فتوات تحت الطلب (2): الحرافيش قادمون
على الرغم من تزايد الجماعات الهامشية وانتشارها، فإنها ظلت لفترات متفاوتة تندرج تحت باب المسكوت عنه
لم يأخذ هذا الملف الساخن حقه من الدراسة والبحث في المؤلفات والدراسات ذات الصبغة التاريخية، على عكس الأدب الذي اتخذ منها مادة حية بخاصة في الكتابة الروائية، مثلما فعل نجيب محفوظ في "الحرافيش" و"أولاد حارتنا" و"حكايات حارتنا" و"دنيا الله" و"الثلاثية". بل إن الأديب الفائز بجائزة نوبل استخدم بعض الحكايات الحقيقية وأدخلها في نصوصه، كما استخدم في ثلاثيته حكاية فتوات الحسينية الذين اشتهروا بأنهم واجهوا الإنجليز. ومن أشهر ما فعله الفتوات أيامها أنهم قاموا بحفر حفرة كبيرة وأسقطوا فيها سيارات الإنجليز، وهي الحادثة التي ذكرها محفوظ في رواية "بين القصرين"، عندما قام بردمها بطل الرواية السيد أحمد عبد الجواد
وينهي محفوظ سيرة عاشور، فتوة روايته الأشهر "ملحمة الحرافيش" والتي تناول فيها سيرة عشرة أجيال من فتوات القاهرة، بالقول: "انتصر عاشور الناجي على فتوات الحارات المجاورة فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل، فحق لها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة". وكان عاشور يسهر في الساحة أمام التكية يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه داعياً: "اللهم صُن لي قوتي وزدني منها، لأجعلها في خدمة عبادك الصالحين"لم يأخذ هذا الملف الساخن حقه من الدراسة والبحث في المؤلفات والدراسات ذات الصبغة التاريخية، على عكس الأدب الذي اتخذ منها مادة حية بخاصة في الكتابة الروائية، مثلما فعل نجيب محفوظ في "الحرافيش" و"أولاد حارتنا" و"حكايات حارتنا" و"دنيا الله" و"الثلاثية". بل إن الأديب الفائز بجائزة نوبل استخدم بعض الحكايات الحقيقية وأدخلها في نصوصه، كما استخدم في ثلاثيته حكاية فتوات الحسينية الذين اشتهروا بأنهم واجهوا الإنجليز. ومن أشهر ما فعله الفتوات أيامها أنهم قاموا بحفر حفرة كبيرة وأسقطوا فيها سيارات الإنجليز، وهي الحادثة التي ذكرها محفوظ في رواية "بين القصرين"، عندما قام بردمها بطل الرواية السيد أحمد عبد الجواد
وفي "ملحمة الحرافيش" ساوى عاشور الناجي بين الوجهاء والحرافيش، وفرض على الأعيان إتاوات ثقيلة. وحتَّم عاشور على الحرافيش أمرين: أن يتدربوا على الفتوة حتى لا تتراجع قوتهم يوماً فيتسلط عليهم وغدٌ أو مغامر، وأن يعتاش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات. وبدأ عاشور بنفسه، فعمل على بيع الفاكهة، وأقام في شقة صغيرة مع أمه، وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأقصى درجات النقاء
ودخل الفتوة السينما أيضاً، بفضل محفوظ، من خلال العديد من الأفلام، مثل "فتوات الحسينية" و"الفتوة" (1957، إخراج صلاح أبو سيف) و"الحرافيش" (1986، إخراج حسام الدين مصطفى) و"التوت والنبوت" (1986، إخراج نيازي مصطفى) ومسلسل تليفزيوني بعنوان "السيرة العاشورية" (2002، إخراج وائل عبد الله)
في كتابه "الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الاجتماعي الحديث" (مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، القاهرة، 2003)، يسعى الباحث الدكتور سيد عشماوي إلى تقصي الجذور التاريخية لنشأة هذه الجماعات في مصر كمحصلة لظروف وأوضاع مجتمعية سياسية واقتصادية واجتماعية بخاصة في الفترة منذ أواخر العصر المملوكي وحتى البدايات الأولى لعصر محمد علي، كاشفاً طبيعة الدور الذي قامت به، وتمردها وصراعها مع الواقع ونمط العلاقات السائد في المجتمع آنذاك، كما يرصد ويحلل مسارات هذه الجماعات وبخاصة النشالين والبلطجية وشذاذ الآفاق وقطاع الطرق، وأثر ذلك على مكانة السلطة الحاكمة ونسق تماسكها في المجتمع
صاحبت نشأة حركة هذه الجماعات مجموعة من المصطلحات والمفاهيم والدلالات. من هذه المصطلحات التي كانت تطلق على هذه الجماعات: الغوغاء، النهابة، الحثالة، الهباشة، الجراد، الفلاكة، المناشير، العيارون، العياق، الفتوات، الخلابص، الأوغاش، الفلاتية، الحرافيش، العصبجية، وغيرها
وعلى رغم تباين هذه المصطلحات أحياناً، فإنها عكست الموقف الفكري المحدد تجاه هذه الجماعات وأطلقت عليهم لتوصيف أفعالهم ومواقفهم المتدنية المتمردة. كما أن هذه المصطلحات عكست تصورات الفئات العليا في السلم الاجتماعي عن هذه الجماعات ولتشويه الحركية الاجتماعية والسياسية لهم، وتسليط الضوء عليهم كجماعات هامشية منبوذة اجتماعيا، تحترف السرقة والنهب والسلب والبلطجة وتتمرد على القانون والأعراف
هذه الظواهر بدأت تنتشر بشكل لافت في مصر أواخر العصر المملوكي، وحتى البدايات الأولى لبناء دولة محمد علي الذي استطاع أن يقضي على هذه الظاهرة أو على الأقل حد منها بقوة القانون وعنف الدولة. وازدهر نمو الجماعات الهامشية مع الانهيار التدريجي لنظام الطوائف الحرفية الشهيرة والذي كان لها دورٌ مؤثر في تحديث الدولة والعمران، أو في دعم النظام الاقتصادي الاجتماعي الموجود آنذاك في مصر. وقد أدى تآكل نظام الطوائف إلى نمو وتكاثر جماعات هامشية رصدها الكثير من المؤرخين وبخاصة الجبرتي وإدوارد لين، وتجاوز مجموع هؤلاء الأفراد في القاهرة وحدها مليوني شخص. وقد كان لهذه الجماعات دورٌ سياسي من حيث انحيازها للعوام في مقابل جبروت السلطة وقهرها، وقد انضمت إلى بقايا المماليك والعوام في محاربة الأتراك خاصة حرب العصابات التي دارت بعد هزيمة الجيش المملوكي في موقعة "الريدانية"
ومع تعدي طوائف العسكر بعد ذلك وازدياد المظالم وملاحقة الناس بالدعاوى الكاذبة، انضمت بعض جحافل هذه الجماعات الهامشية الفقيرة إلى انتفاضات العوام وأصحاب الحرف والطلاب والعلماء. وكان لدورهم أثر كبير في رفع الكثير من المظالم عن كاهل الشعب، كما كانت شعاراتهم في هذه الانتفاضات تحمل بعداً سياسياً واجتماعياً واضحاً، ومنها على سبيل المثال "شرع الله بينا وبين الباشا الظالم"، و"يارب يا متجلي أهلِك العثملي"
هؤلاء الهامشيون لعبوا أدواراً متناقضة في المجتمع، فتارة كانوا يقومون بانتفاضاتٍ بحثاً عن الرزق والمال، وتارة أخرى يرتكبون أعمال بلطجة وعنف لحساب الحكام الذين كانوا أيضاً يستعينون بهم في حالة تعرض البلاد لهجمات من الخارج، مثلما حدث مع طومان بأي زمن الفتح العثماني لمصر، حيث استعان بهم في الحرب ضد العثمانيين، ما جعلهم موضع تنكيلهم بعد دخولهم
وللعيارين والشطار والعياق دور آخر مهم قاموا به ضد السلاطين والأمراء يتناقض مع وقوفهم معهم في مواجهة الغزوات الخارجية، فقد كانوا يتضامنون في لحمة ونسيج واحد مع العامة والطلاب والعلماء في انتفاضاتهم التي يقومون بها ضد الولاة عندما تكون هناك مطالب معينة لهم. وقد كانوا يلجؤون في وقت المجاعات إلى عمليات نهب واسعة للبيوت، ما كان يؤدي إلى قلاقل لا تختلف كثيراً عن القلاقل التي كانوا يسببونها للملوك عندما يواجهونهم في الأسواق وتنطلق ألسنتهم في حقهم
كل هذا وغيره له دلالة واضحة في أن هذه الجماعات لم تكن تتحرك إلا بناء على ظرف ما، وكان هذا الظرف هو الذي يملي عليهم ويحدد طبيعة ما يقومون به، فلم يكونوا إلا باحثين عن مصادر للرزق، وطالبين للقمة عيش. وهذا ما يفسر دخول بعضهم إلى مجال التصوف، وكان منهم رموزهم التي ما زلنا نتذكرها حتى الآن مثل الشيخ صالح بن حديد والزجال الحكيم الناقد والمصلح ابن عروس، صاحب الكتابات التي نددت بمرتكبي المظالم ووقفت إلى جانب الفقراء والمظلومين
تجدر الإشارة إلى أن الشرطة المصرية في ثلاثينيات وأربعينات القرن العشرين حين أرادت التخلص من الفتوات، ولم يكن بإمكانها فعل ذلك، لجأت إلى الحيلة، والمؤامرة، فكانت توغر صدور بعض الفتوات على بعضهم البعض، فتحدث معركة تنتهي بسقوط فتوة، وهكذا تخلصت الشرطة من الفتوات. ولعل أشهر تلك المعارك هي التي وقعت في ميدان "الخمس فوانيس" بالاسكندرية حتى بدأت الشرطة تتحمل مسؤوليتها، بعمل أقسام شرطة. في بداية الأمر كانت الشرطة تلجأ للفتوات عند حاجتها إلى القبض على أحد اللصوص، إذا كان مختبئاً في حاراتهم، أو بأن يقوموا بتسليط أتباعهم للقبض عليه. وقد قام الفتوات بضرب بعضهم البعض حتى قضوا على أنفسهم من دون أن تتدخل الشرطة
0 comments:
Post a Comment