويسهل استمالة الجمهور الطيب والمنبهر بالشخص على حساب المضمون، بكلمات جوفاء وشعارات زائفة

ولعل من عرفوا الفتى أيام دراسته وبعد تخرجه في الجامعة، يتذكرون كيف كان يجأر بالشكوى من إهمال شقيقه الأكبر له، وكان الشقيق في تلك الفترة يرفل في نعمة الكتابة الرومانسية في لندن على طريقة "قلبي برتقالة، أشطره نصفين.. نصف لي ونصف لك".. فلما تذكره الشقيق وأفاض عليه من الخير الذي ناله، تغيرت حاله وأحواله، فهجر الزوجة الأولى والابنة الصغيرة، وارتبط بأخرى تناسب المرحلة
بل إنه اخترع طريقة غريبة لتحية أصدقاء الأمس: السلام بالحاجبين
فهو يرفع حاجبيه عندما تشاء الظروف أن تقع عيناه على صديق أو زميل دراسة قديم، حتى يكفي نفسه مؤونة السلام والكلام مع من يعرفون ماضيه.. وحاضره

أما آخر أخبار الفتى فهو أنه يردد في جميع مجالسه جملته الأثيرة "محدش يشبهني"

وهذا من رأفة الله بعباده.. وحسن حظنا جميعاً

(4)

في ملاعب السياسة، هناك من يجيد التلون والتحول، حتى طلبت منه الحرباء تعليمها دروساً في التنكر وتغيير الجلد
فها هو الرجل القادم من رحم التنظيم الطليعي في عصر مضى، يقود حملة الدفاع عن سياسات تخالف قناعات الأمس. لقد كان أحد الصاعدين في التنظيم الطليعي الذي أسسه الرئيس جمال عبدالناصر عام 1962 كأحد تنظيمات الاتحاد الاشتراكي العربي لتطويره، وقياس الرأي العام ونقل اتجاهاته ومشكلاته، إلى أن قام الرئيس السادات بحله عام 1971
غاب صاحبنا زمناً عن الأضواء واختفى في أروقة الجامعة، قبل أن يعاود الظهور مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي مدافعاً ومنافحاً، حتى بايعه كثيرون كأفضل "مبرراتي" في البلد

وفي قلب أزمة عصفت بالموقف العربي إبان حرب تحرير الكويت عام 1990، تمت الاستعانة به لكي يتولى "التكييف" القانوني لقرار مشاركة دول عربية ضمن قوات التحالف الدولية في هذه الحرب. يومها تكفل قائد الثورة الليبية معمر القذافي على رؤوس الأشهاد بإهانة هذا البهلوان، الذي قرر في لحظةٍ ما تقليد الفنان عادل أدهم في دور "زكي قِدرة" وعبارته الشهيرة " ادبح يا زكي قِدرة.. يدبح زكي قِدرة، بيع يا زكي قِدرة.. يبيع زكي قِدرة، اهرب يا زكي قِدرة.. يهرب زكي قِدرة"

رجل لكل العصور، كأن الزيني بركات يعود إلى الحياة من جديد
يهوى استرضاء السلطان، وكبح جماح طموحه السياسي، إذ مازالت في القلب غصة من هزائم الماضي بعد قضية مراكز القوى في عام 1971
وعندما تولى رئاسة جامعة عريقة، تم اعتقال الطلاب من داخل الحرم الجامعي، ويومها أنحى باللائمة على الطلاب أنفسهم لمخالفتهم اللائحة
وهتف الطلاب ضده "يا.. يا.. هتروح فين يوم الحساب" بعدما وافق على شطب الطلاب المنتمين لقوى سياسية معارضة من كشوف المرشحين لانتخابات الاتحادات الطلابية
لكن الرجل أغلق عينيه وأصم أذنيه حتى لا يرى أو يسمع ما يؤرق ضمير رجل العلم والقانون. فهو يقدم نفسه دائماً كموظف مطيع مثالي يجيد تنفيذ التكليفات، حتى وإن اتهمه رجل الشارع بأنه أحد "ترزية" القوانين
إنه من النوع الذي يستدعي إلى الذاكرة فوراً مقولة وزير الإسكان الأسبق حسب الله الكفراوي "اللي بيقولوا لأه خلصوا"
بل إنه لا يتورع عن التصدي لكل من يرغب في ممارسة حقه الديمقراطي في الترشح خارج إطار الحزب الحاكم، ويشير كثيرون إلى أنه لم يجد بأساً في استنكار فكرة ترشح د. محمد البرادعي لمنصب الرئيس بعد أن أخذ عليه عدم تعرضه "
"للمرمطة" في مصر

ولم يكن أحد يعرف من قبل أن "المرمطة" شرط أساسي للترشح لمنصب الرئيس
حين قال إن مشروع قانون جرائم النشر يهدف إلى تحقيق مزيد من الحريات، كتب أحمد رجب في "1/2 كلمة" مردداً جملة صاحبنا، قبل أن يعلق بذكاء قائلاً: "انتهت النكتة"

يمكنك أن تجده متحدثاً عن كل شيء: أمن الخليج، الرياضة، موسم الحج، وإنفلونزا الخنازير
ويبدو أنه مفيد جداً للحكومة.. ضار جداً بنفسه

(5)

الرجل الذي كان يفترض به أن يكون باحثاً كبيراً، انتهى به الأمر سياسياً صغيراً
فلا الحصانة تنفع، ولا ضخامة اللقب تخفي الثقوب التي أصابت ثوب هذا الذي كان في طريقه إلى أن يصبح أستاذاً جامعياً مرموقاً، فإذا به ينزلق إلى متاهة التوزير، فيصير وزيراً يتقن لغة برقيات التهنئة إلى أصحاب المقام الرفيع من ساكني قصور الحكم، أكثر مما يجيد إدارة شؤون وزارته

تلغرافاته المُعلبة والمنتهية الصلاحية، كانت حديث الناس أيام توليه الوزارة، فكل نصر رياضي إنما من هو عند الحاكم، وكل هدفٍ نسجله تستحق أن نشكر عليها أبانا الذي في السلطة
لقد استسلم الرجل لنداء "نداهة" السياسة وغواية المنصب، فإذا به يستغني عن حلمه العلمي ومشروعه الفكري ورسالة الدكتوراه المهمة التي أنجزها في فرنسا، فيتضاءل تارة ويتضخم تارة أخرى.. يغيب بضعة أعوام بقرار، ثم يعود إلى الصورة بعدها بقرار ثان، كأنه أداة يسهل استخدامها وقت اللزوم

ومصيبة الأرنب أنه يخرج من قبعة الساحر، ليصفق الجمهور

(6)

هذا بهلوان طبق استراتيجية اتحاد الطلاب على الحياة، فحقق نجاحاً جعله الآن محمولاً على أكتاف أنصاره، فيما يضرب غيرهم أخماساً في أسداس متسائلين: من أين خرج لنا هذا البهلوان؟
والذين يعرفون هذا البهلوان يضحكون كثيراً حتى تدمع أعينهم عندما يتذكرون كيف استفاد هذا الرجل من تجربته الجامعية، ليس في مجال تحصيل العلم، وإنما في مجال تحصيل آخر. ومن بوابة لجنة الكشافة والرحلات اكتشف هذا الشاب طرقاً وألاعيب للتسلق والوصولية والاستفادة الشخصية.. فإذا خرج وصحبه من رحاب الجامعة إلى فضاء الحياة، سقط عدد من رفاقه تحت حافر تهمة تقاضي الرشوة أو "الزيس" في مغارة ماسبيرو المذهلة، أما هو فقد آثر السلامة، وبنى شعبيته بطريقة اتحاد الطلاب في كليته الذي كان أحد أعضائه لسنوات. التصق الرجل بمن أعلى منه منصباً وصار خادمهم المطيع، في حين لم يتقدم كثيراً في مهنته الأصلية التي أبقاها على الهامش وأجلسها على مقاعد البدلاء، مفضلاً عليها استرضاء رؤسائه في المبنى الكبير المترهل

ومن "بيت الطاعة" إلى بيت أصغر حجماً، ارتضى لسنوات أن يبقى رجل الظل لرجل أكبر وأكثر نفوذاً، حتى إذا حان الوقت كي يغادر الرجل الكبير المشهد، جاء بساعده الأيمن لكي يدير شؤون البيت، على رغم افتقار الأخير لأي إنجاز في هذه الصناعة، فإذا به يقتنص لقب صاحب البيت.. وليذهب أهل الدار إلى الجحيم
(7)
من بيته الريفي المتواضع كان يحلم بالمجد الذي ينتظره

من حق أي شخص ان يحلم. المهم هو كيفية تحويل الحلم إلى حقيقة. الأهم هو ما الذي سنفعله بتلك الحقيقة الجديدة
مشوار طويل قطعه في ميادين الرياضة، هذا الشاب القادم من الأقاليم، حتى أصبح من أشهر نجوم اللعبة. وبعد ممانعة، أقر بأن الوقت حان كي يترك الساحة لمن هم أصغر سناً وأكثر لياقة. وبعد الاعتزال، بدأ النزال. ومن بوابة الإعلانات والتوكيلات الرياضية صنع مزيداً من المال والتربيطات، حتى بدأ يشتهي مجداً آخر، فحاول مرة واثنتين حتى تحقق له ما أراد. ولأن الإعلام ليس له صاحب في بلادنا، وجدناه يطل علينا معلقاً وناقداً في الرياضة أولاً وغيرها تالياً. الغريب أنه يقول بملء فيه إنه يعد رمزاً كبيراً في الإعلام الرياضي، لأنه نجح في انتشال رجال الإعلام الرياضي، وساهم في رفع رواتبهم إلى الآلاف بعدما كانت بمئات الجنيهات
وهكذا الرمز.. وإلا فلا

المجموعة المحيطة به تقول إنه تغوَّل، ولم يعد قطاره قادراً على التوقف في أي محطة، كأنما أصابت المكابح مشكلة، وغابت القدرة على وقف هذا الاندفاع
لم يكتف بالشهرة في الصندوق الصغير، فإذا به يتطلع إلى حصة أكبر من الكعكة عبر دهاليز الحزب وكواليس الانتخابات
المشكلة أنه سقط في فخ النميمة والحكايات المذمومة، وسرعان ما صنع لنفسه أعداء أكثر مما ربح من الأصدقاء، ووَّرطته زلات لسانه مثلما أوقعت به شراهته إلى مزيد من النجاح. وبدأت التهم تلاحقه والشائعات تطارده، وهو لا يأبه لخصومه ويستخف بهم. غير أنه أخرج الجنيّ من القمقم، وفشل في إعادته إلى مكانه، فإذا بالجنيّ يقف أمامه عملاقاً، وهو يتضاءل ويصغر في ظل الحلفاء الذين انفضوا عنه وباعوه بأرخص الأثمان

"تهم كيدية". هذا ما كرره الرجل في معرض دفاعه عن نفسه ومصالحه، وكاد البعض يصدق ذلك لولا أن جانباً من هذه التهم مثبت بالصوت.. والصورة

موقف اضطر معه في النهاية إلى رفع راية الاستسلام طالباً الصفح ومنادياً بأن الصلح خير

والله يسلط دوماً بهلوانات على بهلوانات
وما بين حكماء يرون أنه أخطأ التدبير والتقدير، وشامتين يرون أنه "من أعمالكم سلط عليكم"، يقف الرجل أمام مفترق طرق، باحثاً عن مخرج من المصائب التي قلبت حياته رأساً على عقب، بعد أن ظن أن الدنيا شطبت اسمه من سجلات الأزمات

(8)

البعض قد يهوى القراءة، البعض الآخر قد يهوى السباحة، وفريق ثالث قد يفضل مشاهدة الأفلام
أما هذا الرجل فهوايته الأولى، وربما الوحيدة هي التنغيص على الآخرين وإثارة الضجيج حول أي شيء وكل شيء
"بتاع كله"
مهنته الأصلية محام، لكن القضاء العالي والنزيه يبدو بريئاً من إزعاج هذا الرجل الذي يسعى إلى إقامة دعاوى قضائية على الآلاف من عباد الله، ربما بسبب تصريح أو قرار، وربما أيضاً بسبب حوار تليفزيوني أو حتى مشهد سينمائي. وفي كل مرة، نراه يصرخ متحدثاً عن الملابس الداخلية لهذه أو تلك، ومحاسباً أي امرأة معروفة عما ظهر منها.. وما بطن
النتيجة لا تهم، فالمهم بالنسبة له هو المهم هو الضجة في حد ذاتها

وفي إحدى القضايا المثارة حديثاً، ظهر وسط الزحام بصوته الجهير كأحد رافعي الدعاوى في القضية بالأصالة عن نفسه، وطلب تعويضاً مقداره ملياري جنيه مع أن أحداً من اطراف القضية لم يوكله بها ولا علاقة له من قريب أو من بعيد بالقضية وأطرافها. ويتندر كثيرون بالحديث عن طرافة الدعاوى التي يرفعها أو البلاغات التي يقدمها للنائب العام وتكون في الغالب في موضوعات لا تعنيه وليس طرفاً فيها ولم يكلفه أحد بها.. وليس مستغرباً أن نجده مطالباً بتطليق كاتبة من زوجها وتقطيع أرجل ممثلة وطرد معلق رياضي. لم يسلم منه أحد، خصوصاً نجوم الفن والفكر والرياضة

تراه جالساً إلى مكتبه المكدس بأوراق قضايا وهمية، حريصاً على إبراز نفسه في ثوب المدافع عن القيم والأخلاق، في حين أن معظم القضايا التي تم توكيله للترافع عنها لا تخرج عن جرائم يكون فيها المتهم متورطاً حتى النخاع في مخالفات مهنية وأخلاقية جسيمة، أو حتى جرائم قتل تثير شبهاتٍ لا تحصى وعلامات استفهام لا تنتهي
زعيقه أمام عدسات المصورين في القضايا الكبرى التي لم يدع إليها أصلاً، وحديثه عن العفة والأخلاق، يتناقضان كثيراً مع دفاعه عمن أصابوا المجتمع بجراح الطائفية حيناً، والصدمات غير الأخلاقية حيناً آخر
الرجل - بحسب كثيرين- شبه عاطل عن العمل ويتكسب من خلال الدعاية لنفسه عن طريق إقحام نفسه في أي موضوع إعلامي أو شخصية مشهورة طلبا للشهرة
اسمه ليس على مسمى، والله أعلم
(9)


"ملك الحسبة"

حين نزلت قضايا الحسبة على أرض مصر المعاصرة، صعد نجم هذا الرجل بطريقة عجيبة غريبة

يفاخر الشيخ - كما يلقب- بأنه "التطور الطبيعي للحاجة الساقعة".. فهو الذي يقاتل للتفريق بين الأزواج وتكفير هذا وذاك، وهو الذي يصادر الأثاث ويقاضي الشعراء والمفكرين وأصحاب المؤلفات وكُتاب المقالات
حروبه ضد التفكير تقوده دائماً إلى التكفير
تراه يقود حملة ضد مثقفي مصر ورموز إبداعها، وضد كل فكرة من شأنها التجديد في الفكر والممارسة الإسلامية، بدءاً من إعادة تفسير النص الديني وصولاً إلى حظر ختان الإناث. كلما اختفت زوبعة من الزوابع التي يثيرها هذا الشيخ في الإعلام بسبب ملاحقته لهذا المفكر أو المثقف أو الفنان حتى يثير زوبعة أخرى

أدمن المزايدة على التحدث باسم الدين، بحيث يظهر بمظهر حامي الدين، بما يخفض من سقف الحريات أكثر فأكثر ويحاصر الإبداع والمبدعين
وعندما أراد بعضهم اصطياده بالسلاح نفسه وافتضاح أمره وطرق متاجرته باسم الدين عن طريق تقاضي مبالغ مالية مقابل الرقية الشرعية، أرغى وأبد، وعاد إلى مزاولة هوايته المفضلة: إقامة دعاوى قضائية ضد خصومه
لم يتورع هذا الرجل عن إقامة دعاوى قضائية حتى ضد غيره من علماء الدين رجالاً ونساء
الطريف أنه في برنامج تليفزيوني عرضته إحدى قنوات التليفزيون في مصر، اتصلت ممثلة معروفة بأدوار الإغراء التي تؤديها، وكان الشيخ حاضراً في الاستويو، فابتسم وتهلل وجهه قبل أن يقول: "..... تلميذتي، سلمولي عليها"
"فتح الله عليك يا عم الشيخ"
يومها تساءل البعض عن سر إعلان هذا الشيخ على الملأ بفرح طفولي أن هذه الممثلة تلميذته، وحكاية استشارته له باستمرار، وهذا يفتح الباب أمام أحد احتمالين لا ثالث لهما: إما أن الشيخ لا يرى أفلاماً أو حتى إعلانات الأفلام التي تقوم هذه الممثلة ببطولتها، أو أنه يرى أدوار الممثلة بصفة دائمة ويوافق على كل ما تقدمه
وكلا الأمرين مثير للاهتمام، خصوصاً إذا علمنا أنهما – كما قالت الممثلة- جيران وأبناء حي واحد
عادي.. في المعادي
والجيرة قد تزيل أسباب الحيرة


(10)


من خانة إلى خانة ومن ديانة إلى ديانة، تبدو هذه المرأة لغزاً كبيراً، وإن يكن هناك من يفسر الأمر ببساطة على أنه رغبة في الشهرة والاستئثار بالأضواء

سيدة في منتصف العمر، انفعالية إلى حد كبير، ترد على محاوريها بحدة، وترفع نبرة صوتها في الحديث، وتقاطع الرأي المخالف لها بصورة لا تخلو من استفزاز

تطوعت ذات مرةٍ للدفاع عن ضحية قضية شهيرة في التحرش الجنسي. وبعد النطق بالحكم، قالت إن هذا انتصار للفتاة وللمرأة المصرية، وليت كل البنات مثل هذا الضحية حتى يأخذن حقوقهن، ليعلم كل متحرش أن جزاءه ثلاث سنوات "ورا الشمس"، ثم ما لبثت أن تحولت من موقف الدفاع إلى الهجوم، فاتهمت الفتاة المجني عليها بحمل الجنسية الإسرائيلية، بل ودافعت عن السائق نفسه، لأنه حسن النية كان يبعد الفتاة عن سيارته، فلم يجد في يده إلا صدرها ليمسك به، وهو ينبهها قبل أن تصدمها سيارته المجنونة

ورددت عبر وسائل الإعلام غير ذلك من أقاويل، تبين للجميع لاحقاً أنها كاذبة وادعاءات ملفقة

هوايتها إثارة الغبار، وهي قد تهيل التراب على أي شخص أو إنجاز، لمجرد تسليط الأضواء عليها ولفت انتباه المراسلين وعدسات المصورين، فمن أجل التليفزيون.. كله يهون

الفتاة الدمياطية المحجبة، تحولت بقدرة قادر إلى حقوقية تطالب بإلغاء التقيد بالشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع باعتبارها "كلام فارغ". ثم ألقت بقنبلة لها دويها في المجتمعات الهشة: اعتناق دين آخر
دع عنك حكاية تغيير الدين هذه، فاعتناقها ديانة جديدة لا يعني بأي حال الضرر لديانتها الأولى أو الفائدة لديانتها الثانية، غير أن الأخطر في رأينا هو الفصام في الشخصية الذي أحاط بتصرفاتها من كل حدب وصوب
إذ لم يمض على خبر تنصرها الكثير، حتى عادت لتؤكد رفعها دعوى الخلع ضد زوجها؛ لأنها أصبحت "تبغض الحياة معه"، رغم أن "الخلع" ينتمي إلى الشريعة الإسلامية وليس المسيحية

تحدث البعض عن حصولها على أموال تبرعات مقابل تغيير قناعاتها الدينية، لكنها نفت ذلك، مع أنها شنت هجوماً حاداً على شخصيات بالاسم قيل إنهم هم من يقومون بدور الوساطة لأنها أرادت أن تحرقهم أمام من يدفعون، ولترفع الوسطاء من طريقها، لتحصل هي مباشرة علي التبرعات، فلا داعي للسمسرة في منتصف الطريق

وما أصعب أن تجد أمامك إنساناً لا يهمه سوى الجري وراء أهواء شخصية، من المال والشهرة والأضواء

في مناسبة حديثة، قامت من مقعدها غاضبة أثناء انعقاد مؤتمر، لتحتج في مداخلة حادة على عدم دعوتها للمشاركة والإدلاء برأيها في فعاليات مؤسسات المجتمع المدني بسبب موقفها الديني
إنها اللغة الوحيدة التي تتقنها: الصراخ، أما أبجدية هذه اللغة فيمكن اختصارها في كلمة واحدة: التقلب

........

انتهت الحكاية.. وبقي البهلوانات
ولا عزاء للمتفرجين

Sunday, February 21, 2010

مراودة





كم يقصرُ العمرُ حين يلثم ثغرُنا يدَ الحياة
كم تلهبنا سياطُ القلق حين نبذرُ حنطة العشاق ونقطن منازلَ الألوان
فالنجوم استقالت من معسكرها العلوي، والمدينة لم تعد تلقي بتعاويذ الشغف على العابرين
حتى الابتسامة التي سقطت على العشب لن تُسترد
عزاؤنا الوحيد هو أننا لم نُلبس التاريخ طاقية الإخفاء، ولم ننس إيكاروسَ وهو يقتحم مدارَ الشّمسِ
هكذا نَمَت لنا في هذه المدونة أجنحة طرنا على بساطها أربع سنوات كاملة
هكذا التقي حبري على ورقكم، حتى تَجَرَّحَتْ بالعطرِ أرجاءُ المكان
في هذه المدونة دوَّنت أسماء أحبتي لأثبت أني كنت يوماً ما على قيد الحياة
وأنا غريبٌ لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان
سيف الظمأ في فمي، والنخلة الوحيدة لا تشرب صهد الصحراء
ثمة ليل نهمٍ للخوف يترصدني، يبعثرني مثل ريح مصابة بالصداع، قبل أن يستخرج جمرةً من الصدر حسبتُها منذ دهورٍ رماداً
البعض يصلي الظهر، والبعض الآخر يصلى القهر
لكنني ارتديتُ معطفَ اللغة التي تأخذني إلى ظل الماء الدافق والواثق، ثم تنهض في ندى شفاف كالأرواح لتعانق صفصافةً فوقها تتمزقُ الغيوم كأقمشةٍ بالية
عند مفترق الطرق كتبنا، ونفضنا طحالبَ الوقت حتى تتساقط الأزهار لتنام في راحة اليد
ولأننا مشاغبونَ بالفطرة، فقد سطرنا كلمات تأخذ شكلَ ألسنة طيور وركضنا فوق كرومٍ تعيدُ تشكيلَ الحياة
صدمتنا التفاصيل الصغيرة، لكننا على الأقل دخلنا غرفة المعرفة وتحسسنا جدرانها بحثاً عن زر الإضاءة
خضنا معارك في ساحة الوعي، واستبسلنا في نصرة الحقيقة، ولم ننتظر الأوسمة
والمدونون نوعان: كاتب.. وكاذب
هناك من يدخل من باب الضوء الضيق، ويمشي الزقاق إلى حدود الأرض.. يمضغ قلبه بالموهبة والبديهة الحاضرة ويلوك عينيه الغائرتين لينظم قصيدة
وهناك حشوة الفلين في الطرد الذي يسلمه عامل البريد السريع، والمرأة التي تتغنى بشعرها المستعار، وثرثرة الهاتف التي تفرز تعليقات سمجة وأكاذيب مهشمة
بعض الكتابة جناية: بارودٌ متخثر في بنادق صدئة يكرهها الجدار
وبعض التدوين ابتلاء: حراسُ أضرحةٍ يُعِّمدون بدموعهم هول الضحايا
وبعض الحديث هذر: فخٌ مُحكَم من الثرثرة يُذيقك مرارة الهدر
وبعض الأقلام تائهة: أضواء فلورسنت رخيصة في مطعم للوجبات السريعة
إنها لعنة الغفلة، كمن يبحث في جيوبه عن آخر القطع المعدنية أمام آلة دفع الرسوم
وكلما ضاعت أهدافك كلما قتلت نفسك، وغرقت في نومك كإصبع معقوف
أما نحن، فقد راودنا النصوص وواجهنا اللصوص
أكملنا "أثرياء مصر زمان.. والآن" عن رجال الأعمال الذين صنعوا المال ولم يصنعهم، وأبناء الرغبةِ في الفراغ الذين تَتمايل مُؤخِراتُهم في الهواء بخفَّةٍ
واصلنا "كتاب الرغبة" عن نساء كانت خطيئتهن الوحيدة هي البوح
جميلات يُولَدُ ألفُ ربيعٍ شهيٍّ على شفاههن، وحين يشَفّهُن البوحُ يتمردن على العزلة، ليصبحَ مشيُهن نوعاً من الطيران الخفيف، فالجسد العاري سيرةٌ ذاتية تمتص النزوات كمنديل ورقي
وعندما تكونُ امرأة سعيدة، يهدهدُ ضياؤها الأحلام
تذوقنا "الصورة إن حكت: لن يمروا".. كم يعلمنا العنكبوت قوة النسيج وهو يتصنّعُ الهدوء، وتلقننا الرئة الحرة دروساً في التنفس
لم يكن هذا كل شيء
كانت حكاياتنا بدوية تضع الكحل حتى تصير قيثاراً يوقظ غبش الفجر
وكرت حبات السُّبْحة
"فتوات تحت الطلب" عن الذين نقشت عليهم الشَّمسُ لهبَها، فأشعل بعضهم الحرائق وسقط آخرون في وحل الرصيف
"البحث عن وزير" عن قوانين اقتناص الكراسي المستظرفة، على وزن الأواني المستطرقة
هؤلاء الذين يجلسون فوق المقاعد الوثيرة دون أن ينطقوا بملاحظة أصيلة ولو مرة واحدة في حياتهم
"الإدارة العاجزة" عمن لا نخشى نارهم ولا نطمع في جنتهم. عن هؤلاء الذين يشبهون بطانية أو حقيبة إسعاف أولية لا تجديان نفعا
نافذون في النهار، ينامون على أرق يطول؛ لأن أصوات الشارع تقلقهم
كيف يحقق العاجز معجزة؟
"ذئاب الفصول" عن تلك النظرة الضيقة الخبيثة، والبراءة التي تخشى ضلال الأصابع بين أربعة جدران، وتلك المقاومة الطويلة المضنية للنصل والأنياب في مقاعد الدراسة
"قضية الراهب المشلوح" عن الذين أغلقوا الأيام خلف نهارهم
والليلُ مصباح العمى، والأبيض أمنية الضرير
"جرائم المعطف الأبيض: جنس وقاصرات.. وفياجرا" عن أطياف الملائكة الذين صاروا أشباه شياطين
"جنس الإخوة" عن الرجال الذين أذعنوا للكبت والكراهية
ما أصعب اقتلاع سنّ من لثّة متورِّمة
"صعود على مهل" عن المدن التي ترتعش كأمنية، والموسيقى الهادئة التي تبطىء بشكل غامض إيقاع العالم
وكلما كتبنا أكثر، كلما أصبحت الأحلامُ أغنى والأفكار أغلى، وتطهرنا من تسعة أعشار ذنوبنا
وكان لابد للشجرة من ثمار
أنجزنا كتاب "جرائم العاطفة في مصر النازفة" عن انطفاء القلوب العارية، وعربدة القراصنة في الأجساد المستباحة، وكهرباء الصاعقة التي تسمم الذكريات
روح الانتقام طفل بليد يمزق دفاتر الفروض المدرسية، وقاتل مأجور يحتفظ بالموت في صندوق سيارته السوداء، وينتظر اللحظة المناسبة للتفريق بين حبيبين يوشكان على العناق بعيداً عن الأنظار
وأصدرنا كتاب "يوميات ساحر متقاعد" عن العاشق الذي يعرق بكلمات ترشح من مسام قلبه، والقبلات الطائشة التي ترقد بسلام في مقبرة الذكريات، والسيدات الموسومات بالعشق، اللاتي يطرحن بعد المضاجعة السؤال السخيف ذاته: "هل تحبني؟"
ونشرنا كتاب "فيلم مصري طويل" عن الأشباح اليومية في أوطاننا التي تجعل القهوة دائماً سيئة المذاق
ها نحن نشرب نخبَ أيام مضت، نحتفي بالمنفى ونرقب من خلف الستائر سفينة تغمرها طمأنينة عدم الوصول
أيها الصيادون: وحدها المحارات المغروسة عميقاً تحمل اللؤلؤ

Sunday, February 14, 2010

كتاب الرغبة (23): الحريم.. والحريق



هذه سيرة ذاتية مكتنزة بالشخصيات والأحداث والتجارب والأمكنة
من خلف حواجز الزمان تفتح فاطمة المرنيسي كوة تطل بها على الماضي، الذي يفر من بين أصابعنا كساحرةٍ فزعة تغادر القصر حين يبزغ ضوء النهار
إطلالة على نساء يهبن العشب خضرته ويسمحن للسماء بالزرقة، في وجه رجالٍ حظروا الألوان وصادروا رحيق الزهور
يعبر كتاب "نساء على أجنحة الحلم" (فاطمة المرنيسي، ترجمة: فاطمة الزهراء أزرويل، منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي، 1998) عن السيرة الذاتية للكاتبة منذ بداية طفولتها وإدراكها بشكل خاص، من خلال أحداثٍ وأحاديث عن العلاقات والمحرم والمباح من الأفعال والأقوال، وخصوصاً ما يتعلق منها بالحريم المغربي
وبأسلوب سردي ممتع ومميز، تصف فاطمة المرنيسي نشأتها وطفولتها وعائلتها الكبيرة، لتلقي الضوء في الوقت نفسه على مجتمع المغرب، بعاداته وتقاليده إبان احتلال الإسبان والفرنسيين لشمال وجنوب المغرب. وهي تأخذ بيد القارىء في جولة بين ساحات المغرب وأزقته، حتى يكاد يسمع أحاديث العابرين ويدق أبواب القصور ويتأمل نجوماً تشبه النمش. السرد محكم وقوي، ومتشابك بشكل متناغم ودقيق، والتسلسل يسحرك، كأنه رملُ ثدي يلسع شفة ظمآنة
وكتاب "نساء على أجنحة الحلم" يمثل تشريحاً دقيقاً لعالمٍ تعيش فيه نسبة لا يستهان بها من نساء العرب، وهو عالم مطبوع بسيادة مجتمع ذكوري اختار إقصاء المرأة بوصفها لا تصلح إلا لإرضاء الشبق وإنجاب الأطفال

وفاطمة المرنيسي أستاذة في جامعة محمد الخامس بالرباط، درست العلوم السياسية في جامعة السوربون في فرنسا، ونالت شهادة الدكتوراه. وهي في الوقت نفسه من الجيل الذي عاش عصر الاستقلال وشهد أحلام المغاربة وإحباطاتهم. إنها من جيل النساء اللواتي عشن في عالم فرض حدوداً لرقابة صارمة للمرأة، لكنها كسرت كل تلك الحدود وسافرت إلى فرنسا لاستكمال تعليمها العالي، ولدى عودتها قررت أن تنبش في المحظورات لتعريتها والكشف عن خباياها
درست القرآن الكريم لتدافع عن بينة عن حقوق المرأة وهذا ما قادها إلى تأليف كتاب "الحريم السياسي: النبي والنساء" الذي نشر سنة 1987، وهو الكتاب الذي صادرته الرقابة آنذاك. ولم يكن هذا الكتاب هو الوحيد الذي طالته الرقابة، بل صادرت كذلك أطروحتها المعنونة "الجنس كهندسة اجتماعية"، وكذلك كتاب "الحجاب والنخبة الذكورية"
وعبر صفحات "نساء على أجنحة الحلم"، نطالع تفاصيل مثيرة عن الحريم المغربي في مدينة فاس خلال أربعينيات القرن العشرين من وجهة نظر طفلة في السابعة من عمرها، ونتابع حكايات عن العزل والكبت الذي كان يمارس على النساء. الرجال الذين كان بعضهم يقلد رودولف فالنتينو في الشارع، كانوا يرتدون زي البطريرك في المنزل، حتى تفر الأوردة من قلوب النساء
وبالرغم من ذلك، فإن تلك الفترة شهدت صراعاً في معسكر الحريم بين فريقين: الأول مهموم بفكرة التغيير والتحرر، والثاني رفع راية الاستسلام والاستكانة لواقع المرأة وماضيها
وكما أن النساء كن حبيسات سجن "الحريم"، كان الرجال أيضاً محاصَرين من قبل الجنود الإسبان في شمال المغرب، والفرنسيين في جنوبها: "كان الجنود الإسبان مرابطين شمال مدينة فاس، وحتى أبي وعمي اللذين كانا من أعيان المدينة ويمارسان سلطة لا تناقَش في البيت، كانا مجبَرَين على طلب الإذن من مدريد لحضور موسم مولاي عبدالسلام بالقرب من طنجة على بعد ثلاثمائة كيلومتر من مدينتنا" (ص 10)
يحدث هذا مع أن الحروبَ يصنعها الرجال، ويخوضها الرجال.. أما النساء فنصيبهن هو ارتداء السواد
المفارقة هنا أن الرجل يبدو مشغولاً بحجز النساء في البيت الكبير، لكنه لا يظهر تململاً من وجود الأجنبي المحتل. المرأة وحدها تخترق حاجز الخوف فتعلن المقاومة، في حين تكاد تغيب صورة الرجل في الصراع ضد الأجانب

ومع ذلك، فقد كانت المرأة في نظر كثيرين مجرد عورة يتعين سترها، وخاصرة رخوة للرجل الذي يتولى حمايتها ورعايتها، قبل أن يغرق في النوم مثل إصبع معقوف

وفي البدء كانت الحدود
"يقول أبي بأن الله عندما خلق الأرض وما عليها فصل بين النساء والرجال، وشق بحراً بكامله بين النصارى والمسلمين، ذلك أن النظام والانسجام لا يتحققان إلا إذا احترمت كل فئة حدودها، وكل خرق يؤدي بالضرورة إلى الفوضى والشقاء" (ص 9)

ونتابع في الكتاب رحلة نساء "الحريم" بحثاً عن طريقة تخلّصهن من سجنهن، وتمكّنهن من رؤية العالم عبر نوافذه الواسعة، فهن حين لا يستطعن قهر سلطة "أحمد" حارس باب "الحريم"، يحلّقن بخيالهن ليكتشفن العالَمَ خارج جدران الحريم: "غير أن النساء كن مشغولات باختراق الحدود، مهووسات بالعالم الموجود خارج الأسوار، يتوهمن أنفسهن طيلة النهار متجولات في طرق خيالية" (ص 9)
أيُ نارٍ تضطرم وأي توقٍ يتقد في شبكة عروقنا الحمراء، حتى تصير قطاراً لا نزول منه؟
تريد المرأة أن تكون دُرة، ويختار رجالٌ أن تبقى مجرد صدَفة. هنا يكمن التحدي، فإما أن تتحقق المرأة وتتحرر، وإما أن يتحجر قلبها في صراع المسافات من أجل بيت وزوج
"إن الحدود لا توجد إلا في أذهان الذين يملكون السلطة، ما كان بإمكاني التأكد من ذلك في عين المكان لأن عمي وأبي كان يؤكدان بأن النساء لا يسافرن، فالأسفار خطيرة والنساء عاجزات عن الدفاع عن أنفسهن" (ص 11)
فكرة العجز التي يرددها الرجال، قد تكون مقنعة بما يكفي لكثيرٍ من الضحايا اللاتي يجذبهن مغناطيس الضعف
يحتل المكانُ الجزءَ الأكبر من السيرة، إذ إنها قائمة على وصف مجتمع "الحريم"، ومعاناة المرأة فيه. معاناة تتجلّى في أمور عدّة: أولها، عدد ساكنيه، حيث عاشت فاطمة المرنيسي مع والدها ووالدتها وأخويها، وعمها علي وزوجته وأبنائهما السبعة، وأخت زوجة عمها التي كانت تأتي لزيارتهم من الرباط وتقيم أحياناً ستة أشهر كاملة بعد أن اتّخذ زوجها زوجة ثانية، وجدتها للا مهاني، وعمتها حبيبة. وثانياً: الانضباط والصرامة في ممارسة العادات المتوراثة، كتقبيل يد الجدّة مرتين في اليوم صباحاً ومساء، واحترام التقاليد حتى في أصغر شؤون الحياة: "كان مدخل دارنا حدوداً حقيقية محروسة كتلك التي توجد في عرباوة، وكنا بحاجة إلى إذن للدخول والخروج، كل تحرك كان يستلزم تبريراً، وكان عليك احترام المراسيم كاملة للتوجه نحو المدخل. إذا قدمت من الباحة عليك أن تسير في ممر طويل لتجد نفسك أمام (أحمد) البواب، جالساً على حشيته وكأنه يعتلي عرشاً وصينية الشاي أمامه" (ص 29)
والحارسُ يجعل البيوت والأشجار تختفي على وقع مشيته السريعة

خلال إقامتها في ضيعة جدتها "الياسمين"، تبدأ فاطمة المرنيسي بالموازنة بين "حريم" فاس الذي ولدت وعاشت به، وبين "حريم" الضيعة، فتقول: "حريم الياسمين ضيعة كبيرة مفتوحة دون أسوار، أما حريمنا نحن بفاس فهو أشبه بقلعة" (ص 47)
تقع المظالم على النساء في الأيام الباردة كمقص، تاركة وراءها التفاصيل التي تضع على أحداقِ الزهرة المهملَة دمعاً لا يجف
"عمتي حبيبة التي طلقت وطردت من بيتها دون سبب من طرف زوج كانت تكن له كل الود، تزعم بأن الله بعث بجيوش الشمال ليعاقب الرجال على عدم احترامهم للحدود التي تحمي الضعفاء، والإساءة إلى امرأة تعد تخطياً لحدود الله، ذلك أن الإساءة إلى الضعفاء ظلم، وقد بكت عمتي حبيبة طيلة سنوات" (ص 11)
بعض النساء يتزوجن الغبار
يتدرّج نمو وعي فاطمة تجاه ما يسمى بـ"مجتمع الحريم"، ورفضها له، من خلال علاقتها أولاً، بأمها التي كانت تحمل في داخلها بذور التمرّد على واقعها، وكانت ترفض الخضوع لسلطة "الحريم"، وهو الأمر الذي كان يعرضها لانتقادات للا مهاني الدائمة
كان الهواء يطوف في قميص روحها الثائرة
لم تكن الأم تلتزم بموعد الإفطار الجماعي لساكني "الحريم"، بل تجهّز إفطارها قبيل صلاة الظهر، وبالتالي لم تكن تشارك الجميع في وجبة الغداء. كما أنها كانت تصرّ دائماً على التمتع بحقوقها كاملة، حيث كانت تشغل مساحة من "الحريم" مطابقة للمساحة التي يشغلها أخو زوجها دون مراعاة للفروق في السن وعدد الأولاد والمكانة الاجتماعية للاثنين. ويتضح ذلك أيضاً من خلال وصف فاطمة المرنيسي ليوم ولادتها هي وابن عمها سمير: "ولدت أنا وابن عمي في نفس اليوم، ذات ظهيرة من أيام رمضان الطويلة، رأى النور قبلي في الطابق الثاني وكان سابع أخوته، أما أنا فقد ولدت بعده بساعة في حجرتنا بالطابق السفلي، وكنت بكرة والدتي. ورغم الإعياء الذي كان بادياً عليها عقب الوضع، أصرّت أمي على أن تطلق النساء نفس الزغاريد ويحتفلن بنفس الطريقة التي استقبلن بها سمير، لقد رفضتْ دائماً تفوّق الذكور وعدّته عبثاً وأمراً متناقضاً مع الإسلام والحق، ولذلك كانت لا تفتأ تردد: (لقد خلقنا الله جميعاً متساوين)، فصدحت الدار تلك الظهيرة مرة أخرى بنفس الزغاريد والأغاني حتى اعتقد الجيران بميلاد ذكرين" (ص 16-17)


للا طُهُور، زوجة جدها التازي الوحيدة التي كانت تنتمي إلى عائلة أرستقراطية في فاس "كانت تقول أحياناً بأن المرأة تكون محاصرة في حريم عندما تفقد حرية التحرك، أو أن الحريم مرادف للشقاء لأن المرأة تقتسم فيه زوجها مع أخريات، وفعلاً كان على الياسمين أن تنتظر ثماني ليال كاملة قبل أن تداعب زوجها خلال ليلة واحدة: "ومداعبة الزوج شيء رائع. حسب قولها – إنني سعيدة لأن نساء جيلكن لسن مجبرات على اقتسام أزواجهن" (ص 41)
مع كل صباح، يطارد المتفائلون طائر الأمل، فقط لأن أيام الضباب بلا بريق
"يرى فريق من الكبار بأن الحريم شيء جيد في حين يزعم الآخرون العكس. تنتمي جدتي للا مهاني وأم شامة للا راضية إلى المعسكر المناصر للحريم، أما أمي وشامة وعمتي حبيبة فتنتمين إلى المعسكر المعارض. غالباً ما تبدأ للا مهاني النقاش بقولها بأن المجتمع ما كان ليتقدم أو ينجز عملاً لو لم يفصل بين بين النساء والرجال: "لو كانت للنساء حرية التجول في الأزقة، حسب قولها، لتوقف الرجال عن عملهم لأن اللهو سيستحوذ على تفكيرهم، ولسوء الحظ فإن المجتمع لا ينتج غذاءه وما يحتاج إليه عن طريق اللهو. إذا ما رغبنا في تجنب المجاعة على النساء أن يلزمن مكانهن أي البيت" (ص 48)
كم يكون القلق على وجه التمثال مُـزَيِّفاً
" تذاكرت أنا وسمير حول المقصود "باللهو"، واستخلصنا بأنه يرتبط بالجنس حين ينطبق على الكبار، كنا رغم ذلك نود التأكد فعرضنا الأمر على ابنة عمتنا مليكة التي قالت بأن الحق معنا، سألناها وكلنا آذان صاغية: "وما هو الجنس في رأيك؟"، بطبيعة الحال كنا نعرف الإجابة ونود اختبارها. تخيلت مليكة بأننا نجهل كل شيء ورمت بضفيرتها إلى الوراء وجلست على المضربة ووضعت وسادة على ركبتيها كما يفعل الكبار وقالت ببطء: "في ليلة الزفاف يبقى العريس والعروسة وحيدين في غرفتهما، يدعو العريس العروسة إلى الجلوس على الفراش، تتشابك أيديهما ويحاول أن يجبرها على النظر في عينيه ولكنها تقاوم وتخفض بصرها. إنه أمر بالغ الأهمية، أن تكون العروس جد خجولة ومرتاعة. يقرأ العريس قصيدة وتستمع إليه عيناها لا تبرحان الزبية، وأخيراً تعلو الابتسامة محياها فيقبل جبينها، ويظل بصرها خاشعاً فيقدم لها كأس شاي، تنهله بتأن شديد، يستعيد الكأس منها ويجلس بجانبها ويقبلها على .. على ..". تقرر مليكة، التي تعرف أننا نتحرق شوقاً لمعرفة موضع القبلة السكوت في تلك اللحظة الحاسمة. القبلات على الجبين أو الخد أو اليد اعتيادية أما القبلة على الفم فتلك قصة أخرى!" (ص 48-49)
سيفٌ من شوقٍ أغمدته الراوية في عروق رغبتين خارجتين للتو من شرنقة البراءة
إنه الخيال الذي تحرقنا قبلاته وتخمشنا مخالبه، فلا يشبع جوعه غير اللذة. والجسد عاجٌ شقي كصراخ طفل
وحين تستشعر مليكة الخطر تتابع حديثها بسرعة عن ليلة الزفاف قائلة: "يقبل العريس عروسه على الفم وينامان معاً في فراش حيث لا يراهما أحد". توقفنا عن الأسئلة لأننا كنا نعرف البقية، يتجرد الرجل والمرأة من ثيابهما، يغمضان الأعين وبعدها يغدو لهما طفل" (ص 49)
والأرحام سرير واسع يرتدي ثوب القداسة
لكن السجينة تستفيقُ كل صباح جنيناً منَ الرِّمالِ
"إن الحريم محكوم بفكرة الملكية الخاصة والقوانين التي تسيّرها" (ص 71)
ملكية أشبه برمادٍ هش لسيجارة، أو حطام قاربٍ أنكره البحر حتى يئس من فرص النجاة
"كانت عمتي حبيبة متأكدة بأن كل واحدة منا تملك في داخلها نوعاً من السحر، ينغرس في أكثر أحلامها حميمية: "حين تكونين سجينة دون حماية وراء الأسوار، ومحاصرة في حريم، تحلمين بالانفلات، يكفي أن تعبّري عن ذلك العالم لكي ينفجر السحر وتختفي الحدود. بإمكان الاحلام أن تغير حياتك، كما أن بإمكانها أن تغير العالم في النهاية. التحرر يبدأ حين ترقص الصور في ذهنك الصغير وتسرعين في ترجمتها إلى كلمات، والكلمات لاتكلف شيئاً!". كانت لا تفتأ تردد علينا بأننا جميعاً نملك هذه القوة الداخلية وما علينا إلا التصرف بها
"سأكون قادرة أنا الأخرى على إزالة الحدود" (ص 125-126)
تبدو الحرية، لنساء أسرهن هذا المفهوم، ضرباً من الأحلام المستحيلة، ولهذا يلجأن إلى محاكاة أولئك الذين يتمتعون بها. تقوم بهذا الدور شامة، إذ تعيد عبر التمثيل عالم الحرية الخارجي داخل أسوار بيت الحريم، ومصادرها الكتب الخرافية والسحرية والإذاعة التي يُسترق إليها السمع سراً، حينما يخلو البيت من الرجال. ثمة عرض تمثيلي شبه يومي تتعهده شامة أمام الحريم اللواتي يتماهين بسهولة مع الأحداث والشخصيات التي تقوم بعرضها تمثيلياً، أو بروايتها. والحكاية الأثيرة مستلة من كتاب "ألف ليلة وليلة"، وهي حكاية الجارية بدور وبحثها عن الحبيب الغائب


تُغرم شامة بتقمص دور المغنية أسمهان فتوقد شرارة الأحلام في أفئدة الحريم، إذ تحاكي تنهداتها الحبيسة التي تحمل النساء على أجنحة الأحلام إلى فرسان غائبين إلى الأبد
والموسيقى، فردوس الوضوح، وجنة التعبير عن الشغف أو الحنين
وصوتُ أسمهان يرمي فتنة في قلوب نساء مضطرماتٍ كألسنة اللهب، حتى وإن كن حبيسات برج المخاوف. غناء يقودك ببساطةٍ آسرة إلى أعماق غابةٍ واسعةٍ لا يبلغها فأس
كان صوت أسمهان يصل عبر الأثير إلى الحريم خلسة، فيستدرج نصيبهن من الآهات ويؤجج الرغبات الخفية، فتعلن عن نفسها في جو احتفالي راقص حول نافورة الدار. كانت أغنية "أهوى.. أنا أهوى" تثير رعدة في الأجساد ورغبة في النفوس، وهكذا "فإن الطرب يبلغ بالنساء مداه، وكانت كل منهن تتخلص من خفيها، وترمي بهما، ويرقصن حافيات حول النافورة، الواحدة تلو الأخرى، وهي ترفع قفطانها بيد وتضم إلى صدرها باليد الأخري حبيباً متخيلاً" (ص 144)
غزت أسمهان قلوب الحريم، على النقيض من أم كلثوم التي تترفع عن فضح الضعف الإنساني، وتتخطاه بسهولة تحسد عليها الرقة الأنثوية. وفي مجال المقارنة يبدو تأثير أسمهان أشد وقعاً في نفوس الجيل الثاني والثالث من الحريم. فضلاً عن ذلك، فإن شامة تعرض لأفكار: عائشة التيمورية، وزينب فواز، وهدى شعراوي، وهن رائدات المطالبة بحرية المرأة
أصوات تنشد الحرية المأمولة، وتتطلع إلى عصر لا تكون فيه العاشقة كسيرةً وحيدة
وفي زمن الأحلام، يسطع بهاء السينما، مثل أكوام من الرغبات المدفونة
"في السينما كان الحريم يشغل صفين بكاملهما، وكنا نحجز تذاكر أربعة صفوف حتى يظل الأول والأخير منها خاليين، فلا يكون هناك مجال لمشاهد ذي نوايا سيئة غير محترمة، لئلا يستغل الظلمة ويقرص إحدى السيدات المنصرفات بأكملهن إلى قصة الفيلم" (ص 133)
غير أن البراعم تنمو، لتتفتح وردة المعرفة..والأشواق أيضاً
"كان الكبار يعاملوننا على السطح أنا وسمير كما لو كنا نجهل كل شيء عن الحب والأطفال، ولعلهم كانوا يعتقدون بأننا لا ندري شيئاً عن أهمية الجمال لنيل حب الجنس الآخر" (ص 191)
وفي إحدى جلسات تلقي دروس من للا الطام قالت للأطفال شارحة عن مرحلة البلوغ إن صوت الأطفال الذكور سيغلظ "أما نحن الطفلات فسينمو لنا ثديان حسب تنبؤات للا الطام، وسنحيض مرة في الشهر، "حق الشهر" هذه عبارة عن إسهال دموي عادي لا يسبب ألماً ولا داعي للخوف منه، خلال فترة الحيض علينا أن نضع فوطة بين الفخذين حتى لا يلاحظ أحد شيئاً
"حين عدت إلى البيت طلبتُ من أمي تفاصيل إضافية بشأن هاته الفوطة التي نضعها بين الفخذين أو "الكدوار" حسب تعبير للا الطام. سألتني وكأنها أصيبت بصاعقة: "من حدثك عن "الكدوار؟" كان صوتها المبهم الذي يبدو هادئاً ينذر بالانفجار، ولكنها حين أحست بأنني لن أنبس ببنت شفة إذا ما عنفتني غيّرت طريقتها وغدت تسألني برقة كما لو كانت تحادث امرأة مساوية لها. ويبدو أنها كانت مهتمة بمعرفة هوية الوحش الذي قدم إلي هذه المعلومات المبكرة. دهشت حين عرفت بأنها الفقيهة للا الطام" (ص 204)

وبعد استماعها إلى ما قرأته أمامها شامة من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي عن تأثير البدر في تمامه على الكون، تناجي فاطمة نفسها: "كنت أقول في نفسي بعده: يا إلهي! إذا كان بإمكان القمر أن يفعل كل ذلك، فبإمكانه أيضاً أن يطيل شعري ويبرز ثديي اللذين لازالا ضامرين. لقد لاحظت بأن مليكة غدت منذ فترة وجيزة تحرك كتفيها بطريقة جميلة، وتخطو كالأميرة فريدة قبل طلاقها. لا يمكن أن نطلق على ذلك اسم ثديين، ولكن ليمونتين صغيرتين بارزتين شرعتا في النضج تحت قميصها. أما أنا فما كنت أملك إلا الأمل بأن تتغير الأشياء بالنسبة لي في وقت قريب" (ص 207)
يبدأ التحوّل في حياة فاطمة حين تلتحق بالمدرسة بعد أن تنهي مرحلة التعلّم في الكتاتيب، حيث تبدأ شخصيتها بالتبلور، وتبدأ بلفت انتباه المحيطين بها إلى قدراتها: "لقد حفظت عدة أناشيد وطنية تعلّمناها في المدرسة عن ظهر قلب، وكان أبي فخوراً إلى حدّ أنه كان يطلب مني إنشادها لجدتي (للا مهاني) مرة في الأسبوع على الأقل" (ص 212). كما أخذت تتلمّس أنوثتها قبيل بلوغها، فكانت تعتني بالخلطات الطبيعية لتنعيم بشرتها، وبدأت علاقتها بسمير ابن عمها الذي قضت بصحبته أجمل أيام طفولتها، تتّخذ مساراً آخر أشبه ما يكون بالقطيعة نظراً لأنهما أصبحا بالِغَين
"حدثت القطيعة بيني وبين سمير حين كنت في سن التاسعة، وأعلنت شامة بأنني غدوت ناضجة. لقد فهمت آنذاك بأنني غدوت ناضجة. لقد فهمت آنذاك بأن سمير لا يولي اهتماماً للجمال، حاول أن يقنعني بلا جدوى وصفات الجمال، ومن جهتي حاولت إقناعه بأنه لا فائدة ترجى من إنسان يهمل بشرته؛ لأنها الغلاف الذي نحس من خلاله العالم الخارجي" (ص 233)
"وذات يوم احتد خلافنا فاستدعاني بسرعة إلى السطح، وأخبرني بأنه سيبحث لنفسه عمن يلعب معه إذا اختفيت مرة أخرى للمشاركة في إعداد وصفات الجمال النسائية، لكي ألحق به بعدها ووجهي وشعري مطليان بقناع دسم ذي رائحة كريهة" (ص 233)
"كان عليَّ أن أختار بين اللعب والجمال" (ص 234)
واختارت فاطمة الجمال
"..ركزت بصري على نقطة في الأفق وهمست بصوت لا يكاد يسمع، كنتُ آمل أن يشبه نبرات أسمهان: "يا سمير، إني أعرف أنك لا تستطيع العيش بدوني، ولكني أعتقد بأنه آن الأوان لكي تدرك بأنني غدوت امرأة"، ثم أردفت بعد وقفة قصيرة: "يجب أن نفترق!". لتقليد أسمهان، كان عليَّ أن لا أنظر إلى سمير، رغم رغبتي في سبر أثر كلماتي عليه، قاومت الرغبة وصوّبت بصري إلى الأفق ولكن سمير فاجأني: "لا أظن بأنك أصبحت امرأة، فأنت لم تتجاوزي التاسعة بعد، ثم إنه ليس لك نهود في حين أن كل النساء يملكنها". كانت هذه السبة غير متوقعة فقررت أن أرد بالمثل: "سأتصرف منذ اليوم كامرأة سواء كان لي نهدان أم لا، وسأقضي الوقت اللازم للعناية بجمالي، فلبشرتي وشعري الأسبقية على اللعب، وداعاً سمير، بإمكانك أن تبحث عن رفيقة أخرى تلاعبك" (ص 234-235)
في تلك اللحظة، خرجت الطفلة من فم الشمعة كفراشةٍ تحترق
تتجلى القطيعة بين فاطمة وسمير حين يتم طرد سمير من حمّام النساء
"تتجرد بعض النساء من كل ملابسهن ويدخلن إلى الحمام عرايا، أما البعض الآخر منهن فيضعن إزاراً يحزمنه حول الخصر، في حين تحتفظ المتطرفات بسراويلهن فتبدين كالكائنات الفضائية بعد ابتلال الثوب، الشيء الذي يستثير المزاح والتعليقات الساخرة من نوع: "لم لا تضعين الحجاب؟" (ص 237)
"جاء اليوم الذي طرد فيه سمير من الحمام لأن نظراته غدت "نظرات رجل" (ص 252)
ذات نهار، نصبح أكبر من أن نعود إلى الوراء. ننزع قشرتنا وننطلق في الهواء
"صرخت امرأة فجأة وهي تشير بإصبعها نحو سمير: "من هو هذا الشخص؟ إنه لم يعد طفلاً، صدقوني!" أسرعت شامة وأخبرتها بأن سمير لم يتجاوز بعد التاسعة، ولكنها كانت مصممة على رأيها: "قد يكون سنه أربع سنوات ولكنني أقول لكم بأنه نظر إلى نهدي كما ينظر إليهما زوجي". توقفت كل النساء الجالسات حوالينا عن غسل حنائهن وتابعن الحديث، ثم انفجرن ضاحكات حين أضافت المرأة بأن نظرات سمير "جد إيروسية". فقدت شامة صبرها: "قد يكون سبب نظراته إليك هو غرابة نهديك أو أن نظرات طفل تثيرك، وفي هذه الحالة فرزقك على الله". انفجر الجميع ضاحكين بصخب، وأدرك سمير الذي كان واقفاً وهو عارٍ وسط هؤلاء النساء بأنه يتوفر بدون شك على سلطة غير اعتيادية. ضرب على صدره وأطلق ملاحظة تاريخية غدت مثلاً سائراً في عائلة المرنيسي: "لست نمط المرأة التي أحب، إنني أفضل النساء ذوات القامة الطويلة". لم تعد شامة قادرة على الدفاع عن هذا الأخ الأكبر من سنه، خاصة أنها لم تتمالك نفسها من مشاطرة الأخريات ضحكاتهن التي رددتها أصداء القاعة. إلا أن هذا الحادث كان يعني دون أن ندرك ذلك أنا وسمير نهاية طفولتنا" (ص 252-253)
يدرك الاثنان – فاطمة وسمير- بأنه حُكم عليهما، بعد أن دخلا عالم الكبار، بالانفصال عن بعضهما بعضاً، إذ لا يجوز، حسب الأعراف، أن يستمرا في اللعب معاً، لأنهما مختلفان في الجنس: أصبحا رجلاً وامرأة. وهو ما يوقع الحيرة في قلب فاطمة التي تتساءل: "لمَ لا نستطيع الإفلات من قانون الاختلاف؟ لِمَ لا يتابع النساء والرجال لعبهم بعد أن يصبحوا كباراً؟ لم هذا الفصل؟" (ص 254)، فتجيبها مينة الجارية السودانية التي كانت تعمل كطباخة في "الحريم": "لا يفهم الرجالُ النساءَ ولا النساءُ الرجال. ويبدأ كل شيء حين يفصل بين الطفلات الصغيرات والأطفال الصغار في الحمّام. هناك حدود حقيقية تقسم العالم إلى قسمين، وهي ترسم خطوط السلطة، لأن وجود الحدود أينما كانت، يعني بأن هناك نمطين من البشر على هذه الأرض التي خلقها الله: هناك الأقوياء في جانب، والضعفاء في الجانب الآخر" (ص 254)، فتسأل فاطمة مينة: "كيف لي أن أعرف الجانب الذي أنتمي إليه؟ كان جوابها سريعاً وموجزاً وجد واضح: "إذا لم تتمكني من مغادرة المكان الذي توجدين فيه، ستظلين في جانب الضعفاء" (ص 254)‏
هذه البواخر الجميلة الكبيرة، المتأرجحة فوق مياه ساكنة، الشاعرة بالحنين كأنها متعطلة، ألا تسألنا بلغة صامتة: متى نرحل إلى السعادة؟
تقول العمة حبيبة: "تذكروا بأن لا أحد سيعثر على حل لمشكل، إذا لم يطرح الأسئلة"
ها نحن نلقي الأسئلة في بحر متلاطم الأمواج اسمه المستقبل
ها نحن نمشي، وتحت أقدامنا يُولَد الشارع